المقدم: مستمعينا الكرام ضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور "خالد المصلح" أستاذ الفقه بـ"جامعة القصيم"، فضيلة الشيخ السلام عليكم وأهلا وسهلًا بك معنا في بداية هذه الحلقة.
الشيخ:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبا بك حياك الله أخي وائل.
المقدم:- أهلا وسهلًا فضيلة الشيخ بمشيئة الله تعالى مثل مواضيع حلقات برنامج "الدين والحياة" في كل حلقة نطرح موضوعات تهمُّ المسلم في أمور دينه ودنياه، ونحاول أن نسلط الضوء عليها من خلال كتاب الله –عز وجل- ومن خلال سنة المصطفي -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-، ومدى أهميتها وضرورتها في حياة المسلم، في هذه الحلقة سنتحدث حول الصبر (ولا نجاح إلا بصبر).
سنتحدث عن هذا الخلق عن أهميته وعن فضله، وعن أنواعه وأيضًا سياقات ذكره في كتاب الله –عز وجل- وفي سنة المصطفي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ودعنا نبدأ الحديث فضيلة الشيخ ابتداء بالحديث عن الصبر، وأنه ضرورة حياتية وأهميته في حياة الإنسان عمومًا.
الشيخ:- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة لك أخي وائل وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المباركين، الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
موضوع الصبر موضوع في غاية الأهمية، في تحقيق كل الآمال البشرية، فإنه لا سبيل لحياة هنيئة ولا لمعاش مريحٍ ولا لأهداف تحقق إلا بالصبر، ولذلك الصبر ضرورة حياتية قبل أن يكون فريضة دينية شرعية، فلا نجاح لأحد إلا بالصبر، لا فلاح في دنيا، ولا نجاح في آخرة، إلا بالصبر فإذا تحقق الآمال ولا تنجح المقاصد ولا يؤتي عمل أكلَه إلا بالصبر.
ولك أن تشهد هذا في كل الإنجازات البشرية، لولا الصبر ما حصد الزارع زرعه، الزارع يبذر بذرة ثم ينتظر تمام زرعه، مع جهده وبذله في تحقيق ما يكون من مصالحه، وما جنى الغارس ثمرة، ولا حصل الساعي قصده إلا بالصبر، فكل الناجحين في الدنيا بمقاصدهم، إنما حققوا ما يؤمِّلون وما يطمحون إليه بالصبر، ولذلك كل المطالب لا تدرك إلا بالصبر، فالناجحون الذين أدركوا آمالهم ووصلوا إلى مقاصدهم وحققوا أهدافهم لم يبلغوا ذلك بِدِعَةٍ وجزع وتوان وإهمال، بل استمرؤوا المرَّ، واستعذبوا العذاب واستهانوا بالصعاب، مشوا على الشوك، وطَّنوا أنفسهم على احتمال المهالك دون المكاره دون ضرر، وطَّنوا أنفسهم على انتظار النتائج دون ملل، واجهوا العقبات، مضوا في طريقهم لا وَانِين ولا متوقفين، بل وصلوا إلى ذلك كله بصبر وثبات، فمن صبر بصر.
وقد قيل:
إني رأيت وفي الأيام تجربة ** للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقلَّ من جدَّ في أمر يحاوله ** فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر[البيتان لأبي حية النميري. انظر الشعر والشعراء لابن قتيبة:2/867]
ولذلك قيل: الصبر طريق المجد، والصبر سبيل المعالي، فالرفعة في الدنيا لا تنال إلا بركوب المشقات وتجرع المرّ، فهؤلاء الذين حققوا إنجازاتهم في دنياهم وبلغوا مآربهم لم يدركوا ذلك إلا بعناء ومشقة.
ولقد قيل: لا يبلغ الإنسان مأمولَه من الراحة إلا على جسرٍ من التعب، فمن اختط طريقًا يبلغ به أمانيه غير الصبر وغير المكابدة للمشاق فقد أخطأ الطريق وضل السبيل، وقد قال الشاعر مقالة في غاية الدقة
لا تحسب المجدَ تمرًا أنت آكلُه ** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا[البيت لرجل من بني أسد. شرح ديوان الحماسة:2/225]
فإذا كانت هذه الحال في ضرورة الإنسان إلى الصبر في أمر دنياه على أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولا يحصل الإنسان فيها مطالبه إلا بالصبر والمثابرة، فكيف بجنة عرضها السموات والأرض وأعد الله فيها لأوليائه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أيظن العاقل أن هذه المنحة العظيمة والمنة الكبيرة والحسنى والطوبى يمكن أن تدرك بالكسل والضجر والعجز والجزع والتواني؟
أكيد أن ذلك خطأ في الفهم، حاجة طلاب الآخرة وخطاب الجنة والصبر أحوج وألزم، وبهذا يتبين أنه لا سبيل إلى نجاح في دنيا، ولا سبيل إلى نجاح في آخرة إلا الصبر، وهذا سر احتفاء القرآن الكريم بالصبر، حتى إن الله تعالى ذكره في كتابه في قريب من تسعين موضعًا، ذكر الله تعالى الصبر وأثنى على أهله وبين منزلته، وبين جزاءه وعظيم الأجر الحاصل للصابرين، بل جعل أجره على نحو مختلف عن سائر العمل فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ الزمر: 10 الصابرون الذين كابدوا في سبيل تحقيق مرضات الله –عز وجل-، وعدهم الله أجرًا عظيمًا فقال: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ الزمر: 10 فلا يجري في جزاء وثواب الصبر قانون وحسابٌ أو تقدير، بل جاز قانون الحساب والتقدير، وإذا كان عمل من ثمار أو من صور الصبر استأثر الله تعالى بإثباته فكيف من سائر الأعمال التي لابد فيها من صبر.
جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «الصومُ لي، وأنا أَجْزي به» صحيح البخاري (1904)، ومسلم (1151) فجعل جزاء الصوم مغيبًا دون تقدير أو حساب لكونه من مفردات الصبر، ولكونه عبادة سرٌّ بين العبد وربه، والمقصود أن الصبر له منزلة كبيرة، ولهذا كرر الله تعالى الأمر به في كتابه لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمر به خيار الخلق وصفوتهم فقال –جل وعلا-: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ القلم: 48 في أكثر من موضع يأمر الله تعالى رسوله –صلى الله عليه وسلم- بالصبر لحكم الله تعالى، وهذا أمر له –صلى الله عليه وسلم-، وهو أمر لكل مؤمن سائر على طريقه صلوات الله وسلامه عليه.
فأمر الله تعالى بالصبر رسوله –صلى الله عليه وسلم- ووعده بالعناية والكفاية، قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ الطور: 48، وفي آية أخرى قال: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ القلم: 48 ، وقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ الإنسان: 23- 24 .
فالأمر بالصبر وجهه الله تعالى لنبيه –صلى الله عليه وسلم- وبيَّن أن هذا طريق خيار خلق الله –تعالى- من أولي العزم من الرسل، قال له -جل في علاه-: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الأحقاف: 35 أمر الله تعالى المؤمنين بالصبر على وجه العموم، وأكد ذلك تأكيدًا بالغًا فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ آل عمران: 200 .
الصبر معلوم، والمصابرة: المبالغة في تحقيقه، والمرابطة لا تتحقق لأحد إلا بالصبر؛ فإنه لا يتحقق لأحد ما يؤمِّله من رباط لامتثال أمر الله –عز وجل- إلا بالصبر، وقد جعل الله تعالى عاقبة الصبر في كتابه حميدةً في مواضع عديدة يثني الله تعالى على الصابرين ويبين عظيم الأجر الحاصل لهم، ليس فقط في الآخرة بل حتى في الدنيا يقول الله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾ الأعراف: 137 وهم بنو إسرائيل أظهرهم الله على عدوهم فرعون، فقال تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا﴾ الأعراف: 137 بإذلال وتسلط فرعون عليهم بمشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ثم يقول: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى﴾ الأعراف: 137 ما سبب هذا الإتمام وهذا الإظهار قال: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾ الأعراف: 137 ، وقال –جل وعلا- في بيان العمل الصالح الذي يدرك به الإنسان أجرًا عظيمًا في الآخرة قال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ النحل: 96 ، وكذلك يقول الله تعالى: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ المؤمنون: 111 وقال تعالى: ﴿يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا﴾ الفرقان: 75 ، وقال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ﴾ القصص: 54 .
والآيات في بيان عاقبة الصبر في الآخرة وفي الدنيا عظيمة وهي من الخصال الصبر من الخصال التي ينال بها الإنسان الإمامة في الخير كما قال تعالى في سورة السجدة ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ السجدة: 24 وجعل الجنة جزاء للصابرين قال تعالى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ فصلت: 35 وحث الله تعالى على الصبر في إدراك المطالب وأخبر بأنه خير للإنسان من الاستعجال الذي يوقعه فيما حرم عليه قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الحجرات: 4- 5 ، فالصبر في القرآن العظيم له منزلة عظيمة ومكانة رفيعة، بينها الله -جل في علاه -بيانًا واضحًا يدرك به الإنسان عظيم ما يحصُل له بالصبر، وأنه يحصل له بالصبر ما لا يحصل له بغيره من العمل، ولهذا جاءت السنة معزِّزةً لهذا المعنى في بيان فضل الصبر ومنزلته ومكانته، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «وَما أُعْطِيَ أَحَدٌ مِن عَطاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» صحيح البخاري (1469)، ومسلم (1053) فبين النبي –صلى الله عليه وسلم- أن من خير ما يعطاه الإنسان في دنياه أن يوفَّق إلى الصبر، وأنه لا يعطى من الدنيا شيئًا من العطايا أعلى وأوفى وأكرم من الصبر، فإنه يدرك به الإنسان من الفضل والخير ما لا يدرك بغيره.
ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «وَما أُعْطِيَ أَحَدٌ مِن عَطاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» لما فيه من جميل الخصال وكريم العاقبة التي يدرك بها الإنسان خيرًا عظيمًا، ولهذا كان المؤمن مأمورًا بالصبر وهو بين حالين لا يخلو منهما مؤمن ينال به الأجر والفضل قال –صلى الله عليه وسلم-: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له» صحيح مسلم (2999) فالإنسان فيما يجريه الله تعالى عليه من الأقضية والأقدار بين الصبر والشكر.
الصبر على المكروه، والشكر على ما يكون من محبوب يدرك به شيئًا من مراغبه ومحابِّه، ولهذا قيل: إن الدين نصفان؛ نصف صبر، ونصف شكر، الصبر في إيذائه ما يبتلي الله تعالى به العبد من المكاره، والشكر في مقابل ما يكون من المحاب والمراغب والمطالب، جاء في حديث أنس رضي الله تعالى عنه في شعب الإيمان عند البيهقي «الإيمانُ نِصفان، نصفٌ في الصَّبرِ، ونصفٌ في الشُّكرِ» شعب الإيمان (9264) وقال الألباني: ضعيف جدا . ولهذا لا يستغني أحد عن الصبر في تحقيق ما أمره الله تعالى به، وفي بلوغ ما يؤمِّله من خير الدنيا والآخرة، هذه لمحة موجزةٌ عما يتعلق بأهمية الصبر ومنزلته واستعراض إجماله لما ذكره الله تعالى في شأن الصبر في محكم كتابه وما ذكره النبي –صلى الله عليه وسلم- في شأن هذه الخاصة الجليلة العظيمة، وأخي الكريم الصبر يحتاجه كل إنسان، وفي مقابل كل الأحوال بمعنى أنه الصبر حتى على النعم يحتاج فيها الإنسان إلى صبر؛ وذلك أنه لا يمكن أن يحقق الشكر الذي أمر به إلا بأن يصبر نفسه على ما أمر الله تعالى به، وهذا معنى ما جاء عن بعض الصحابة والسلف الصالح في معنى الصبر من ذلك قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه بُلينا بفتنة الضراء فصبرنا بلينا أي: اختبرنا بفتنة الضراء وهي ما نكره فصبرنا، وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر، وذلك أنه يحتاج الإنسان الصبر في كل أحواله، حتى قال بعضهم: فتنة الضراء يصبر عليها البرُّ والفاجر يعني فتنة المكروه، فالفاجر قد يصبر عليها، لكن في فتنة السراء لا يصبر إلا الصادقون، ولذلك قال: «ولا يصبر على فتنة السراء إلا صِدِّيق».
ولما ابتُلِي الإمام أحمد بفتنة الضراء صبر ولم يجزع، وقال: كانت زيادةً في إيماني، فلما ابتلي بفتنة السراء -رضي الله تعالى عنه- وهو ما كتب الله له من القبول وشيوع ذكره في الخلق، وإقبال الناس عليه –رحمه الله- ورضي عنه وجد ثقلًا لذلك، حتى كان يرقب الموت صباح مساء وخشية أن يكون هذا الذي نزل به من السراء فتنةً له في دينه، فالصبر يحتاجه الإنسان في كل أمور معاشه، يحتاجه في حال النعمة كما يحتاجه في حال الكربة والشدة.
لاشك أنه يظهر الصبر عند الضراء والنوازل بصورة أظهر، لكن الإنسان لا يخلو من صبر، يحتاجه في كل أحواله وفي كل شئونه، ولا يتحقق له النجاح إلا بقدر ما يحقق من الصبر ولذلك قال –صلى الله عليه وسلم-: «واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا» مسند أحمد (2803)، وقال محققو المسند: حديث صحيح وهذا كله يبين ما يدركه الإنسان في مسيره إلى ربِّه -جل في علاه- وفي مسيره في دنياه من الفضل من خلال هذه الخصلة ومن خلال هذه الصفة الكريمة التي أثنى عليها القرآن وحث عليها كتاب الله –عز وجل- وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
إذًا الصبر ليس فقط فيما يكرهه الإنسان، أو في الشدائد بل حتى في السراء يحتاج الإنسان إلى أن يستعمل الصبر لتحقيق أمر الله –عز وجل- وأمر رسوله –صلى الله عليه وسلم- ومن صبر واتقى فإنه يكتب له من التوفيق والتسديد والإعانة ما لا يدركه بغير ذلك، ولهذا يقول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾ آل عمران: 120 في مقابل كيد الكائدين وأذى المؤذِين لك إن استعملت هذه الخصلة الصبر والتقوى، الصبر على ما يكون من الأذى ودفعه بمستطاع، والتقوى وهي مراقبة الله –عز وجل- فإنه يدرك بذلك الرشد، ويدرك بذلك الخير الكبير، ولهذا قال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ آل عمران: 186 وقال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ يوسف: 90 .
كل هذه الآيات وغيرها كثير تبيِّن أن الإنسان يدرك بالصبر خيرًا كثيرًا، وسبقًا كبيرًا، وإدراكًا لما يؤمِّله من طيب المعاش وسلامته في الميعاد، أما ما يتعلق بأنواع الصبر، فالصبر أنواع وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- للصبر عدة أنواع، وهي في مجملها تحتوي كل ما يكون تشتمل على كل ما يكون من شأن الإنسان بمعنى أنه لا يخلو منها حالٌ من أحوال الإنسان نحن نحتاج إلى الصبر في فعل ما أمره الله تعالى به، ونحتاج إلى الصبر في ترك ما نهانا الله تعالى عنه، ونحتاج إلى الصبر في مقابلة ما يُجريه الله تعالى على العباد مما يكرهون سواء كان ذلك من حلول كرب أو نزول ضيم وبلاءٍ.
فالصبر لازم للبشر في كل أحوالهم الصبر على طاعة الله وذلك بأن يحمل الإنسان نفسه على فعل ما أمر الله تعالى، فإنه لا يتحقق له ذلك إلا بالصبر والمجاهدة والمعاناة التي يتحقق له بها امتثال أمر الله تعالى، وامتثال أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
وأضرب لذلك مثلًا لما ذكره الله –تعالى- في محكم كتابه في شأن الصلاة، الصلاة فريضة متكرِّرة تحتاج في فعلها إلى صبر ومثابرة لامتثال ما أمرك الله تعالى به من هذه العبادة الجليلة، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾ طه: 132 في فعلها في نفسك، واصطبر عليها فيما أمرك الله تعالى به من أمر أولادك ذكورًا وإناثًا، أبناء وبنات، ومن تحت ولايتك أو من تحت ولايتكِ ممن يتولى الإنسان أمرهم، فإنه يحتاج في أمرهم بالصلاة والمحافظة عليها إلى معاناة وإلى مثابرة حتى يدرك ذلك.
الصبر في الصيام فإنه لا يتحقق الصوم إلا بصبر وهو أن يحبس نفسه عن ملذاته ومشتهياته كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه «الصومُ لي، وأنا أَجْزي به يَدَعُ الطعامَ والشَّرابَ من أجْلي» صحيح البخاري (7492)، ومسلم (1151) ، فكل هذا يحتاج فيه الإنسان إلى صبر، الزكاة يحتاج فيها الإنسان إلى صبر، فإنه لا تطيب نفسه بإخراج ماله إلا بمقابل، والمقابل مؤخَّر وهو ما يكون من الثواب في الآخرة غير ما يكون من ثواب في الدنيا، فإنه ما من أحد ينفق نفقة إلا يخلف الله تعالى عليه من الخلف ما يكون عوضًا مباركًا.
والمقصود أن كل العبادات بلا استثناء يحتاج فيها الإنسان إلى مثابرة، وإلى صبر ولا تتحقق له الطاعة إلا بصبر، بِرُّك إلى والديك يحتاج إلى صبر، ولذلك قال الله تعالى: ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ الإسراء: 23 ، ثم يؤكد هذا القول فيقول: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ الإسراء: 24 .
صلة الأرحام تحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى أن يبذل الإنسان من نفسه حتى يحقق ما أمره الله تعالى به من صلة رحمه على الوجه المأمور به، ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في رجل جاء فقال يا رسول الله: «إنَّ لي قرابةً، أُحسِنُ إليهم ويُسيئون» بأنواع من الإحسان وفي مقابل هذا الإحسان يكون منهم إساءة وتقصير وأصلهم يقطعون، فهذا يكون منه الجميل لقرباته، ويواجهونه بنقيض ذلك، فهو يصلهم ولكنهم لا يقابلون هذا الوصل بالإحسان، بل يقابلونه بالقطيعة ثم قال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما ذكر من حال هؤلاء ما ذكر من سوء معاملتهم وسوء عشيرتهم أنه يصلهم ويقطعون، ويحسن إليهم ويسيئون إليه، وأحلم عنهم ويجهلون علي قال: «إن كان كما تقولُ فكأنما تُسِفُّهمُ المَلَّ» يعني تطعمهم الرماد الحار فيجتمع لهم أكل ما لا فائدة فيه مع تعذيب حرارته، «لا يزالُ معك مِن اللهِ ظهيرٌ ما دُمْتَ على ذلك» صحيح مسلم (2558) وهذا الحديث لا يمكن أن يحققه الإنسان، ولا أن يبلغه شخص إلا بالصبر، لا يمكن أن يتحقق لك مقابلة الصبر على مقابلة إساءة هؤلاء بالإحسان، ومقابلة قطيعتهم بالوصل، ومقابلة جهلهم بالحلم إلا بالصبر، ولهذا يحتاج الإنسان الصبر على طاعة ربه فيما يتعلق في علاقاته بالله –عز وجل-، وفيما يتعلق بعلاقاته بالخلق، فيما يتصل بالقريب والبعيد حتى الصاحب الصديق الجار كل هؤلاء لا يمكن أن تدرك السلامة في معاملاتهم إلا بالصبر والمثابرة في أداء حقوقهم، والصبر عليهم فيما يمكن أن يكون من تقصير أو إساءةٍ في معاملاتهم.
إذًا نحن بحاجة إلى الصبر في تحقيق طاعة الله –عز وجل-، كما أننا نحتاج إلى الصبر في كفِّ أنفسنا عما حرم الله عز وجل، فإنه لا سبيل إلى بلوغ المأمول من الفوز برضا الله –عز وجل- والسلامة في الدنيا والآخرة إلا بالصبر قال الله تعالى: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ الرعد: 24
صبر عن الشهوات والملذَّات هو مما يتحقق للإنسان به خيرٌ عظيم، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «حُفَّتِ الجنَّةُ بالمكارِهِ» ولا يمكن أن تجتاز هذه المكاره إلا بالصبر والمثابرة «وحُفَّتِ النّارُ بالشَّهَواتِ» صحيح مسلم (2822) الملذات فإذا ترك هذا سلم من شؤمها، وسلم من الشرور المترتبة عليها؛ فالنفس ميَّالة إلى الآثام سوَّاقة إلى الشهوات والملذات، إن لم يُلجمها الإنسان بلجام التقوى، ويحكمها بالصبر وقعت الآثام وتلطَّخت بالأوزار، فالإعراض عن الملاهي والإدبار عن الشهوات، لا يتأتى إلا لمن لبس ثوب الصبر، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ﴾ القصص: 80 وقد أمر الله تعالى رسوله بالصبر على طاعته، وحجز النفس عن معصيته فقال: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ الكهف: 28 وهذا صبر على طاعة الله ﴿وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ وهذا صبر عن معصية الله، فالإنسان محتاج إلى الصبر في هذا وذاك، وإذا حقق الصبر فيما يتعلق بصلته بربه جل في علاه، فكفَّ نفسه عن المحرمات، كف نفسه عن السيئات، وصبَّر نفسه عن معصيته رب الأرض والسموات فاز بالأجر العظيم فعاقبة الصبر الجميل جميلة، وأحسن أخلاق الرجال التحفظ، ولا تحصل الفضائل ولا تدرك إلا بحسن الصبر.
أيا صاحبي إن رمت أن تكسب العلا
وترقى إلى العلياء غير مزاحم
عليك بحسن الصبر في كل حالة
فما صابر فيما يروم بنادم[الأبيات لسويد السدوسي. انظر المستطرف لكل فن مستظرف:(ص504)]
الصابر لا يندم أبدًا، بل يدرك مؤمله ويفوز بمطلوبة في الأجل والعاجل.
إذًا هذه أنواع الصبر التي نحتاجها هو الصبر عن معصية الله –عز وجل-، أن نصبر أنفسنا عما نشتهيه، سواء كانت شهوة بطن، أو شهوة فرج، أو شهوة لسان، أو شهوة نظر، أو شهوة سمع، كل أنواع المشتهيات والملذات إذا كففت نفسك عنها صابرًا محتسبًا كان ما يعيبك الله تعالى من الخير والأجر والثواب العاجل والأجل ما يفوق ما تؤمله من التنعم بتلك المعاصي، ولهذا قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾النور:30 .
أزكي لهم أطيب لقلوبهم وأطهر لنفوسهم وأوسع لأرواحهم وأهنأ لعيشهم، فيدركون بطاعة الله –عز وجل- واللذة بامتثال أمره والبعد عما حرمه ونهى عنه ما لا يدركون له بتلك المعاصي فما صابر فيما يروم بنادم، هذا فيما يتصل عن الصبر عن معصية الله.
إذًا الصبر على طاعة الله به يؤدي الإنسان ما أمره الله تعالى به من الطاعات، وصبر عن معصية الله، وهذا يسلم به من المحرمات التي توبق الإنسان وتهلكه لو أقبل عليها وسلم نفسه لها.
أما ثالث أنواع الصبر التي نحتاجها في معاشنا وميعادنا، فهو الصبر على الأقدار؛ أقدار الله تعالى منها ما هو محبوب ومنها ما هو مكروه، المحبوب يقابل بالرضا والشكر والصبر على طاعة الله في تلك النعم بوضعها في محلها، والمكروه وهو ما يكون من الشدائد والبلايا والضوائق التي تدهى الناس وتنزل به ويضيق بها معاشهم وتتوالى عليهم بها المكروهات من النكبات والخطوب.
لا يمكن أن يتخطاها الإنسان ويتجاوزها إلا بالصبر لتخطي تلك الظلمات، فالصبر سبيل النجاة من تلك الكروب والمصائب والمدلهمات، لا يمكن أن يسلم الإنسان ويطيب عيشه فيما إذا نزل به مكروه إلا بالصبر كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ يوسف: 90 ، وكما قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ التغابن: 11 ، فجعل الله تعالى طريق سكون القلب وطريق راحته وسلامته من آثار البلايا والكروب والنوازل أن يقابل ذلك بالصبر على ما قضاه الله تعالى وقدره.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يستشعر هذا المعنى ليسلم مما في الدنيا من منغِّصات وغصص، فالدنيا مليئة بالغصص والمنغصات ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ البلد: 4 فمن ذا الذي لا يشكو همًّا؟ ومن ذا الذي لا يحمل همًا؟، ومن ذا الذي لم تطرقه الدواهي وتغشاه الكروب؟
طُبعَت على كَدَرٍ هذه الدنيا وأنت تريدها صفوًا من الأقدار ومكلِّف الأيام ضد طبائعها مُتطلِّبٌ في الماء جذوى نار.[الأبيات من رثاء التهامي لولده. انظر غذاء الألباب شرح منظومة الآداب:2/775]
ولذلك كل بني آدم لابد له من نازل ينزل به يشعره بضيم يحمل به هما كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ البلد: 4 أي عناء ومشقة، كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذا هذه الدنيا لمن، والناس إزاء هذه الحقيقة الخلقية القدرية الكونية وأن الدنيا لا تصفو لأحد على قسمين:
قوم قابلوا أقدار الله تعالى بالسخط، فإذا نزل بهم شيء من المكاره، فقدان حبيب، خسارة مال، فقدان وظيفة، إصابة بمرض، نزول مكروه في نفس أو أهل أو بلد قابلوا ذلك بالسخط والضجر والجزع فخسروا دينهم ودنياهم، وأضاعوا ما يهنأ به عيشهم.
فلذلك يتورطون فيما هو أشد من المصيبة، وذلك أن الجزع والضجر هو في الإثم والوزر من فعل الإنسان، ولذلك يكون شؤمه على الإنسان أعظم مما نزل به مما لا يد له فيه، مما لم يتسبب فيه لنفسه، فلذلك إذا قابلوا هذا بالضجر كان هذا من شؤم حالهم، فلا يرفع بضجرهم خطبٌ، ولا يكشف كرب، بل هو إثم وذنب.
وقوم يوفَّقون في نزول المصائب إلى الاحتساب والصبر، وإلى الرضا بقضاء الله تعالى وقدره، وبذل أسباب في دفع مما يكرهون بما نزل بهم من المصائب، فيستصحبون الصبر وينجون بذلك من شؤم هذه الحوادث والكروب كما قال تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ التغابن: 11 هؤلاء قوم قابلوا الحوادث والمكروهات بالصبر والرضا بقضاء الله تعالى، وفزعوا إلى ما أُمروا به من قول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ البقرة: 156 في المكروه كما قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ البقرة: 155 من هم؟
﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ البقرة: 156- 157 وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أم سلمه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «ما مِنْ مسلِمٍ تصيبُهُ مصيبَةٌ فيقولُ ما أمرَهُ اللهُ: إِنّا للهِ وإِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ اللهمَّ آجرْني في مُصيبَتِي، وأخلِفْ لي خيرًا منها. إلّا آجرَهُ اللهُ في مصيبَتِهِ، وأخلَفَ اللهُ لَهُ خيرًا منها» صحيح مسلم (918) .
فهذا الحديث يتضمن البشارة للصابر بأنه لن يدوم ما يكون من مكروه، وسيدرك ما يؤمِّل من محبوب، فإنه ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون فنحن ملكه جل في علاه وإليه نرجع، فيفعل بنا ما يشاء جل في علاه، ونحتسب ما نزل بنا من مكروه في رجوعنا إليه.
اللهم أجرنِ في مصيبتي أي: اجعل هذه المصيبة سببًا للإثابة والأجر لتكفير الخطايا ورفع الدرجات، واخلفنِ خيرًا منها إلا أجره الله في مصيبته، وعدٌ لا يُخلَف، واخلف له خيرًا منها، فينبغي للمؤمن أن يسترجع عند نزول المكروه وأن يصبر وأن يوقن أن ذلك خيرٌ له من أن يتمادى مع ما يقوم في نفسه من جزع، فإن الجزع والتسخط لا يزيدان العبد إلا شرًّا، وكلما بادر الإنسان إلى الصبر عند أول المصيبة هانت عليه، وهذا من إعانة الله وتوفيقه.
ولذلك لما رأى النبي –صلى الله عليه وسلم- امرأة تبكي عند قبر ابنها قال: «اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي» فأمرها بتقوى الله لترك ما كانت عليه من المجيء إلى هذا المكان، وأمرها بالصبر فقال: فاصبري أي على ما نزل بك من مصاب فقد ولدك قَالَتْ: إِلَيْكَ عَنِّي، فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي. لم تعرفه –صلى الله عليه وسلم- فلما أخبرت بأنه رسول الله جاءت إليه فقالت: إني لم أعرفك فقال: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى» صحيح البخاري (1283)، ومسلم (926) أي عند نزول أول المكروه ينبغي للإنسان أن يتجلد وأن يصبر وألا ينفعل، وألا يجزع فإن صبره سيكون جميل العاقبة، وحسن النهاية.
وإذا ترك الصبر كان ذلك خسارة له في دنياه بما جرى من مصاب، وفي آخرته بما ترتب على جزعه من العقوبة التي جعلها الله تعالى على ترك ما يجب من الصبر.
والصبر باتفاق أهل العلم الصبر على أقدار الله وعلى أقضيته المؤلمة مما أجمع العلماء على النَّدب إليه وعلى وجوبه، وأنه مما يدرك الإنسان به خيرًا كثيرًا في دنياه وفي آخرته.
المقدم:- فضيلة الشيخ أود أن أختم بنقطة أريد أن أسألك عنها فيما يتعلق بالصبر على أقدار الله –عز وجل- هل يستلزم الصبر عدمَ التسخط، وعدم في بعض الأحيان قد يخالج الإنسان شعور داخلي بالحزن وغيره هل يستلزم من الصبر ألا يحزن الإنسان أيضًا على هذا المصاب الذي أصابه؟
الشيخ:- لا تلازم بين هذا وذاك، بمعنى أن الإنسان إذا نزل به ما يكره يحزن، وهذا الحزن طبيعي في حدِّه الذي لا يخرج الإنسان إلى الضجر، ولذلك لما مات ابن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجد لفقده –صلى الله عليه وسلم- ألما وقال –صلى الله عليه وسلم- في إبراهيم: «إن العين لتدمع والقلب ليحزن» فأثبت دمع العين وهو أثر الحزن، وأثبت حزن القلب وهو ألمه بالمصاب، ثم قال: «وَلا نَقُولُ إِلّا ما يَرْضى رَبَّنا».
فالحزن ودمع العين المعتاد الطبيعي الذي لا يصل إلى حد الضجر والجزع، مما أذنت فيه الشريعة، ومما تقتضيه الطبيعة، لكن الممنوع هو أن ينفعل لذلك بترك ما أمر الله تعالى به ورسوله من الصبر، ولهذا قال: «تدْمَعُ العَيْنُ وَيَحْزَنُ القَلْبُ، وَلا نَقُولُ إِلّا ما يَرْضى رَبَّنا واللَّهِ يا إِبْراهِيمُ إنّا بكَ لَمَحْزُونُونَ» صحيح البخاري (1303)، ومسلم (2315) .
فأثبت الحزن لكن قيَّده بما لا يوقع العبد في مخالفة ما أمر الله تعالى من الصبر، فالعين تدمع، والقلب يحزن، ولكن لا ينفعل الإنسان بحزن قلبه ودمع عينه أن يكون جزعًا بنياحة أو ضرب ذي الخدود أو شقِّ الجيوب وإذا عوَّد الإنسان نفسه على هذه الخصلة عود نفسه على الصبر، ومن يتصبر يصبره الله.
إذا عود نفسه على التصبر على المكروه أعانه الله وصبره، وجعل ما يكون منه عند المصيبة غير مُخرجٍ له عما عليه أهل الصراط المستقيم من الصبر على قضاء الله تعالى وقدره، وطاعته فيما أمر جل في علاه.
المقدم: الله يعطيك العافية فضيلة الشيخ، شكر الله لك وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ على ما أجدت به وأفدت في هذه الحلقة.
الشيخ: وأنا أشكركم وأسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق والتسديد، وأن يفرغ علينا صبرًا ويلهمنا رشدنا وأن يعذنا من نزغات الشياطين وأن يجعلنا من الصابرين الشاكرين، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء وشرٍّ وبلاد المسلمين، وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى ما يحب ويرضى، وأن يسددهم في الأقوال والأعمال، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.