إِنَّ اَلْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اَللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اَللَّهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اِتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَىَ أَثَرَهُ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ اَلدِّينِ.
أمَّا بَعدُ:
فَاتَّقُوُا اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ؛ وَخُذُوا بِوَصِيَّةِ اَللَّهِ لَكُمْ فِي كُلِّ شَأْنِكُمْ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾آل عمران: 200 ، أَمَرَكُمُ اَللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ، وَبَيَّنَ جَلَّ فِي عُلَاهُ أَجْرَ اَلصَّابِرِينَ وَثَوَابَهُمْ وَعَاجِلَ اَلْبُشْرَىَ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيَا قَبْلَ اَلْآخِرَةِ.
أَمَرَ اَللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ رُسُلَهَ وَأُولِي اَلْعَزْمِ مِنْهُمْ، وَأَمَرَ بِذَلِكَ جَمِيعَ اَلْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ، فَالصَّبْرُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ بَشَرٌ، يَحْتَاجُهُ اَلْإِنْسَانُ فِي اَلسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَفِي كُلِّ شَأْنِهِ، قَالَ اَللَّهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾الأحقاف: 35 .
وَقَدْ نَهَاكُمُ اَللَّهُ تَعَالَى عَمَّا يُضَادُّ اَلصَّبْرَ وَيُقَابِلُهُ مِنْ اَلْحُزْنِ اَلْمُوْقِعِ فِي اَلْمُحَرَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَنَافَى مَعَ اَلصَّبْرِ مِنْ اَلْجَزَعِ بِالْقَوْلِ أَوْ اَلْفِعْلِ بِالظَّاهِرِ أَوْ اَلْبَاطِنِ؛ قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾النحل: 127 وآياتُ الصبْرِ كَثِيرَةٌ.
فَقَدْ أَمَرَ اَللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَنْ مَعْصِيَتِه، وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَقْضِيَتِهِ وَأَقْدَارِهِ؛ قَالَ جَلَّ فِي عُلَاهُ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾الكهف: 28 وهذا صَبْرٌ عَلىَ طاعَةِ اللهِ. ﴿وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ وَهَذَا صَبْرٌ عَنْ مَعْصِيَةِ اَللَّهِ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَقَدْ أَثْنَى اَللَّهُ تَعَالَى عَلَى اَلصَّابِرِينَ عَلَى ضَرَّائِهِ فَقَالَ: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾البقرة: 177 ، فَاصْبِرُوا فَاَللَّهَ يُحِبُّ اَلصَّابِرِينَ؛ قَالَ اَللَّهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾آل عمران: 146 ، وَلَا يَأْتِي اَلصَّبْرُ إِلَّا بِالْخَيْرِ، قَالَ جَلَّ فِي عُلَاهُ : ﴿وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾النساء: 25 ، ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾النحل: 126 .
وَقَدْ وَعَدَ اَللَّهُ تَعَالَى اَلصَّابِرِينَ بِأَجْرٍ عَظِيمٍ أَخْفَاهُ عَلَى اَلْعَالَميِنَ، فَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ-: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾الزمر: 10؛ لِذَلِكَ كَانَ مَنْ وُفِّقَ إِلَى اَلصَّبْرِ قَدْ فُتِحَ لَهُ بَابُ خَيْرٍ عَظِيمٍ، وَأُعْطِيَ عَطَاءً لَا يُوَازِيهِ نَوْعٌ مِنْ عَطَاءِ اَللَّهِ لِعِبَادِهِ، جَاءَ فِي اَلصَّحِيحَيْنِ قَالَ - صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما أُعْطِيَ أحَدٌ عَطاءً خَيْرًا وأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» أخرجه البخاري(1469), ومسلم (1053). فَخَيْرُ مَا يُعْطَاهُ اَلْإِنْسَانُ أَنْ يُلْهِمَهُ اَللَّهُ تَعَالَى اَلصَّبْرَ وَأَنْ يُعَيِنَهُ عَلَيْهِ وَأَنْ يَفْتَحَ لَهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ تُدْرُكُ بِهِ مَصَالِحُ اَلْآخِرَةِ، وَيُدْرِكُ اَلْإِنْسَانُ بِهِ مَصَالِحَ حَيَاتِهِ.
فَالصَّبْرُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ فَرِيضَةً دِينِيَّةً شَرْعِيَّةً، هُوَ ضَرُورَةٌ حَيَاتِيَّةٌ لَا نَجَاح فِي اَلدُّنْيَا وَلَا فَلاحَ فِي اَلْآخِرَةِ، إِلَّا بِالصَّبْرِ فَتَحَقِّقُوا بِهِ فِي كُلِّ شُؤُونِكُمْ فَإِنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ اَلْآمَالُ لِأَحَدٍ وَلَا تَنْجَحُ اَلْمَقَاصِدُ وَلَا تُبْلَغُ اَلْمَطَالِبُ وَلَا يُؤْتِي عَمَلٌ أَُكُلَهُ إِلَّا بِالصَّبْرِ، فَلَوْلا اَلصَّبْرُ مَا حَصَدَ اَلزَّارِعُ، وَلَوْلَا اَلصَّبْرُ مَا جَنَى اَلْغَارِسُ، وَلَوْلَا اَلصَّبْرُ مَا حَصَّلَ اَلسَّاعِي قَصَدَهُ فَكُلُّ اَلنَّاجِحِينَ فِي اَلدُّنْيَا بِمَقَاصِدِهِمْ وَالْبَالِغِينَ اَلْفَوْزَ فِي اَلْآخِرَةِ؛ إِنَّمَا نَالُوا ذَلِكَ بِصَبْرِهِمْ وَبِثَبَاتِهِمْ وَبِانْتِظَارِهِمْ نَتَائِجَ مَا يُقَدِّمُونَهُ مِنْ اَلْأَعْمَالِ، فَالصَّبْرُ ثَمَرَتُهُ عَظِيمَةٌ جَلِيلَةٌ فَهَنِيئًا لَمِنْ وُفِّقَ إِلَيْه، فَالصَّبْرُ طَرِيقُ اَلْمَجْدِ وَسَبِيلُ اَلْمَعَالِي، بِالصَّبْرِ تُدْرَكُ اَلْآمَالُ.
إني رأيْتُ وفي الأَيَّامِ تَجْرِبَةُ *** للصَّبْرِ عاقِبَةٌ محمودةُ الأَثَرِ
وقَلَّ مَنْ جَدَّ في أمْرٍ يُؤمِّلُهُ *** واسْتَصْحَبَ الصَّبْرَ إلاَّ فازَ بالظَّفَرِ
وَقَدْ قِيِلَ: مَنْ صَبَرَ ظَفَرَقالَهُ: أَكْثَمُ بْنُ صَيْفِيِّ. كما في أَدَبِ الدُّنيْا والدِّينِ ص(290).
اَللَّهُمَّ أَفْرِغَ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا عَلَى اَلْحَقِّ وَالْهُدَى، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ اَلْمُتَّقِينَ وَحِزْبَكَ اَلْمُفْلِحِينَ وَأَوْلِيَائِكَ اَلصَّالِحِينَ، أَقُولُ هَذَا اَلْقَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ اَلْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفَرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ.
***
الخطبة الثانية:
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ حَمَدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، حَمَدًا يُرْضِيهِ وَيُوَافِي جَزِيلَ إِعْطَائِهِ وَيُكَافِئُ عَظِيمَ إِحْسَانِهِ، لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُوُلَى وَالْآخِرَةِ، وَلَهُ اَلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اَللَّهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنَ اِتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ اَلدِّينِ.
أمَّا بَعد:
فَاتَّقُوا اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ؛ اِتَّقَوُا اَللَّهَ تَعَالَى كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾آل عمران: 102 .
أَيُّهَا اَلنَّاسُ: عِبَادَ اَللَّهِ؛ مَا أَحْوَجَنَا إِلَى اَلصَّبْرِ عِنْدَ فِعْلِ مَا أَمَرَ اَللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنَ اَلطَّاعَةِ وَالْإِحْسَانِ، مَا أَحْوَجَنَا إِلَى اَلصَّبْرِ فِي تَرْكِ مَا نَهَانَا عَنْهُ وَحَرَّمَهُ عَلَيْنَا، مَا أَحْوَجَنَا إِلَى اَلصَّبْرِ فِي حُلُولِ اَلْكَرْبِ وَنُزُولِ اَلظَّلَامِ وَالْبَلَاءِ، فَالصَّبْرُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ بَشَرٌ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ.
صَبْرٌ عَلَى طَاعَاتِ اَللَّهِ، فَالنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ اَلرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ، فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ اَلْمُنْكَرِ فَلَابُدَّ لَهُ مِنْ صَبْرٍ: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾لقمان: 17 .
اَلْفَرَائِضُ وَالصَّلَوَاتُ اَلْمَكْتُوبَاتُ فِي اَلْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، لَا تَتَحَقَّقُ لِعَبدٍ عَلَى وَجْهِ اَلْكَمَالِ وَالْإِحْسَانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اَللَّهِ تَعَالَى؛ قالَ اللهُ تعالىَ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾طه: 132، اَلصَّبْرُ عَلَيْهَا فِي نَفْسِكَ بِأَدَائِهَا عَلَى اَلْوَجْهِ اَلَّذِي أَمَرَكَ اَللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، وَاصْطَبِرَ عَلَيْهَا فِي أَهْلِكَ آمِرًا إِيَّاهُمْ بِالصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِهَا مِنَ اَلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، مِنَ اَلْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ، مِنَ اَلرِّجَالِ وَالنِّسَاء، مِنَ اَلصِّغَارِ وَالْكِبَارِ، فَقُومُوا بِمَا أَمَرَكُمُ اَللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَصَابَرُوا فِي ذَلِكَ؛ فَلَكُمْ مِنْهُ جَزِيلُ اَلْأَجْرِ.
اَلصَّبْرُ فِي مُعَامَلَةِ اَلْخَلقِ لَابُدَّ مِنْهُ فِي تَحْقِيقِ اَلسَّلَامَةِ وَالْفَوْزِ بِصَلَاحِ اَلْحَالِ مَعَ اَلنَّاسِ، فَالنَّاسُ مَجْبُولُونَ عَلَى خِصَالٍ لَا يَنْجُو اَلْإِنْسَانُ مِنْ سَيِّئِهَا وَشُؤْمِهَا إِلَّا بِالصَّبْرِ؛ قالَ اللهُ تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾الكهف: 28 .
فَالْإِنْسَانُ مُحْتَاجٌ فِي كُلِّ اَلْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ اَلَّتِي هِيَ حَقُّ لِلَّهِ، أَوْ حَقٌّ لِلْخَلْقِ مُحْتَاجٌ فِي ذَلِكَ إِلَى اَلصَّبْرِ وَلْيُبْشِرِ اَلصَّابِرُ؛ فَقَدْ قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى لِلصَّابِرِينَ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾الرعد: 24 فَنَسْأَلُ اللهَ أنْ نكوُنَ مِمَّنْ يُقالُ لَهُمْ: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾الرعد: 24 .
نَحْتَاجُ إِلَى اَلصَّبْرِ أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ فِي تَرْكِ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ تَعَالَى؛ فَاَلَّذِي يَكُفُّ نَفْسَهُ عَنِ اَلْغِيِبَةِ وَيُمْسِكُ لِسَانَهُ عَنْ قَوْلِ اَلسُّوءِ وَالشَّرِّ وَالْفَسَادِ وَالْكَذِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لَا يَبْلُغُ هَذَا إِلَّا بِإِحْكَامِ نَفْسِهِ وَمُثَابَرَتِهَا، فَالنَّفْسُ تَتُوقُ إِلَى قَوْلِ اَلسُّوءِ وَإِلَى أَخْذِ مَا تَشْتَهِي مِنْ اَلْأَقْوَالِ وَلَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلشَّرْعِ؛ فَإِذَا صَبَرَ نَفْسَهُ وَحَبَسَ لِسَانَهُ كَانَ مِنْ اَلْفَائِزِينَ، شَهْوَتُكَ تَدْعُوكَ إِلَى اَلْمُحَرَّمِ، سَوَاءً كَانَتْ شَهْوَةً فِي اَلْمَالِ بِأَكْلِ حُقُوقِ اَلنَّاسِ، أَوْ شَهْوَةً فِي اَلنَّظَرِ إِلَى اَلْمُحَرَّمِ أَوْ سَمَاعِهِ أَوْ مُبَاشَرَةِ مَا حَرَّمَ اَللَّهُ مِنْ اَلشَّهَوَاتِ اَلْمُحَرَّمَةِ وَالْمَلَذَّاتِ اَلْمَنْهِيَّةِ، فَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْجُوَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهُ إِلَّا بِعَوْنِ رَبِّكَ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَأَنْ يُفْرِغَ عَلَيْكَ صَبْرًا.
فَاصْبِرْ فَعَاقَبَهُ اَلصَّبْرِ اَلْجَمِيلِ جَمِيلَةٌ * * * وَأَحْسَنُ أَخْلَاقِ اَلرِّجَالِ اَلتَّحَفُّظُ.
أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ: عِبَادَ اَللَّهِ؛ كَمُّ يَجْرِي عَلَيْنَا مِنْ اَلْأَقْدَارِ اَلَّتِي لَا نُحِبُّهَا، مِنْ فَوَاتِ مَطْلُوبٍ أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى مُقَابَلَةِ ذَلِكَ إِلَّا بِالصَّبْرِ، فَالصَّبْرُ وَاجِبٌ عَلَى أَقْضِيَةِ اَللَّهِ وَأَقْدَارِهِ، وَعِلْمُ اَلْعَبْدِ بِأَنَّ مَا يَقْضِيهِ رَبُّهُ خَيْرَ لَهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِه، وَأَنَّهُ إِنْ صَبَرَ ظَفَرَ، وَأَنَّهُ يَجْزِي عَلَىَ صَبْرِهِ أَجْرًا عَظِيمًا، تَمْضِي اَلْمَكْرُوهَاتُ وَتَفُوت اَلْمَحْبُوبَاتُ وَيَفُوزُ اَلصَّابِرُونَ بِقَوْلِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾الزمر: 10 ، فَمَهْمَا جَرَى لَكَ مِمَّا تَكْرَهُ، إِذَا فَاتَ مَحْبُوبٌ أَوْ حَصَلَ مَكْرُوهٌ فَاعْلَمْ أَنَّ عَاقِبَةَ ذَلِكَ فِي أَنْ تَصْبِرَ صَبْرًا جَمِيلاً وَأَنْ تَحْتَسَبَ اَلْأَجْرَ عِنْدَ اَللَّهِ، وَأَنْ تَعْلَم أَنَّ اَللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَوْ قَدَّرَهُ لَكَ لَآتَاكْ فَاسْتَسْلَمَ لِقَدَرِ اَللَّهِ بِالصَّبْرِ وَابْذُلِ اَلسَّبَبَ فِي إِدْرَاكِ مَا تُحِبُّ، وَالسَّلَامَةَ مِمَّا تَكْرَهُ، وَالْقَلْبُ مُنْشَرِحٌ بِقَضَاءِ اَللَّهِ وَقَدْرِهِ، وَالْعِلْمِ بِعَظِيمِ أَجْرِهِ وَثَوَابِهِ لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مَا يَكْرَهُ.
فَقَوْمٌ قَامُوا بِطَاعَةِ اَللَّهِ وَصَبَرُوا عَلَى مَا قَضَاهُ اَللَّهُ تَعَالَى، فَأَدْرَكُوا بِذَلِكَ نَعِيمَ اَلْقَلْبِ مَعَ فَوَاتِ مَحْبُوبَاتِهِمْ وَحُصُولِ اَلْمَكْرُوهِ لَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ، فَالْمَكْرُوهَاتُ لَا تُنَالُ إِلَّا مِنْ ظَوَاهِرِهِم، أَمَّا قُلُوبُهُمْ فَهِيَ بِاَللَّهِ مُعْتَصِمَةٌ وَبِهِ مُهْتَدِيَةٌ وَعَلَيْهِ مُتَوَكِّلَةٌ وَلِأَمْرهِ صَابِرَةٌ ، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اَللَّهِ، فِي نَفْسِكَ أَوْ أَهْلِكَ أَوْ مَالِكٍ أَوْ وَلَدِكَ أَوْ بَلَدِكَ أَوْ عَمَلِكَ أَوْ كُلِّ شَأْنِكَ، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اَللَّهِ؛ ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾التغابن: 11 ؛ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ فَيَصْبِرُ عَلَى قَضَائِهِ وَقَدْرِهِ، يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ مَا جَرَى لَهُ بِأَمْرِهِ فَيَكُون ذَلِكَ مُعِينًا لَهُ عَلَى اَلصَّبْرِ.
جاء في الصحيح أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث الصحيح: «ما مِن عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ» أَيْ: فِي نَفْسِهِ أَوْ أَهْلِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ اَلْمُصِيبَةُ حُصُولَ مَا تَكْرَهُ أَوْ كَانَتْ اَلْمُصِيبَةُ فَوَاتَ مَا تُحِبُّ؛ لِأَنَّ اَلْمُصِيبَةَ إِمَّا أَنْ يُفَوُتَ مَا تُحِبُّ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ مَا تَكْرَهُ: «ما مِن عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ: {إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ} البقرة:١٥٦ ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لي خَيْرًا منها، إلّا أَجَرَهُ اللَّهُ في مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ له خَيْرًا منها» أخرجه مسلم (918) . أي: أَثَابَهُ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ، فَاسْتَرْجِعُواَ وَاصْبِرُوا عِنْدَ حُصُولِ مَا تَكْرَهُونَ، وَاحْرِصُوا أَنْ تَكُونُوا مِنْ اَلصَّابِرِينَ اَلْمُسْتَرْجِعِينَ عِنْدَ حُلُولِ اَلْمَكْرُوهَاتِ وَفَوَاتِ اَلْمَحْبُوبَاتِ، وَأَبْشِرُوا بِعَطَاءٍ مِنْ اَللَّهِ جَزِيلٍ وَثَوَابٍ كَبِيرٍ؛ فَالصَّبْرُ يَا عِبَادَ اَللَّهِ أُجْرَةٌ مِنَ اَللَّهِ جَازَ تَقْدِيرَ اَلْقَانُونِ وَالْحِسَابِ؛ ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾الزمر: 10
اَللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا يَا ذَا اَلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، اَللَّهُمَّ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، اَللَّهُمَّ أَفْرَغْ عَلَيْنَا صَبْرًا نَقُومُ بِهِ بِمَا أَمَرَتْ، وَنَنْتَهِيِ عَمَّا نَهَيْتَ، وَنَصْبِرُ عَلَى مَا قَضَيْتَ وَقَدَّرَتَ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسُنَا وَإِنَّ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرَحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخَاسِرِينَ.
اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحَ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَاجْعَلْ وِلَايَتَنَا فِيمَنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ وَاتَّبَعَ رِضَاكَ يَا رَبَّ اَلْعَالَمَين.
اَللَّهُمَّ وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ اَلْحَرَمَيْنِ اَلشَّرِيفَيْنِ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، سَدِّدَهُمْ فِي اَلْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ يَا ذَا اَلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
اَللَّهُمَّ اِدْفَعْ عَنْ بِلَادِنَا وَعَنْ اَلْمُسْلِمِينَ اَلشَّرَّ وَالْوَبَاءَ وَسَائِرَ اَلْآفَاتِ يَا رَبَّ اَلْعَالَمَينَ.
اَللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ اَلْأَخْلَاقِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْأَدْوَاءِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، اَللَّهُمَّ اِحْفَظْنَا بِحِفْظِكَ وَاكلْأنَا بِرِعَايَتِكَ، وَعَمُّنَا بِكُلِّ فَضْلٍ وَخَيْرٍ يَا ذَا اَلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
اَللَّهُمَّ طَهِّرَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ اَلْمُسْلِمِينَ وَسَائِرَ اَلْبَشَرِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَشَرٍّ، وَعُمَّ بِالْخَيْرِ أَهْلَ اَلْأَرْضِ يَا ذَا اَلْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنَّ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرَحمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ اَلْخَاسِرِينَ، اَللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكُ مِنْ فَضْلِكَ كُلَّ خَيْرٍ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، نَعُوذُ بِكَ مِنْ اَلْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطْن.