الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير.
أحمده سبحانه حق حمده لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين رب العالمين، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، رحمةٌ بعثها الله تعالى وأهداها للناس أجمعين، فصلى الله وعليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فحياكم الله أيها الإخوة الكرام! ومرحباً بكم أيها الحضور من الرجال والنساء، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحط عنا السيئات، وأن يغفر لنا الزلات، وأن يجعلنا من عباده المتقين وحزبه المفلحين وأوليائه الصالحين، وأن ينضمنا في سلكه عباده التوابين إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
أيها الأحباب! أيها الإخوة الكرام! أيتها الأخوات الكريمات! أستغفر الله كلمة تتردد على ألسنتنا، أستغفر الله كلمة كثيراً ما تطرق أسماعنا، أستغفر الله كلمة ترتاح لها القلوب، وتطمئن لها الأفئدة، أستغفر الله كلمة يقولها أولياء الله وعباده المتقون، ويقولها عباد الله الذين أسرفوا على أنفسهم بألوان الخطايا وصنوف الذنوب.
إنها كلمة عجيبة، كلمة ذات سرٍ لذلك كان الجميع مأمورين بهذه الكلمة، فما من أحد إلا وقد أمره الله تعالى بالاستغفار، إنها كلمة عذبة المنطق، كلمة مختصرة الألفاظ، كلمةٌ عظيمة المدلول كبيرة المعاني، فهلا وقفنا مع هذه الكلمة وقفات نستجلي فيها شيئاً مما تضمنته هذه الكلمة، وقفة نضع فيها شيئاً من النقاط على بعض الحروف حتى ندرك عظيم ما منَّ الله تعالى علينا به من هذا الشرع الكريم الذي لا يصدق عليه إلا وصف رب العالمين: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:107].
إن هذا الدين رحمة بجميع ما فيه من الأحكام والشرائع من العقائد والأعمال، إنه رحمة للقلوب ورحمةٌ للعباد، رحمةٌ لمن وافق وقبل، ورحمةٌ لمن رفض وأبى فهو رحمةٌ للعالمين، كما قال رب العالمين جل وعلا.
أيها الإخوة والأخوات! إن هذه الكلمة كلمة (أستغفر الله) هي عنوان الرسالات، فما من نبيٍ بعثه الله تعالى من لدن نوح عليه السلام إلى خاتمهم محمدٍ خير الأنام صلى الله عليه وسلم إلا وقد أمره الله تعالى أن يدعو قومه إلى الاستغفار.
فنوحٌ عليه السلام قال الله جل وعلا في بيان ما قال لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا﴾[نوح:10].
وقال جل وعلا فيما يخبر عن نوح: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾[هود:3].
وكذلك هود أعلنها فقال لقومه: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾[هود:90].
وقد جاء في قول صالح حيث قال لقومه: ﴿فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ﴾[هود:61].
وهكذا شعيب قال لقومه: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾[هود:90] فيه الإغراء للناس أن يقبلوا على هذا الرب بالتوبة والاستغفار والاستعتاب، والاسترضاء لعلهم يتخففون مما أثقل كواهلهم.
رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى له: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾[محمد:19].
إن الله يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وقد حط عنه الذنوب والخطايا، وعصمه من كثير مما يقع فيه الناس من الهفوات والزلات، يقول له رب السموات والأرض آمراً: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ وهذا شعار التوحيد: إنه إفراد الله بالإلهية، لا محبة فوق محبة الله، ولا تعظيم فوق تعظيم الله، فإنه الإله الحق جل وعلا.
ثم بعد ذلك قال في أمره لرسوله: (واستغفر الله) فأمره بالتوحيد وأثنى على ذلك وثنى بعد ذلك بأمره بالاستغفار.
إن الاستغفار أمرٌ كبير الشأن، عظيم المقام، فلماذا أمر الله تعالى بالاستغفار هؤلاء؟! إننا بحاجة للاستغفار، لأننا أهل الإساءة والتقصير، فما من ذنب إلا والعباد قد تهوكوا فيه، ووقعوا فيه بألوان الذنوب وأنواعها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون».
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر فيما يرويه الإمام مسلم في الحديث الإلهي وهو أشرف حديث عند أهل الشام: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم».
إنها دعوة من رب يبين حالنا ويبين عظيم فضله، إنكم تخطئون بالليل والنهار، فلا ينقطع خطأ ابن آدم، لا ينقطع خطأه ولا زلله، ولكننا مع رب عظيم يغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم.
وفي الصحيح من حديث أبي موسى الأشعر رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل».
إنه باب مفتوح، ومَنٌ متوالي لا يحصره وقت ولا زمن: إنه باب الرجوع والأوبة والاستغفار، ليس بينك وبينه حائل، ولا بينك وبينه حاجز إنها دعوةٌ في كل مقام وفي كل حال أن تعود إلى الله جل وعلا.
بكيت على الذنوب لعظم جرمي *** وحق لمن عصى مرُ البكـاء
فــــلو أن البكاء يرد همي *** لأسعدت الدموع مع الدماء
لكننا نؤمل فضلاً كبيراً وخيراً عظيماً من رب يعطي على القليل الكثير، يقبل توبة التائب، فهو غافر الذنب وقابل التوب سبحانه لا نحصي ثناءً عليه.
إننا أحبابي بحاجة إلى الذنوب لأننا نكثر من الزلل والخطأ، ونكثر من الهفوات والتقصير فيما فرض الله تعالى وفيما أمرنا أن نفعله وفيما نهانا عنه أن نأتيه.
إننا بحاجة للاستغفار؛ لأنه السبيل الذي به نتخفف من حملٍ ثقيل قد لا يشعر به الإنسان في دنياه، لكنه يدرك عظيم الثقل الذي تحمله يوم يقوم لرب العالمين، يقوم هل معه جاهه؟ هل معه ماله؟ هل معه خوله وحرسه ومن يكون معه ممن يحرسه ويؤازره ويعينه؟ إنه يقوم كما قال رسولكم الكريم صلى الله عليه وسلم: «يقوم الناس لرب العالمين حفاةً» فلا شيء يقيء أقدامهم.
«عراةً» فلا شيء يقي أبدانهم.
«غرلاً» قد كمل خلقهم غير مختونين يقومون لله جل وعلا على هذه الحال يوم الفزع الأكبر، يوم يجتمع الخلق في ذلك الموقف، ما الذي معك؟ معك عملك، فإنك تنظر أيمن منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك يعني: جهة شمالك، فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أمامك فلا ترى إلا النار، ما الذي يفكك منها؟ إنه عملك الذي قال الله جل وعلا: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا﴾[الإسراء:13] * ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾[الإسراء:14].
لو لم تحاسب وأنزلت الحساب على نفسك لكان ذلك كافياً، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وذلك في يوم يقوم الأشهاد لرب العالمين، فيشهد عليك ما يكون من أعضائك التي من خلالها عصيت الله تعالى وخالفت أمره.
إننا بحاجة إلى الاستغفار، لأن ترك الاستغفار ينضمنا يا أحبابي! في زمرة الظالمين، ومن ذا الذي يرضى أن يكون ظالماً أو يقبل أن يوصف بالظلم، بل الظالم يكره هذا الوصف، ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[الحجرات:11].
أتحب أن تكون من زمرة الظالمين؟ لا والله، ليس هناك من يحب هذا، فإذا كنت لا تحب أن تكون من الظالمين، فالجأ إلى الله تعالى صادقاً بالتوبة والاستغفار، فإن الاستغفار باب التوبة منه تدخل هذه الروضة، وتصيب هذه الدوحة التي بها فضلٌ وخيرٌ كبير.
إننا بحاجة إلى الاستغفار! لأن من لم يستغفر فهو خاسر، من لم يتب فهو خاسر، والخسارة وصف تكرهه النفوس في أمر الدين وفي أمر الدنيا، ولذلك يقول ربكم جل وعلا في الدعاء الأول الذي قاله أبونا آدم عليه السلام تلقاه من رب العالمين لما هفا وأخطأ وغوى فأكل من الشجرة التي منعه الله تعالى منها، يقول الله جل وعلا معلماً أبانا ومعلماً سائر الخلق: ﴿قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[الأعراف:23].
نحن بحاجة إلى الاستغفار؛ لأن من لم يستغفر خاسر، فإن الله تعالى قد بين أن من لم ينل هذا الفضل، وهو المغفرة من رب عظيم فهو من الخاسرين.
وقد قال نوح عليه السلام: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[هود:47].
إن حرمان المغفرة أعظم الخسارة، لأن معناه: أن تحاسب على الدقيق والجليل، تحاسب على النقير والقطمير تحاسب على كل هفوة وزلة، ومن ذا الذي يقوم لحق رب العالمين، إن العبد لو كان على أكمل ما يكون من الطاعة والإحسان، وعلى أتم ما يطلب من الخير والصلاح.
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى **** فأول مـــا يجني عليه اجتهاده
إذا لم يكن من الله رحمة ومغفرة فإنه لا ينفعك ذلك العمل مهما كان صالحاً ومهما كان متقناً، لا ينفعه إذا لم تكن في رحمة الله مشمول.
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «واعلموا أن أحداً منكم لن يدخل الجنة بعمله» الله أكبر. قالوا: ولا أنت يا رسول الله! يعني: نحن فهمنا هذا في حقنا لكن أنت أعبد الناس لربك، وأقومهم بطاعة الله تعالى. قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» فما أحوجنا إلى رحمة الله!
إننا بحاجة كنا طائعين أو مقصرين بحاجة إلى أن نستغفر الله تعالى، لأنه من حرم الاستغفار، وحرم المغفرة، فإنه ل ينفعه كبير عمل، لأنه يفوته رحمة رب العالمين التي بها تعظم الدرجات، وتعتلي الحسنات، وترتفع المقامات، فإنه إذا لم يكن من الله رحمة ولم يكن منه مغفرة تبدلت تلك الحسنات، وتلاشت تلك الخيرات، وسجل على الإنسان ما يكون من دقيق وجلي.
أيها الأحباب! إننا بحاجة إلى الاستغفار، إننا بحاجة إلى الاستغفار نحن في الطاعة ونحن في المعصية، لأن الاستغفار أمان يدرك به الإنسان فوزاً عظيماً وشعوراً كبيراً من الطمأنينة والراحة، يقول الله جل وعلا: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾[الأنفال:33] هذا أمان من رب العالمين، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾[الأنفال:33].
إن الله تعالى ذكر أمانين في هذه الآية:
الأمان الأول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بين أظهر المؤمنين وأظهر الناس في ذلك الزمن، ذهب هذا الأمان.
وبقي أمان ثانٍ، وهو ما ذكره الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾[الأنفال:33]، فهو أمان في الدنيا من حلول العقوبات، فإذا استغفر العباد نالوا فوزاً عظيماً وخيراً كبيراً من رب يعطي على القليل الكثير، يغفر الزلات ويقيل العثرات، ويغفر الذنوب والخطيئات.
إن الاستغفار كما هو أمان في الدنيا فهو أيضاً أمان في الآخرة.
إن المؤمن يدرسك باستغفاره أماناً من أعظم المخوفات: إنها النار التي وعدها الله تعالى من عصاه وخالف أمره.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين كيف يكون الاستغفار سبباً للنجاة من النار، فيقول عليه أفضل الصلاة والسلام: «يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار» إن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الخطاب للنساء، وليس هذا قصراً للحكم عليهن، بل إنه بيان لحاجة هذا الجنس لكثرة الاستغفار، والرجال لهم حاجة ماسة شديدة للاستغفار والمشاركة في هذا الخير.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لما يخاطب النساء بأمر لا يعني أن الرجال في معزلٍ منه إلا ما دل الدليل على أنه خاص بهن، وكذلك إذا وجه الخطاب للرجال فإن النساء يدخلن، فالرجال والنساء شقائق النساء شقائق الرجال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار» وذلك يبين أن من أعظم أسباب النجاة من النار أن يكثر الإنسان من الاستغفار قائماً وقاعداً وعلى جنب، في كل أحواله، وبه يحصل له من الأمان في الدنيا والانشراح والطمأنينة في الآخرة، والفوز والنجاة من النار ما لا يخطر له على بال.
أحبابي! إن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان لا ينطق عن الهوى، الذي كان يقوم حتى تتورم قدماه يبين لنا أثر الاستغفار عليه، فيقول: «إنه ليغان على قلبي» يعني: يصيب قلبي طبقة من الغين، ما سبب هذه الطبقة؟ إنه بسبب نوع من التصرفات البشرية التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الطبقة كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالجها، والغين: أرق الطبقات التي تعلو القلب كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعالج هذه الطبقة التي تعلو القلب فتصيبه بشيء من الاضطراب، تحول بينه وبين الخيرات، تحول بينه وبين الاستقامة، تحول بينه وبين اللذة والانشراح التام بالإقبال على الله تعالى، كيف كان يعالجها؟
قال صلى الله عليه وسلم: «وإني لأستغفر الله مائة مرة».
إذاً: الاستغفار علاج للقلب إذا وجدت من قلبك قسوة، إذا وجدت من قلبك غفلة، إذا وجدت من قلبك إعراضاً، إذا وجدت من قلبك شروداً، إذا وجدت من قلبك إقبالاً على الدنيا وضعفاً في الآخرة، فأكثر من الاستغفار، فإن نبيك صلى الله عليه وسلم كان يعالج قلبه بالاستغفار.
وبهذا يدرك المؤمن فوزاً عظيماً وسبقاً كبيراً يا إخوان! إن الاستغفار بابٌ عظيمٌ من أبواب معالجة القلوب، كثير من الناس تصيب قلبه ألوان من الآفات، وأنواع من الأمراض، ثم هو في غفلة عن قلبه، والقلب إذا غفلت عنه توالت عليه المصائب، وتوالت عليه الأغطية التي تحول بينه وبين الهداية.
ولذلك لابد أن نفتش عن قلوبنا، يعني: يظن الظان أنه إذا ترك واجباً أو فعل منكراً أن هذا لا يؤثر، وأنه فقط محصور في الوقت الذي فعله فيه ثم بعد ذلك يطلع ويخرج سليم من القضية! لا والله! إن كل سيئة تؤثر على القلب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً» يعني: كما ينظم الحصير الذي يجلس عليه، كذلك الخطايا والذنوب والمعاصي تكون غلافاً على القلب، هذا الغلاف إذا لم تعالجه بالتوبة والاستغفار تقوى حتى يكون طبعاً أو غلقاً أو غلافاً يحول بينك وبين الهداية، والله تعالى يقول: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾[الأنفال:24]، وهذه فيها تهديد، وكما أن فيها وجوب الرجوع إلى الله تعالى واللجوء إليه أن يصلح قلبك صادقاً، وأن تأخذ بالأسباب الشرعية التي من خلالها يستقيم القلب، ويصلح الفؤاد.
يا إخواني! نحن نعيش نوعاً من الفراغ القلبي لا نتلذذ بالطاعة، نصلي ولا نجد لها لذة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» بعد أن ذكر أنواع من ملاذ الدنيا جعل الصلاة هي قراره وهي سكون نفسه واستقامة قلبه، وصلاح فؤاده لماذا؟ إنه يتذوق ما فيها من المعاني، إنه يقبل على الله تعالى قائماً وقاعداً، مقبلاً على الله بقلبه قبل أن يقبل عليه بقالبه، ولذلك كان لا يبالي بما يصيب بدنه من العناء وهو قائم لله بحقه، ولذلك لما قيل له: لما تورمت قدماه صلى الله عليه وسلم من القيام قيل له في ذلك كيف تفعل هذا وأنت قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبداً شكوراً».
إن الشأن في أن نتلذذ بالعبادة، وهذه اللذة يحرمها كثير من الناس، ما سبب هذا الحرمان؟ أنه في غفلة عن تأثير هذه العبادة في قلبه.
النبي صلى الله عليه وسلم بل النصوص الشرعية في القرآن والسنة تذكر في أول ما تذكر أثر العبادة على القلب، يقول الله تعالى في الصوم الذي نحن فيه الآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾[البقرة:183] قبل التفصيل والبيان للأحكام وتفصيل الفرض يقول: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ذكر للغاية والعلة، نحن في غفلة عن تحقيق الغاية والمقصود.
ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
إذاً هناك معاني نحن نغفل عنها في عبادتنا في صلاتنا في زكاتنا في حجنا في صيامنا في سائر شؤوننا، نقتصر على الصور والصور لا تغني شيئاً إذا غفل القلب وأبعد عن الله تعالى.
إذاً يا أحبابي! ويا إخواني! من المهم أن ندرك أن الاستغفار هو علاج القلوب، فإذا وجدت من قلبك قسوة، إذا وجدت من قلبك صلفاً، إذا وجدت من قلبك غلظاً، إذا وجدت من قلبك علواً على الحق وبعداً عنه فعالجه وأدرك نفسك قبل أن يتمكن الداء في القلب، وإن العلاج يكون بكثرة الاستغفار بكثرة الأوبة بكثرة التوبة إلى الله تعالى.
النبي صلى الله عليه وسلم يحسب له في المجلس الواحد سبعين استغفار، يقول ابن عمر: كنا نحسب له نعد له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة: رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم.
إن الاستغفار هو إعلان افتقار لله تعالى يعلن العبد أنه برئ من حوله وقوته، وأنه إلى ربه فقير، وأنه إليه جل وعلا في غاية الضرورة، وإذا أعلن العبد هذه الحال فاز فوزاً كبيراً وسبق سبقاً عظيماً، وإذا استكبر ورأى أنه ليس في حاجة إلى ربه، حيل بينه وبين ما يشتهي من الخيرات.
ولذلك عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من رجالات قريش عبد الله بن جدعان وهو من أصحاب الخير والنفقة ونصرة المظلوم، قالت: يا رسول الله! أرأيت عبد الله بن جدعان أينفعه ما كان يعمل به من إغاثة ومن عمل ومن صلاح؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه من أهل النار، إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
الله أكبر! ما أعلن افتقاره إلى الله تعالى مع كثرة ما معه من الخير، لكنه ما أعلن افتقاره إلى الله تعالى: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين، إننا بحاجة إلى هذا الإعلان، بحاجة إلى هذا الرجوع وإعلان الافتقار إلى رب العالمين، فإنه من أعظم أسباب المغفرة.
«يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم».
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في بيان عظيم فضل الله وكبير مغفرته لمن أقبل عليه يقول ربنا جل وعلا: «يا ابن آدم! إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا» تصور شخص يوم القيامة يأتي بملء الأرض قراب يعني: قريب الملء على قولين لأهل العلم، المقصود أنه بخطايا عظيمة كثيرة: «لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم استغفرتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي».
إذاً المفتاح الذي تستمطر به خير ربك وفضله وإنعامه: أن تلجأ إلى الله تعالى صادقاً، أن تقبل عليه مستغفراً نائباً تائباً، فإن ربك قد طمعك في فضله وأغراك في إحسانه فأخبرك بأنه جل وعلا واسع المغفرة، إن ربك واسع المغفرة، وهذه السعة لا يقف عندها ذنب ولا يحول بينها وبين الحصول خطأ إلا الشرك فإن الشرك لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾[الزمر:53].
وفي الآية الأخرى قال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:48]، ربنا ينادينا والنداء ليس لأهل الطاعة والإحسان إنه لمن أسرف على نفسه: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾[الزمر:53] تأمل هذا النداء! ومن منا من لم يسرف على نفسه؟! إن الذي يقول: إنني على خير ولم أسرف على نفسي فقد اغتر بعمله كلنا مسرف على نفسه، كلنا مررنا بجهل، كلنا مررنا بخطأ، كلنا مررنا بزلل، كلنا محاط بذنب نسأل الله أن يعاملنا بعفوه، وأن يغفر لنا ما ظهر وما بطن إنه ولي ذلك والقادر عليه.
يقول ربنا: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ أي: لا تيأسوا من رحمة الله ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ الذنوب: الألف واللام هنا للاستغراق تشمل كل الذنوب صغيرها وكبيرها دقيقها وجليلها، خافيها وظاهرها لكن يجب أن يكون هناك الاستغفار.
﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ غفورٌ فيغفر السيئات ويتجاوز عن الخطايا ويسترها ورحيم يوصل إليك كل فضل وكل بر وإحسان.
إننا يا إخوان! في سيئات وخطايا ينبغي أن نقر بأننا أهل الإساءة والتقصير، والخطايا والسيئات سلاسل يأخذ بعضها برقاب بعض، فإذا تركت هذه السلاسل مضت واستمرت، لكنك إذا قطعت هذه السلسلة بالرجوع إلى الله تعالى فزت فوزاً عظيماً.
المغفرة هل هي أمر نقبل عليه بتلكؤ؟ لا، إن المغفرة تحتاج إلى مسارعة، ولذلك يقول ربنا جل وعلا: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ﴾[آل عمران:133].
إذاً المغفرة قد تفوت، إذا كانت المغفرة لا تفوت فلماذا نسارع، إننا نسارع إلى المغفرة؛ لأننا نخشى فواتها، ولو كنا متيقنين بحصولها وإدراكها لما استغفرنا.
يا إخواني! نحن بحاجة إلى أن نراجع أنفسنا في سيرنا إلى الله، والله كلكم إلى الله سائر، ليس منا أحدٌ قاعدٌ لا ينتقل كلنا نسير إلى الله تعالى شئنا أم أبينا.
كم ذا التأخر لا إقلاع يصحبه ولا عزيمة هذا العجز والكسل
إننا يا أحبابي في شهر تكثر فيه أسباب المغفرة، تكثر فيه أسباب حط الذنوب والخطايا، وكلنا أهل تقصير يا رب! هل من توبة تمحو الخطايا والذنوب، وتزيل هم القلب عني والكآبة والشحوب يا الله يا رب يا كريم! يا ذا الجلال والإكرام تغفر الخطايا والزلل، تمن علينا بتوبة تباشر لذتها قلوبنا وتصلح بها أعمالنا.
أحبابي إخواني! إن للمغفرة أسباباً فلنتعرض لأسبابها، إن للمغفرة مواسم فلنقبل عليه جل وعلا، ذكرنا أن المغفرة ليس لها وقت إنها في كل حين ووقت يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار.
لكن هناك منازل هناك مراحل هناك فرص هناك عروض كما هي العروض التجارية التي يغرى فيها الناس بالإقبال على السلع، هناك فرص وعروض من رب العالمين، لتقبل القلوب عليه، وتعود إلى ربها وبارئها بالتوبة والاستغفار وكثرة الاستعتاب.
إن أعظم الأسباب التي ندرك بها المغفرة أن نكثر من التوبة، التوبة يا إخواني! هي الرجوع إلى الله تعالى، والرجوع إلى الله تعالى قد لا يكون بقول، يعني: ما يحتاج إلى لفظ إن التوبة عمل قلبي في الأصل وهو: أن يقلع الإنسان عن معصية الله تعالى، ويقبل على طاعته هذه هي التوبة، لا تحتاج إلى كبير شرح ولا عناء اترك المعصية وأقبل على الطاعة، اترك ما أنت فيه من تقصير في حق الله تعالى وأقبل على حقه بالقيام والفعل، وأنت بهذا تكون في زمرة التائبين.
ربنا يقول: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[النور:31] لعلكم: أي رجاء أن تفلحوا من أراد الفلاح فليتب إلى الله تعالى فإن التوبة أعظم أسباب الفلاح، وهي عبادة العمر التي لا تكون في وقت، بل في كل حين ووقت، حتى في أعظم المقامات وأطوع الحالات أنت في حاجة إلى التوبة والاستغفار.
في الصلاة ماذا نقول إذا قلنا: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله، ماذا نقول؟ إننا نقول في أول ما يشرع لنا من الذكر: أستغفر الله، أستغفر الله، وأي موقف أعظم من موقف عرفة الذي يقف فيه الحجيج قد خرجوا من أموالهم وخرجوا من أوطانهم، بل خرجوا من ثيابهم فلبسوا أكفانهم وجاءوا إلى هذا المقام العظيم يذكرون ويبكون ويتضرعون مع ذلك يقول الله تعالى في حال هؤلاء وما هم عليه: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ﴾[البقرة:198]، وقبلها قد قال جل وعلا: ﴿واستغفروه﴾ إن الحجاج مندوبين بعد هذا الموقف العظيم والشرف الكبير أن يستغفروا الله تعالى.
إذاً نحن في حاجة دائمة إلى الاستغفار، والله تعالى قد ذكر ما يكون عليه أهل الطاعة وأهل الإحسان: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾[الذاريات:17] قليل من الليل في نوم وراحة، طيب على أي حال يكون آخر مطافهم في ليلهم؟ هل هو باستكبار وعلو وفرح بما كان من الإحسان؟ لا، يقول ربنا جل وعلا: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾[الذاريات:18] الله أكبر! أمضوا ليلهم في الطاعة والإقبال على الله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾[الزمر:9] ثم في آخر الليل ما يقول خلاص أنا الحمد لله صليت وفعلت وفعلت، ويعدد قائمة الطاعات إنه في الليل مستعتب يستغفر الله تعالى كما قال تعالى: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُون﴾ إننا بحاجة يا إخواني إلى الاستغفار؛ لأن به تنحط الذنوب والخطايا، فلا يغتر أحدٌ بعمله والله تعالى يعدنا خيراً كثيراً ويقول لنا وهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
العفو عن السيئات يتضمن أمرين يا أحبابي!
الأمر الأول: أن الله يتجاوز عنها، فلا يؤاخذك بها.
والأمر الثاني: أن يسترها عليك فلا تفتضح بها، وكلاهما مِنَّة عظيمة من رب العالمين.
أرأيت لو أن الله قال: غفرت لك لكن شهر بك وفضحك بين الخلائق أليس هذا مما يؤلمك؟ بلى والله إنه يؤلم لو لم تكن هناك عقوبة؟ فكيف وقد جمع لك ربك الفضلين: فهو يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، يسترها جل وعلا يتجاوز عنها سبحانه وبحمده.
إن الاستغفار هو من أعظم أسباب حصول المغفرة، ولذلك فالزموا الاستغفار يا إخواني! الله تعالى يذكر حال المتقين: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم﴾[آل عمران:135] ذكروا رباً عظيماً رباً يعاقب على السيئات ويجزي على الحسنات خيراً كثيراً يحب التوابين ويحب المتطهرين، رباً له من الصفات والكمال والبهاء ما لا يبينه لسان، ولا يحيط به عقل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سبحانه وبحمده.
لا يحيطون به علماً، رب له الكمالات بجميع وجوهها، سبحانه لا نحصي ثناءً عليه جل وعلا، هذا الرب يعطيك باستغفارك خيراً كثيراً.
اذكر الله تعالى كما قال في حال المتقين: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ تنبهوا وأفاقوا، ﴿فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ ثم هم على هذه الحال: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾.
فأكثروا أيها الأحباب! من التوبة والاستغفار، واعلموا أن الله يعدكم فضلاً كبيراً وخيراً كثيراً.
يا معشر العاصين! هكذا يقول الشاعر وكلنا أنا وأنت ندخل في هذا النداء:
يا معشر العاصين جودٌ واسعٌ
من رب يقول: ﴿إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾.
يا معشر العاصين جودٌ واسعٌ **** عند الإله لمن يتـــوب ويندمَ
هلا نتوب إلى الله تعالى صادقين، ونندم على ما يكون من التقصير، ما فينا أحد كامل يا إخواني! كلنا خطاء، ولذلك ينبغي أن نقر بهذا أولاً، ثم نعالج الخطأ بالتوبة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قرر هذا أولاً، «كل ابن آدم خطاء» ثم بين طريق السلامة من الخطأ فقال: «وخير الخطائين التوابون».
إن من أسباب حصول المغفرة أن نحدث صالحاً أن نحدث عملاً يرضى به الله تعالى عنا.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمعاذ: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها».
إذا وقعت في خطيئة بادر إلى حسنة لتمحو هذه السيئة.
والله تعالى يقول جل في علاه: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه:82]، أربع صفات فتش في نفسك هل هي موجودة أو لا؟ يعني: كثير المغفرة صيغة مبالغة تدل على الكثرة، وإني لغفار لمن تاب والتوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى.
وآمن: وهو صلاح القلب بالندم والإقبال على الله تعالى، وعملاً صالحاً: أي: أحدث صالحاً من صلاة أو زكاة أو حج أو صيام أو سائر أنواع الإحسان المستطاعة، ولو كان ذلك بالنية إذا عجز عن العمل.
ثم الصفة الرابعة التي يستوجب بها العبد فضل الله تعالى: أن يكون يا أحبابي! مستمراً على التوبة، ثم اهتدى أي: دام على هذه الخصال، استمر على هذه الخلال.
إن إحداث الصالحين بعد السيئ من أعظم ما يحصل به للعبد من الخير.
استمع إلى هذا الحديث هذه القصة التي رواها الإمام مسلم في صحيحه من حديث علقمة بن الأسود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا حدث بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول الصحابي: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني عالجت امرأة في بعض طرقات المدينة، فأصبت منها كل شيء إلا ما يأتي الرجل امرأته.
يعني: هذا رجل خلا في طريق من طرق المدينة بامرأة فقبلها وضمها وفعل معها كل شيء إلا الجماع، هذا معنى قوله: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها يعني: ما جامعتها، فقال: يا رسول الله! ها أنا ذا فاقضي فيّ ما شئت، الرجل تائب نادم على ما كان من هذه المعصية، سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجب هذا الرجل بشيء.
عمر في ذلك المجلس فاروق الأمة خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثاني الخلفاء الراشدين قال للرجل: لقد سترك الله لو سترت نفسك، يعني: إن الله سترك ما في داعي أن تجيء وتشهر هذا أمام الناس وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، النبي صلى الله عليه وسلم ما عقب على قول عمر بشيء، وهذا فيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لمن وقع في سيئة، ليس هناك حاجة أنك تجيء تفضح نفسك وسترك الله، سترك الله فاحفظ ستر الله عليك، وكلنا أهل خطيئة وتقصير.
لكن الرجل أحرقه قلبه وأراد الخروج من هذه السيئة فأتى للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: فأقضِ في ما شئت، ما أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء الرجل طال عليه المقام وينتظر جواب النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فأخذ نفسه وخرج من المجلس، خرج من المجلس لم ينل جواباً من النبي صلى الله عليه وسلم، ولعل في هذا تربية نبوية حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج الرجل أمر من يدعو هذا الرجل، فذهب رجلٌ على إثره فقال: ائتي وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قرأ عليه قول الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾[هود:114].
إذاً العلاج الصلاة إصلاح العمل، ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ﴾ الفجر والعصر، ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾ المغرب والعشاء، ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ دله رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرج، قال الله تعالى عن هذا الفرج: ﴿ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾.
إذاً هذه ذكرى وموعظة لمن تذكر وأفاق بعد الإساءة والتقصير، إذا أردت الخروج من تلك القيود وفك تلك السلاسل فأقبل على الله بالعمل الصالح.
أقم الصلاة طرفي النهار: صلاة الفجر وصلاة العصر التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «من صلى البردين دخل الجنة» إنها صلاة الفجر وصلاة العصر.
الله تعالى يقول: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾[هود:114]، ثم بين العاقبة والنتيجة: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة: «الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما»، وهذا دليل على عظيم الفضل لمن أحدث صالحاً.
فينبغي أن نحدث صالحاً بعد العمل، وبعد الإساءة والتقصير.
يا إخواني! إن من أسباب الفوز بالمغفرة أن تحسبن الظن بالله تعالى، كثير من الناس يحول بينهم وبين الله تعالى أنهم لا يحسنون الظن بربهم، يظنون به سوءاً وهو الكريم المنان ذو الفضل والإحسان جل وعلا، إن الله لا يرد تائباً مهما عظم الذنب، نحن لو يخطئ علينا شخص يمكن يكون الخطأ تافه، لكن كثير من الناس لا يقبل الاعتذار يرى أنه أخطأت تحمل خطأك، ربنا جل وعلا يقبل التائبين، وهو يقبل التوبة عن عباده، ثم إنه لا يقتصر الأمر على القبول، بل يحب التائبين: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾.
فلذلك ينبغي أن نحسن الظن بالله تعالى لا يحول بينك وبين ربك عظم الخطيئة.