×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / العقيدة / تجريد التوحيد المفيد / الدرس (15) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:299

الدرس (15) من شرح كتاب تجريد التوحيد المفيد للمقريزي

الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله؛ لكنها على غير متابعة الأمر، كجهّال العبّاد والمنتسبين إلى الزهد والفقر، وكل من عبد الله على غير مراده.

والشأن ليس في عبادة الله فقط؛ بل في عبادة الله كما أراد الله. ومنهم من يمكث في خلوته تاركاً للجمعة، ويرى ذلك قربةً ويرى مواصلة صوم النهار في الليل قربة، وأن صيام يوم الفطر قربة وأمثال ذلك.

[الشرح]

هؤلاء عندهم إخلاص ، يعني لهم قصد في التقرب إلى الله تعالى، فلا يقصدون بالعمل سواه جل وعلا، لكنهم قصدوا على غير وجهة بأن سلكوا طرقا لا توصل إلى الله تعالى وسبلا خارجة عن سبل الهدى وسبل السلام التي جاء بها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، (من هو مخلص في أعماله) من حيث القصد (لكنها على غير متابعة الأمر)، ثم قال: (كجهّال العباد والمنتسبين إلى الزهد والفقر وكل من عبد الله على غير مراده.) يعني على غير ما طلبه منه شرعا، فالمراد هنا المقصود الإرادة الشرعية التي بينها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

يقول: (والشأن ليس في عبادة الله فقط) الأمر والمهم ليس في عبادة الله فقط (بل في عبادة الله كما أراد الله.) فإن الله تعالى بعث الرسل بأمرين:

الأمر الأول: ألا يعبدوا إلا إياه.

والأمر الثاني: أن يعبدوه بما شرع، أي بما جاءت به الرسل.

فمن خرج عن هاتين القاعدتين، فقد انخرم ما طلب الله تعالى منه، ولم يتحقق له نيل مرضاة الله جل وعلا، ولذلك الشهادة التي يدخل بها الإنسان دائرة الإسلام هي: أشهد أن لا إلـٰه إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. الأولى فيها أن لا يعبد إلا الله تعالى، والشهادة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها أن لا يعبد إلا بما شرع الله تعالى عن طريق هـٰذا الرسول الذي بلغ الناس ما شرعه الله لهم وأمرهم به.

قال رحمه الله: (ومنهم) هـٰذا تمثيل لهؤلاء، (ومنهم من يمكث في خلوته تاركاً للجمعة) والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين))،[مسلم: كتاب الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة، حديث رقم (865).] ثم قال: (ويرى ذلك قربةً) يعني يتقرب إلى الله بمخالفة شرعه (ويرى مواصلة صوم النهاربالليل قربة) ويخالف ما نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنه من المواصلة (وأن صيام يوم الفطر قربة) ويخالف ما نهى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صوم يوم الفطر (وأمثال ذلك) هؤلاء لهم قصد وليس لهم صواب في العمل، ولا متابعة للسنة، فلهم بصيب وافر من قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ((من أحدث في أمرنا هـٰذا ما ليس منه فهو رد)).[البخاري: كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، حديث رقم (2697).مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، حديث رقم (1718).]

ثم يقول المؤلف رحمه الله:

[المتن]

الضرب الرابع: من أعماله على متابعة الأمر، لكنها لغير الله تعالى كطاعات المرائين، وكالرجل يقاتل رياء وسمعة وحمية وشجاعة وللمغنم، ويحج ليقال، ويقرأ ليقال، ويعلم ويُعَلِّم ليقال، فهٰذه أعمال صالحة لكنها غير مقبولة؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء[سورة: البينة، الآية (5).]

فلم يُؤمر الناس إلا بالعبادة على المتابعة والإخلاص فيها والقائم بهما هم أهل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.

[الشرح]

يقول رحمه الله في ذكر أصناف الناس في تحقيق العبودية والاستعانة بالله جل وعلا: (الضرب الرابع) وهـٰذا الصنف هو الصنف الرابع، انتهينا من الصنف الثالث، تكلمنا عليه.

الضرب الرابع: من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله تعالى) هـٰذا يقوم بما وجب عليه من الأوامر ويجتنب ما نهي عنه من النواهي، لكنها أعمال في الصورة مجردة عن الروح وعن الإخلاص لله تعالى فليس فيها إخلاص هي وفق الأمر، لكنها مجردة عن حسن القصد فليس فيها قصد الله تعالى، قال رحمه الله: (كطاعات المرائين) الذين يعملون ليراهم الناس، فالمرائي هو الذي يعمل ليُرى، المرائي هو كل من عمل ليرى قال : (وكالرجل يقاتل رياء وسمعة وحمية وشجاعة وللمغنم) هؤلاء كلهم لم يكونوا مخلصين لله تعالى، إنما عملوا الأعمال الصالحة لمقاصد مختلفة:

فمنهم من يقاتل رياء ليرى.

ومنهم من يقاتل ليسمع به وأنه مقاتل وأنه شجاع.

ومنهم يقاتل (حمية) أي عصبية لقومه أو لمن يقاتل معهم ، (وشجاعة)أي أنه يقاتل لشجاعته وإقدامه وفزعته لكنه لا لله تعالى، (وللمغنم) أي ليحصل مكسبا دنيويا وهي المغانم التي يدركها ويحصلها من يحصلها من المقاتلين قال: (ويحج ليقال) ويحج ليقال حاج، (ويقرأ) أي العلم، أو القرآن ليقال، أي قارئ (ويعلم ويُعَلِّم ليقال) يعلم أي يطلب العلم، ويعلم أي يعلمه غيره ليقال إنه معلم أو ليقال أو إنه متعلم، (فهٰذه أعمال صالحة) كلها أعمال صالحة لا شك لأنها مما أمر الله تعالى به ورسوله، لكنها أعمال صالحة في ظاهرها وأما في حقيقتها وجوهرها فهي خالية من الصلاح؛ لأنها قصدت لغير الله تعالى، وكان المقصود فيها غيره جل وعلا، ولذلك قال رحمه الله: (لكنها غير مقبولة) فلا تقع موقع الرضا من رب العالمين لأنها على خلاف أمر الله وأمر رسوله، فإن الله تعالى إنما أمر بالعمل أن يكون خالصا لوجهه، قال المؤلف رحمه الله في بيان سبب عدم قبولها قال:﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَوما أمروا: أي لم يؤمروا بشيء إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، مخلصين له الدين أي مخلصين له العمل، وإخلاص العمل يكون بأي شيء، يكون بأن يُقصد وحده جل وعلا، وأن لا يقصد سواه بل ليس للعبد غرض في عمله إلا الله جل وعلا.

وأدلة عدم قبول هـٰذا النوع من العمل كثيرة في الكتاب والسنة، منها ما ذكر المؤلف رحمه الله، ومن السنة ما في صحيح الإمام مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-  قال : قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه))[ مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، حديث رقم (2985).] بمعنى أنه غير مقبول، تركته وشركه أي ترك هـٰذا العمل فلم ينظر إليه ولم يقبله ولم يثب عليه، هـٰذا معنى الترك، الترك يترتب عليه أمور، عدم الإثابة، عدم القبول، كل هـٰذا مما يدخل في قوله: ((تركته وشركه))هـٰذا من حيث حصول المقصود بالعمل، المقصود بالعمل هو قبول الله تعالى وهو الإثابة على الأعمال، فهـٰذا فاته المقصدان لما لم يكن علمه خالصا لله تعالى.

هل يترتّب عليه وزر، أو مؤاخذة؟ الجواب نعم، ويدلّ لذلك ما في صحيح الإمام مسلم من حديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يقول سليمان: تفرق الناس عن أبي هريرة -لعله كان في درس أو في مسجد، اجتمع عليه الناس فتفرقوا- فقال له نافل أهل الشام وهو من التابعين المعروفين حدثني حديثا سمعته من رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحدثه بالحديث المشهور الطويل الذي فيه خبر ثلاثة من الناس هم أول من يقضى عليهم يوم القيامة، أو يقضى فيهم يوم القيامة قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد، وهـٰذا معناه أنه فيما يظهر للناس مات مقتولا في سبيل الله، مات في المعركة فأتي به، يؤتى به إلى الله تعالى فيعرفه نعمه وما من عليه من القوة والصحة والقدرة في البدن وما إلى ذلك من سائر النعم، فيقول له جل وعلا: فما عملت فيها؟ يعني أي شيء عملت في هـٰذه النعم فيقول: قاتلت فيك حتى استشهدت، فيقول الله جل وعلا: كذبت ولكنك قاتلت ليقال جريء، وقد قيل. فيؤمر به فيسحب فيلقى في النار، نعوذ بالله من الخذلان، يسحب على وجهه حتى يلقى في النار. هـٰذا من أعلى منه! ومن أكبر منه؟! ومن أعظم فداء منه؟! رجل قدم روحه ونفسه لله فيما يظهر للناس؛ لكنه لم يكن خالصا لله جل وعلا إنما قصد رياء أو سمعة أو مغنمًا أو شجاعة أو حمية، فيقال له في هـٰذا الحديث يقول له الله جل وعلا: إنما قاتلت ليقال جريء مقدام وشجاع، وقد قيل، حصلت ما تريد في الدنيا، فيؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار، وهـٰذا فيه أن عدم الإخلاص ليس فيه فوات الأجر والقبول، إنما فيه الوزر والمؤاخذة؛ لأنه قد عمل لغير الله تعالى، ظهرت صورته عند من يراه أنه يريد الله ورسوله، يريد الله تعالى والدار الآخرة، والأمر على خلاف ذلك، ثاني من ذكره أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في حديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أول الناس يقضى عليه الرجل الذي تعلم العلم فتعلم العلم وقرأ القرآن وعلمه فيؤتى به فيعرفه نعمه فيقول: فما عملت فيها؟ مما أعطاه من الوقت الصحة والفهم والحفظ ما يتمكن به من سائر المعلومات، فيقال: فما عملت فيها فيقول: تعلمت العلم وقرأت القرآن وعلمته فيك. فيقول الله تعالى: إنما تعلمت وعلمت وقرأت ليقال لك قارئ، وقد قيل.

 فيؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار.

 وثالث هؤلاء هو الرجل الذي وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فيؤتى به فيعرفه نعمه، فيقول: ما عملت فيها، فيقول: تصدقت وأنفقت في سبيلك، فيقول الله تعالى: إنما تصدقت ليقال كريم وقد قيل أو يقال جواد وقد قيل، فيؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار نعوذ بالله من الخذلان.

إذن هـٰذان الحديثان يبينان أن من عمل العمل لغير الله تعالى وقصد غير وجه الله جل وعلا في عمله فهو على سوأتين:

السوءة الأولى: بوار العمل وعدم قبوله، وأنه يذهب هباء منثورا، ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23)[سورة : الفرقان الآية (23).    ]

الثاني: أنه يؤاخذ بهـٰذا العمل، وهـٰذا العمل لا يكون نجاة له إنما يكون هلاكا له، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ[سورة: النساء الآية (145).   ] ، وهـٰذا لماذا ؟ لكونهم أظهروا خلاف ما أبطنوه من الكفر بالله تعالى، والتكذيب لرسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

هـٰذه أضرب الناس وأنواع العمال في هـٰذه الدنيا:

منهم من يريد الله والدار الآخرة ويوفق إلى الصواب في العمل، فيتابع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

ومنهم من يتخلى عن الأمرين.

ومنهم من يكون عنده إخلاص، وليس عنده متابعة.

ومنهم من يكون عنده متابعة وموافقة للأمر؛ لكن ليس عنده إخلاص.

أرداهم وأشدهم سواء هم أولئك الذين تجردوا عن الإخلاص والعمل، يليهم من أظهروا الطاعة وتخلف فيهم الإخلاص، ثم بعد ذلك الذين أخلصوا ولم يكن لهم عمل موافق للسنة، وأعلى المراتب وأشرفها وأزكاها هم أولئك الذين حققوا المتابعة والإخلاص، قال رحمه: (فلم يُؤمر الناس إلا بالعبادة على المتابعة والإخلاص) المتابعة يعني للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والإخلاص يعني الإخلاص لله تعالى (والإخلاص فيها والقائم بهما)، أي بالمتابعة والإخلاص (هم أهل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هم المحققون لهـٰذه الآية، نسأل الله جل وعلا أن نكون منهم.

ثم قال المؤلف رحمه الله:

[المتن]

ثم أهل مقام ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ لهمفي أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربعة طرق، وهم في ذلك أربعة أصناف:

الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقّها على النّفوس وأصعبها، قالوا: لأنه أبعد الأشياء من هواها، وهو حقيقة التعبّد، والأجر على قدْر المشقة، ورووا حديثا ليس له أصل((أفضل الأعمال أحمزها))،[قال المزي : هو من غرائب الأحاديث، ولم يرو في شيء من الكتب الستة، كذا في ((المقاصد الحسنة)) (138)، وقال الزرقاني في ((مختصره)) (ص63): لا يعرف. قلت: وهو قول الزركشي كما في ((المصنوع)) (ص57)، ونقل فيه عن ابن القيم قوله في الحديث: لا أصل له.]أي أصعبها[وكذا قال ابن الأثير في النهاية (1/440).]وأشقّها، وهؤلاء هم أرباب المجاهَدات والجور على النّفوس، قالوا: وإنما تستقيم النّفوس بذلك، إذْ طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الراحة، فلا تستقيم النفوس بذلك إلا بركوب الأهوال وتحمّل المشاق.

[الشرح]

هـٰذا التقسيم الذي بدأه المؤلف -رحمه الله- هو بيان أحوال المشتغلين بالعبادة، يعني الذين عندهم تعبد، عندهم متابعة وعندهم إخلاص في أعمالهم، ولهم إقبال على السنة وعلى الصدق مع الله تعالى، هؤلاء ما هي طرائقهم في العمل، ما هي أفضل الأعمال بالنسبة لهـٰذا الصنف، هؤلاء العمال على درجات ومراتب، لهم أحوال، ولهم أقوال في أي الأعمال أفضل وفي أيها أرفع وأعظمها أجرا يقول: (ثم أهل مقام ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ) المحققون للعبادة (لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربعة طرق) يعني أربعة سبل ومناهج، يقول رحمه الله: (وهم في ذلك أربعة أصناف:

الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقّها على النّفوس وأصعبها) إذن هؤلاء رأوا أن أفضل العمل ما كان شاقا على النفس، ما كان صعبا، ما كانت النفس تنفر منه نفرة واضحة، وهو ما لا يلائم الطبع؛ لأن النفس تنفر مما لا يلائم الطبع، ما يلائم الطبع ويوافق الطبع هـٰذا لا تنفر منه النفس، مع أنه قد يؤجر عليه حتى ولو كان يوافق النفس، مثاله: إتيان الشهوة، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قال: ((وفي بضع أحدكم صدقة))، قالوا: يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، فقال: ((أرأيتم إن وضعها في حرام))[مسلم: كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، حديث رقم (1006).] فهـٰذا مما يؤجر عليه الإنسان، وهو يوافق الطبع؛ لكن ليس هـٰذا أفضل العمل؛ لأن أفضل العمل عند أصحاب هـٰذا الرأي هو ما كان مخالفا منافرا للطبيعة، يقول رحمه الله: (الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها أشقّها على النّفوس وأصعبها) لماذا؟ عللوا هـٰذا القول بتعليلات، ( قالوا: لأنه أبعد الأشياء من هواها) هـٰذا تعليل، لأنه مقابل للهوى، والهوى إذا تخلص منه الإنسان وتجرد، وكان أبعد عنه كان ذلك أحظ له في تحقيق العبودية لله تعالى، ولذلك قال: (وهو حقيقة التعبّد) يعني حقيقة التعبد الخروج عن مقتضى الهوى، قال: (والأجر على قدْر المشقة)، الأجر على قدر المشقة.

إذن عندنا تعليلان:

تعليل أول: أبعد الأشياء عن الهوى.

الثاني: أن الأجر على قدر المشقة.

فعللوا بهذين التعليلين، قال: (ورووا حديثا) أي ذكروا حديثا، استدلوا به، (ليس له أصل ((أفضل الأعمال أحمزها))) ، معنى (ليس له أصل)، أي ليس له إسناد واضح وبيّن، لأن الأصل ما يبنى عليه غيره، والأحاديث تبنى على الأسانيد، فإذا لم يكن له إسناد قيل: إنه لا أصل له. إذا قالوا: لا أصل له يعني ليس له إسناد يبنى عليه، (ليس له أصل ((أفضل الأعمال أحمزها))،)، يعني أشدها وأشقها، ولذلك قال: (أي أصعبها وأشقها) هـٰذا معنى أحمزها، إذن ليس لهم دليل من الأثر، إنما دليلهم الآن الذي سلم، أو الذي اتضح هو استدلالهم بالمشقة في قولهم، (أبعد الأشياء من هواها) (والأجر على قدْر المشقة)، فاستدلوا بهاذين التعليلين، قال: (وهؤلاء هم أرباب المجاهَدات والجور على النّفوس، قالوا: وإنما تستقيم النّفوس بذلك، إذْ طبعها) هـٰذا كالتعليل الثالث، النفوس تميل إلى الكسل والقعود عن الطاعة والميل إلى المعصية، فيكون هـٰذا العمل الذي هو أشق على النفس أنفع، لأنه يحمل النفس على الخروج عما ألفت وما تهوى وما تحب هـٰذا كالترجمة أو كالتفصيل لقوله: (أبعد الأشياء من هواها) ويمكن أن يكون وجها مستقلا (وإنما تستقيم النّفوس بذلك، إذْ طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الراحة، فلا تستقيم النفوس بذلك إلا بركوب الأهوال وتحمّل المشاق.) هـٰذا هو الصنف الأول.

طبعا هـٰذا الذي ذكر ليس بسليم وما استدلوا به ليس بصحيح، فإن أفضل الأعمال ما كان موافقا لأمر الله وأمر رسوله، وأما المشقة فالمشقة ليست مقصودة لذاتها، قوله: (والأجر على قدْر المشقة) ليس بصحيح، الأجر على قدر المشقة، لا يعني أنه يشرع للإنسان أن يقصد الأشق حتى يحصل الأجر الأكبر، فإنّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما،[البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (3560).مسلم: كتاب الفضائل، باب مباعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للآثام واختياره من المباح أسهله..، حديث رقم (2327).]، ثم إن الشريعة بناؤها على أي شيء: على المشقة والحرج والضيق، أو على اليسر والسماحة والسهولة؟ لا شك أن بناءها على اليسر،  ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[سورة : الحج، الآية (78).] ، ﴿يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[سورة: البقرة، الآية (185).]،فالشريعة بناؤها على اليسر؛ لكن من التكاليف ما فيه مشقة، من الطاعات ما فيه صعوبة، ففي هـٰذه الحال يكون ما حصل من المشقة أعظم في الأجر، لا لأنه قصد الشاق، لكن لأن طبيعة العبادة شاقة، وطبيعة التكليف شاقة.

فمثلا الصوم في اليوم الصائف الشديد، هـٰذا مما يعظم به الأجر؛ لكن هل نقول: إذا صمت فاخرج إلى الشمس واجلس في أماكن العطش حتى يعظم أجرك؛ لأن الأجر على قدر المشقة، فرق بين هـٰذا وذاك، أبو إسرائيل لما نذر أن يقوم في الشمس ولا يجلس، قال له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((مروه فليجلس))لأنه ليس من مقصود الشريعة أن يتعرض الإنسان لما فيه مشقة وعنت، إنما المقصود الشرعي من العمل هو أن يكون على وفق أمر الله ورسوله في المنشط والمكره، فإذا كان في الأمر مشقة تتعلق بطبيعة العمل فإنه يؤجر على ما حصل له من مشقة؛ لكن لم يأمر الله ولم يأمر رسوله بأن نقصد المشقة حتى تعظم أجورنا، فقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الصحيحين في حديث عائشة: ((أجرك على قدر نفقتك ونصبك))[البخاري: كتاب العمرة، باب أجر العمرة على قدر النصب، حديث رقم (1787).مسلم: كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام...، حديث رقم (1211).] أي تعبك، هل هـٰذا يعني أنك تسرف في الإنفاق حتى يعظم أجرك في العبادة، هل هـٰذا يعني أنك تسرف في تكلف المشاق حتى يعظم أجرك؟ لا، بل إن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ((كلوا واشربوا وتصدقوا من غير سرف ولا مخيلة))[سنن النسائي: كتاب الزكاة، باب الاختيال في الصدقة، حديث رقم (2559).سنن ابن ماجه: كتاب اللباس، باب البس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة، حديث رقم (3605).قال الشيخ الألباني: حسن.] فأمر بالصدقة وجعل الصدقة مقيدة بأن لا يسرف فيها الإنسان بأن ينفق ما لا يستطيع، أو ينفق ما يلحقه فيه مضرة في النفقة.

إذن ليس قول المؤلف -رحمه الله- في سياق الاستدلال لهـٰذا الصنف (والأجر على قدْر المشقة) هـٰذا ليس على إطلاقه، إنما هـٰذا محمول على أي شيء؟ إذا كانت طبيعة العمل شاقة، إذا كنت طبيعة التكليف شاقة، فإن الأجر يعظم على قدر ما يلحق الإنسان من المشقة.

أما تقصّد المشقة هل هو مشروع؟ ليس مشروعا والدليل على هـٰذا ما يذكر من الأدلة التي تقدّمت، والأدلة غير ما تقدم مما يدل على يسر الشريعة وسماحتها.

[المتن]

الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات وأنفعها التجرد والزهد في الدنيا والتقلّل منها غاية الإمكان واطّراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث لما هو منها.

ثم هؤلاء قسمان:

فعوامُّهم ظنّوا أن هٰذا غاية، فشمَّروا إليه وعملوا عليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة، ورأوا الزّهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها.

وخوّاصهم رأوا هٰذا مقصوداً لغيره، وأن المقصود به عكوف القلب على الله تعالى، والاستغراق في محبته والإنابة إليه والتوكّل عليه والاشتغال بمرضاته، فرأوا أفضل العبادات دوام ذكره بالقلب واللسان، ثم هؤلاء قسمان:

 فالعارفون إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فَرَّقهم وأذهب جمعيّتهم.

والمنحرفون منهم يقولون: المقصود من القلب جَمعِيّتُه، فإذا جاء ما يُفَرِّقُه عن الله لم يلتفتوا إليه ويقولون:

يُطالب بالأوراد من كان غافلاً               فكيف بقلب كل أوقاته وِرد

ثم هؤلاء أيضا قسمان:

منهم من يترك الواجبات والفرائض لجمعيَّته.

ومنهم من يقول بها ويترك السنن والنوافل ويعلم العلم النافع لجمعيَّته.

والحق أن الجمعية حظ القلب، وإجابة داعي الله حق الرّب، فمن آثر حق نفسه على حق ربّه فليس من العبادة في شيءٍ.

[الشرح]

يقول: (الصنف الثاني)، هـٰذه تقسيمات بعضها مندرج تحت بعض، يقول رحمه الله: (الثاني: قالوا: أفضل العبادات وأنفعها التجرد والزهد في الدنيا والتقلل منها غاية الإمكان واطّراح الاهتمام بها، وعدم الاكتراث لما هو منها) يعني ملخص الكلام هو التجرد والزهد عن الدنيا، الزهد في الدنيا هو أفضل العبادات، هـٰذا هو الصنف الثاني من المشتغلين بالعبادة من السالكين إياك نعبد، (ثم هؤلاء قسمان:)

قسم جعلوا صورة الزهد موجودة وهم العوام.

وقسم نفذوا إلى مقصود الزهد، الزهد في ذاته وهو التقلّل من الدنيا ليس مقصودا لذاته، ليس المقصود أن تكون قليل ذات اليد من الدنيا، تلبس الخشن من الثياب تظهر بالمظهر الرث غير المكترث بالدنيا وقلبك متعلق بها، العوام يقول عنهم: (ظنوا أن هٰذا غاية) أي هـٰذا مقصود، وهو الزهد في الدنيا، بأن يظهر في صورة المتقلل منها، ظنوا أن هـٰذا غاية هو النهاية هو المقصود (فشمَّروا إليه وعملوا عليه، وقالوا: هو أفضل من درجة العلم والعبادة، ورأوا الزهد في الدنيا غاية كل عبادة ورأسها) فهؤلاء جعلوا الزهد هو الغاية والمنتهى الذي يسعى إليه، مع أن الحقيقة أن الزهد ليس غاية في ذاته إنما هو وسيلة، لأن الزهد مقصوده أن يتجرد القلب عن كل صارف عن الله تعالى، فلو كان الإنسان قلبه ممتلأ بمحبة الله، وفي يده الدنيا كلها كان أفضل من الذي في يده شيء وقلبه قد مال إليها وركن إليها.

سليمان آتاه الله ملكا لم يؤته أحدا بعده، ولم يؤته أحدا من الناس، مع ذلك كان في غاية العبودية لله -جل وعلا- فهو من الصفوة من الرسل والأنبياء المصطفين صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء.

(وخوّاصهم رأوا هٰذا مقصوداً لغيره) يعني أصحاب هـٰذا الصنف قسمان:

عوام، جعلوا الزهد في ذاته مقصودا.

ومنهم من جعله غاية، ووسيلة لغيره، (وأن المقصود به عكوف القلب على الله)، عكوف القلب ما معناه؟ أي لزوم القلب ما يحبه الله، العكوف هنا بمعنى الملازمة ومنه الاعتكاف وهو لزوم المساجد، قال: (عكوف القلب على الله تعالى) وهو دوام ذكره والالتزام به -جل وعلا- وملازمة ما يأمر به ، قال: (والاستغراق في محبته والإنابة إليه والتوكل عليه والاشتغال بمرضاته، فرأوا أفضل العبادات دوام ذكره بالقلب واللسان).

ثم قال -رحمه الله-: (ثم هؤلاء قسمان:

 فالعارفون إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فَرَّقهم وأذهب جمعيتهم.) المشتغلون بهـٰذا النوع من التنسّك والزهد والعبد والتقلل من الدنيا يجدون لذّة لا يجدها غيرهم، لكن هـٰذه اللذة قد يعارضها أمر الله ورسوله، فمثلا: يرى أن دوام ذكره يجتمع قلبه على ربه جل وعلا، فإذا دخل في مقام يحتاج إلى أمر ونهي أمر بمعروف ونهي عن منكر، يرى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يفرق جمعيته، يشوش قلبه بسبب ما يرد عليه من أذى الناس أو ما يرد عليه من مجادلات، فهنا يأتي هؤلاء وينقسمون إلى قسمين هـٰذا الصنف من الناس، وهم من يرون الزهد وسيلة إلى غيره، وأنه المقصود هو عكوف القلب على الله تعالى قسمان:

قسم منهم (إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه ولو فَرَّقهم وأذهب جمعيتهم) يعني ولو ترتب عليه تشويش للقلب.

وقسم لا أهم ما عنده هو أن يكون قلبه مجتمعا على ذكر الله ومحبته ولو أفضى هـٰذا وأدى إلى ترك ما أمر الله به ورسوله، ومثال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واضح، يعني شخص الآن جالس في المسجد يقرأ ويسبح ويهلل رأى منكرا، إذا اشتغل بإنكار المنكر سينشغل أو لا؟ مهما كان قلبه سينصرف عما هو فيه إلى أمر أو نهي قد يترتب عليه مجادلة، قد يترتب عليه محاجة، قد يترتب عليه أذى وهـٰذا سيفرقه عما لو كان منعزلا في مكان يسبح ويذكر الله تعالى، لا شك أن الجمعية التي هي بمعنى اجتماع القلب على محبة الله وذكره وعبادته، فمن الناس من هؤلاء وهم (العارفون إذا جاء الأمر والنهي بادروا إليه، أي سابقوا إليه وقاموا به ولو فرقهم)، يعني ولو كان ذلك يفضي إلى انقطاع هـٰذه اللذة التي يجدونها في قلوبهم من الأُنس بالله والإقبال على ذكره وعبادته، قال: (وأذهب جمعيتهم).

وأما (المنحرفون) عن الصراط المستقيم فهم الذين (يقولون: المقصود من القلب جمعيته فإذا جاء ما يفرقه عن الله لم يلتفتوا إليه) ولو كان في ذلك إيش؟، لو كان في ذلك تضيع أمر الله وأمر رسوله (ويقولون:

يُطالب بالأوراد من كان غافلاً               فكيف بقلب كل أوقاته وِرد)

فيقولون: إذا كان القلب مجتمع على الله فما حاجة خالص ولو كان ذلك يؤدي إلى ضياع ما أمر الله به ورسوله.

يقول: (ثم هؤلاء أيضا قسمان:) يعني هؤلاء المنحرفون، في انحرافهم على درجتين:

الدرجة الأولى: (من يترك الواجبات والفرائض لجمعيَّته) وهؤلاء غلاة الصوفية، الذين يفضي بهم الأمر إلى إسقاط الأمر والنهي؛ إسقاط الشريعة لأجل أن قلبه مجتمع على الله، وتجدهم في الصوامع وفي الأديرة وفي الخلوات وفي رؤوس الجبال، تجد أحدهم لا يغتسل ولا يصلي ولا يقيم فرضا، يقول: أنا قلبي مجتمع على الله تعالى، الذهاب إلى الجماعات حضور الجمع، القيام بما أمر الله تعالى به من الواجبات، يفرق قلبي، والمقصود هو جمعية القلب، فكيفما حصلت جمعية القلب كان ذلك هو المقصود.

القسم الثاني (من يقوم بها) يقوم بالواجبات؛ لكن يترك السنن والنوافل وتعلم العلم النافع لأجل أن يجتمع قلبه على هـٰذا الذكر، وهـٰذه الأوجدة التي يجدها قلبه بتفرّغه عن سائر ما أمره الله تعالى به ورسوله.

قال: (والحق أن الجمعية) المؤلف يقول: إن هؤلاء حقيقةً ما عبدوا الله إنما عبدوا أهواءهم؛ لأن الجمعية وهي اللذة التي يدركها الإنسان بالتفرغ عن الناس والاشتغال بنفسه وترك ما أمر الله به ورسوله هـٰذه الجمعية (حظ القلب)أي نصيبه، (وإجابة داعي الله حق الرّب)، والواجب أن يقدم العبد حظ النفس أو حق الرب؟ الواجب أن يقدم حق الرب ولو كان في ذلك تفريقه، (فمن آثر حق نفسه على حق ربه فليس من العبادة في شيء) لأنّه إنّما اتبع هواه وسلك شهوة نفسه، ولم يقم بما أمر الله به، نحن إخواني قد لا نتصور هـٰذا، كيف يكون هـٰذا القلب مجتمع على الله ويكون على هـٰذه الحال، لكن من عرف الطرق الصوفية والضلالات البدعية يرى هـٰذا ويشهده في أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم، يرى تخلف الأمر والنهي في مقابل أنّ القلب يجتمع، وأن المقصود هو صلاح القلب، ولو كان صلاح القلب بمخالفة أمر الله ورسوله، واعلم أنه لا يمكن أن يصلح القلب صلاحا تاما إلا بامتثال أمر الله ورسوله فإنه الصلاح، ولو كان في الظاهر أن غيره هو الذي يصلح به قلب العبد.

 [المتن]

الصنف الثالث: رأوا أنّ أفضل العبادات ما كان فيه نفع متعدٍّ، فرأوه أفضل من النفع القاصر، فرأوا خدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالجاه والمال والنفع أفضل لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:((الخلق عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله)).[قال الشيخ علي حسن: رواه البزار (1949)، والقضاعي (1306) عن أنس. وفيه يوسف بن عطية: متروك، وأخرجه الطبراني في ((الكبير)) (1033) وأبو نعيم في ((الحلية)) (2/102 و4/237)، والخطيب في ((تاريخه)) (6/336) عن ابن مسعود، وفيه موسى بن عمير: متروك، وانظر ((فتاوى النووي)) (122)، و((فيض القدير))، (3/503)، و((كشف الخفاء)) (1/380).] قالوا: وعمل العابد قاصر على نفسه، وعمل النَّافع متعدٍّ إلى الغير، فأين أحدهما من الآخر؟، ولهٰذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.[سنن أبي داوود: كتاب العلم، باب الحث على طلب العلم، حديث رقم (3641).سنن الترمذي: كتاب العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، حديث رقم (2682).سنن ابن ماجه، المقدمة، باب في فضل تعلم القرآن ووتعليمه، حديث رقم (223). قال الشيخ الألباني: صحيح.قال الشيخ علي حسن: حديث حسن.].

[الشرح]

فالمؤلف رحمه الله في سياق بيان أفضل مراتب العبودية وأعلاها وذكر أنهم أربعة طرق، الناس في أفضل العبادات وأفضل الطاعات أربع طرق.

الطريق الأول: طريق من عنده أن أفضل العبادات أشقها.

والثاني: طريق من غلّب جانب الزهد والتجرد من الدنيا والتقلل منها.

الطريق الثالث: من رأى أن أفضل العبادات (ما كان فيه نفع متعدٍّ) العبادات من حيث منفعتها تنقسم إلى قسمين -أي من حيث آثارها وثمارها تنقسم إلى قسمين-:

عبادات يكون النفع فيها عائدا إلى العامل.

وأخرى يكون النفع فيها عائدا على العامل وعلى غيره، على العامل أجرا ومثوبة وعلى غيره تحصيلا لمصلحة أو دفعا لمفسدة.

يقول -رحمه الله-: (الصنف الثالث: رأوا أنّ أفضل العبادات ما كان فيه نفع متعدٍّ) أي غلّبوا جانب العبادات التي يصل نفعها إلى الغير، كتعليم العلم والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدقات وسائر الأعمال التي يكون المنتفع فيها طرف خارج عن الذات.

أما القسم الأول مثل الصلاة، ومثل الصوم ومثل الذكر باللسان والقلب فإن هـٰذا ينتفع به العالم في نفسه، وأما غيره فإنه لا يجني من هـٰذه العبادة فائدة مباشرة، لا يجني من هـٰذه العبادة فائدة مباشرة.

يقول رحمه الله :( فرأوه أفضل من النفع القاصر) كالصلاة مثلا، (فرأوا خدمة الفقراء والاشتغال بمصالح الناس وقضاء حوائجهم ومساعدتهم بالجاه والمال والنفع أفضل) أفضل من العبادات التي يكون نفعها قاصرا طبعا، هـٰذا كله بعد الفراغ من الواجبات كما نبهنا في أول البحث، الكلام فيما زاد عن الواجب من العبادات.

يقول رحمه الله: (لقوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ((الخلق عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله)).) ، هـٰذا الحديث جاء من طرق عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولكنها طرق ضعيفة لا يصح منها شيء، فالحديث ضعيف من حيث الأسانيد فليس له طريق مستقيم، وأما من حيث المعنى، فالمعنى ليس مشكلا، فبعض الناس يستشكل يقول: كيف عيال الله؟ والله تعالى ليس له صاحبة ولا ولد، نقول: عيال هنا ليس المقصود بهم الأولاد إنما المقصود من يعولهم الإنسان أو من يعولهم الشخص فقوله: (الخلق عيال الله) أي أن الله تعالى قائم بحوائجهم ، عائل لهم، فلو لم يقم بهم ويقم بمصالحهم لهلكوا، وهـٰذا من معاني اسمه جل وعلا الصمد وهو من معاني قول الله تعالى: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ،[سورة: الرعد، الآية (33).] فالعيال هنا المفتقرين، المحتاجين الذين لا تقوم مصالحهم إلا بالله تعالى، فالخلق كلهم محتاجون إلى الله تعالى، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)[سورة: فاطر، الآية (15).] هـٰذا معنى قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هـٰذا الحديث ((الخلق عيال الله، وأحبّهم إلى الله أنفعهم لعياله))لكن لما كان غالب استعمال الناس للعيال أنهم الأولاد أصبحت هـٰذه الكلمة يتبادر إليها أن المراد بالحديث الأولاد وهـٰذا ليس بصحيح، هـٰذا ليس مرادا، وهـٰذا المعنى إنما هو معنى اصطلاحي عرفي ضيق اصطلح عليه بعض الناس، وإلا فاللغة أوسع من هـٰذا وأشمل، ويدخل في العيال كل من يعولهم الإنسان من والد وولد وزوجة؛ بل حتى إذا كان لهم بهيمة الأنعام يعولهم فهي من عياله، وكذلك إذا كان يعول أسرا ويقوم عليهم فهم من عياله، ولو لم يتصل بهم نسب أو يتصل بهم قربة.

طيب: (قالوا: وعمل العابد قاصر على نفسه) هـٰذه في الموازنة بين العمل المتعدي والعمل اللازم.

قال: (وعمل النَّفَّاع متعدٍّ إلى الغير، فأين أحدهما من الآخر؟، ولهٰذا كان فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.) ،ثم ذكر المؤلف رحمه الله الاستدلالات التي استدلوا بها على أن لعمل المتعدي أفضل من العمل اللازم يقول رحمه الله:

[المتن]                  

وقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعلي:((لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمْر النعم))،[البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناس إلىٰ الإسلام والنبوة..، حديث رقم (2942).مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، حديث رقم (2406).] وقال:((من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجر من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً))،[مسلم: كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلىٰ هدى أو ضلالة، حديث رقم (2674).] وقال:((إن الله وملائكته يصلون على معلمي الخير))[سنن الترمذي: كتاب العلم، باب ما جاء في فضل النفقة على العبادة، حديث رقم (2685).

قال الشيخ الألباني: صحيح. وقال الشيخ علي حسن: سنده محتمل التحسين.]، وقال:((إن العالم يستغفر له من في السمٰوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها))[تقدم تخريجه في الصفحة (14). عن أبي الدرداء.]، قالوا: وصاحب العبادة إذا مات انقطع عمله، وصاحب النفع لا ينقطع عمله مادام نفعه الذي تسبّب فيه.

والأنبياء عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ إنما بعثوا بالإحسان إلى الخلق وهدايتهم ونفعهم في معاشهم ومعادهم، لم يبعثوا بالخلوات والانقطاع، ولهٰذا أنكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على أولئك النفر الذين هموا بالانقطاع والتعبّد وترك مخالطة الناس،[ البخاري: كتاب كتاب النكاح، باب الترغيب في الكاح، حديث رقم (5063). مسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النماح لمن تاقت نفسه إليه.. ، حديث رقم (1401).] ورأى هؤلاء أن التفرق لنفع الخلق أفضل من الجمعية على الله بدون ذلك، قالوا:ومن ذلك العلم والتعليم ونحو هٰذه الأمور الفاضلة.

[الشرح]

المؤلف رحمه الله ذكر في أول ما ذكر قول هـٰذا الصنفوهو تقديم العمل المتعدي على العمل القاصر، وذكر لذلك ثلاثة أوجه استدلوا بها.

 

الوجه الأول : هو ما ذكرناه قبل قليل، أن العمل المتعدي نفعه يصل إلى الغير، والعمل القاصر لا ينتفع به إلا الإنسان نفسه، وفرق بين ما كانت فيه دائرة النفي متسعة وبين ما كانت في دائرة النفي فيه ضيقة لا تتجاوز الإنسان نفسه، واستدل لذلك بأوجه، أول ما ذكر فضل العالم على العابد، فالعالم إنما فضل العالم بكون ما يحمله من حفظ للشريعة وتبليغ لدين الله تعالى وقيام بدلالة الخلق على الله تعالى وهـٰذا كله متعد، وأما العابد فيشتغل بصلاة وذكر وعبادة وصيام ولكن هـٰذا لا يتجاوز فيه العباد نفسه يقول رحمه الله: (وقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الاستدلال لهـٰذا الوجه،( وقد قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعلي:((لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حُمْر النعم))،) أي الإبل الحمر، النعم: هي الإبل، والحمر هنا: لونها، جمع أحمر وذكر لهـٰذا الصنف من المال لأنه أنفس أموال العرب في زمن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فأنفس أموال العرب هو هـٰذا الصنف من المال، ولذلك ذكره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين أن الاشتغال بهداية الخلق وحصول هـٰذه الهداية في رجل واحد أعظم نفعا للإنسان من ملك ما في الدنيا من حمر النعم.

الاكثر مشاهدة

3. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات91572 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات87261 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف