×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / برامج المصلح / الدين والحياة / الحلقة (182) وخلق الإنسان ضعيفا

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، مستمعينا الكرام في كل مكان، تحية طيبة طبتم وطابت أوقاتكم جميعا بكل خير، وأهلا وسهلا بكم معنا في بداية هذه الحلقة من برنامج الدين والحياة، عبر أثير إذاعة نداء الإسلام من مكة المكرمة في هذه الحلقة التي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى.

 في بداية هذه الحلقة تقبلوا تحياتي محدثكم "وائل حمدان الصبحي"، ومن الإخراج "فهد الحربي"، و"ياسر الثقفي".

مستمعينا الكرام ضيف حلقات برنامج الدين والحياة هو فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ "خالد المصلح" أستاذ الفقه بجامعة القصيم، فضيلة الشيخ السلام عليكم، وأهلا وسهلا بك معنا في بداية هذه الحلقة.

الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبا بك أخي وائل، حياك الله.

المقدم: أهلا وسهلا فضيلة الشيخ، بمشيئة الله تعالى في هذه الحلقة وكما بقيت حلقات الدين والحياة نستعرض موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، نحاول أن نسلط الضوء عليها من خلال كتاب الله عز وجل، ومن خلال سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، في هذه الحلقة نتحدث حول ﴿وخلق الإنسان ضعيفا﴾+++النساء:28--- ، سنأتي بالحديث على مجموعة من الآيات التي ورد فيها ذكر ضعف الإنسان في كتاب الله عز وجل، وسنتحدث أيضا عن أوجه هذا الضعف، وكيف ينجو الإنسان من هذا الضعف الذي خلقه الله عز وجل فيه؟

. فضيلة الشيخ ابتداء ونحن نتحدث حول هذا العنوان نريد نأخذ حديث القرآن الكريم عن الإنسان بالمجمل.

الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة لك أخي وائل ولفريق العمل، وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، حياكم الله جميعا.

 الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد..

فالقرآن الكريم هو خطاب الله تعالى للعالمين، خاطب الله تعالى به الإنس والجن، خاطب الله تعالى به الناس مبينا لهم ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم، وقد استوعب القرآن الحديث عن كل ما يكون سببا للنجاة بيانا وإيضاحا وترغيبا، وعن كل ما هو سبب للهلاك تحذيرا وتنبيها

وقد تحدث القرآن الكريم عن الإنسان حديثا مستفيضا واسعا وذلك أن القرآن رسالة للإنسان، وبالتالي فإنه خطاب للإنسان ببيان كل ما يكون سببا لنجاته وصلاح حاله.

حديث القرآن عن الإنسان جاء في مواضع عديدة تجوز الخمسين موضعا ذكر الله تعالى فيها لفظ الإنسان بهذه المفردة الصريحة، والمتتبع للخطاب القرآني والبيان الإلهي في القرآن الكريم لما في خطابه للإنسان يجد أنه خطاب متنوع بين فيه المبدأ، والخصال، والصفات، والمنتهى، والمآل، بين كل ذلك على وجه من الإيجاز، وعلى وجه من الإيضاح الذي يكشف كثيرا من الجوانب التي يتساءل عنها الإنسان، ويصبو إلى معرفتها.

فالقرآن تحدث عن مبدأ الخلق، خلق الإنسان وذكر ما يتعلق بأصل خلقته، وأطوار هذه الخلقة، وأطباقها، وذكر القرآن الإنسان وبين غاية خلقه، ومقصود وجوده، وذكره بأطباق معاشه، وأحواله، وتنقلاته في هذه الحياة من ولادته إلى منتهى إقامته في الدنيا، ولم يقتصر البيان على ذلك بل بين ما يكون عليه حال الإنسان بعد موته، وفي بعثه ونشوره، وما ينتهي إليه حاله ومآله إما في جنة أو في نار، فريق في الجنة، وفريق في السعير.

القرآن الكريم ذكر الإنسان بصفات كثيرة من صفاته وخصاله، والغالب فيما ذكره من هذه الصفات هي صفات جبلية خلقية هذب القرآن الإنسان عنها، وحذره من الاستسلام لها، فذكر القرآن جملة من الصفات والخصال المذمومة التي جبل عليها الإنسان، وبين له طريق السلامة من آثار هذه الخصال وعدم الاستسلام لها، وأن استسلامه لها يفضي به إلى الخسارة، ويفضي به إلى الهلاك في دنياه وفي أخره.

فالقرآن الكريم ذكر صفات كثيرة من صفات الإنسان، وخصاله، وبين له ما ينبغي أن تقابل به هذه الصفات، وما يسلم به من آثارها، وسنتطرق -إن شاء الله تعالى- إلى ذكر ذلك في نهاية هذا اللقاء.

 على سبيل المثال ذكر الله تعالى من خصال الإنسان جملة من الخصال المذمومة التي تعيق الإنسان عن تحقيق الغاية من خلقه، فالله تعالى بين الغاية من خلق الإنسان، قال تعالى: ﴿الذي خلق الموت والحياة﴾+++الملك:2---  موت الإنسان وحياته، ﴿ليبلوكم أيكم أحسن عملا﴾+++الملك:2--- ، وقال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾+++الذاريات:56--- .

فهذه الغاية يعيقها ويحول دون تحقيقها في الإنسان كثير من الخصال التي جبل عليها، وطلب منه أن يتخلص من آثارها، وشؤمها، قال الله تعالى: ﴿وكان الإنسان عجولا﴾+++الإسراء:11--- ، قال الله تعالى: ﴿وكان الإنسان قتورا﴾+++الإسراء:100--- ، قال الله تعالى: ﴿وكان الإنسان أكثر شيء جدلا﴾+++الكهف:54--- ، قال الله تعالى: ﴿لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط﴾+++فصلت:49--- ، قال الله تعالى: ﴿إن الإنسان خلق هلوعا﴾+++المعارج:19--- ، قال الله تعالى: ﴿كلا إن الإنسان ليطغى﴾+++العلق:6--- ، قال الله تعالى: ﴿إن الإنسان لربه لكنود﴾+++العاديات:6--- .

وعلى هذا النحو من البيان لخصال الإنسان التي يجمعها ما ذكره الله تعالى في آية حمل الأمانة كما قال تعالى: ﴿إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان﴾+++الأحزاب:72--- ، وهذه الأمانة هي موطن ومناط التكليف، هي موضوع التكليف الذي كلف الله تعالى به الناس وأرسل الرسل إليهم بخصوصها، وحملها الإنسان ثم ذكر المعيق الأعظم لأداء هذه الأمانة على الوجه المطلوب ﴿إنه كان ظلوما جهولا﴾+++الأحزاب:72---  ليس في كونه حمل الرسالة والأمانة، إنما في كونه لم يؤد حق هذه الأمانة بسبب ظلمه وجهله، ﴿إنه كان ظلوما جهولا﴾+++الأحزاب:72--- 

وعن هذين الوصفين تنبثق سائر الصفات التي ذكر الله تعالى في كتابه من صفات الإنسان من كونه قتورا، من كونه صاحب جدل، من كونه يئوسا، من كونه قنوطا، من كونه هلوعا وما إلى ذلك.

إذا القرآن وصف الإنسان وصف بيان وإيضاح لخصاله التي تعيق عن أداء الأمانة، وتحول بينه وبين القيام بما فرض الله تعالى عليه، وما من أجله خلق الإنسان، وهذا ليس المقصود به التعييب للإنسان فهو خلق الله عز وجل، والله أرحم بعباده من أن يعيبهم، وأن يذمهم إنما ذكر هذه الصفات ليحذرها الإنسان، وليتوقاها، وليأخذ بالأسباب التي ينجو بها من هذه الخصال، ومن هذه الصفات المذمومة، فهذه الصفات التي ذكرها الله تعالى في وصف الإنسان من كونه قتورا، كنودا، من كونه كفورا، يئوسا، من كونه ظلوما، جهولا، كل هذا لأجل أن يسلم الإنسان من الاستسلام لهذه الصفات التي إذا استسلم لها وانساق وراءها أوردته المهالك.

ومما ذكره الله تعالى من صفات الإنسان الضعف، وهذا هو مدار حديثنا في هذه الحلقة، حديثنا عن ضعف الإنسان وقد ذكر الله تعالى الضعف صريحا في ثلاثة مواضع، ضعف الإنسان صريحا بهذا اللفظ في ثلاثة مواضع:

 قال الله تعالى: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾+++البقرة:185--- .

 قال الله تعالى: ﴿ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما﴾+++النساء:27--- .

 قال تعالى: ﴿وخلق الإنسان ضعيفا﴾+++النساء:28--- ، فالله جل في علاه يخبر عن ضعف الإنسان بما جعله الله تعالى عليه من الخصال التي توجب ضعفه، الآية الكريمة: ﴿يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم *  والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا﴾+++النساء:26-28---  هذا الموضع الأول الذي جاء فيه ذكر ضعف الإنسان صريحا قال: ﴿وخلق الإنسان ضعيفا﴾+++النساء:28---  ذكرها في خاتمة هذه الآيات التي تبين ما يريده الله تعالى من عباده، وما يريده أعداء الإنسان بالإنسان من الانحراف والضلال، وختم ذلك بقوله: ﴿وخلق الإنسان ضعيفا.

أيضا ذكر الله تعالى ضعف الإنسان صريحا في قوله تعالى: ﴿الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير﴾+++الروم:54---  جل في علاه سبحانه وبحمده، فذكر الله تعالى الضعف هنا وكرره ثلاث مرات لبيان استيعاب الضعف لمراحل الإنسان في المبدأ، وفي الحال، وفي المآل والمنتهى، فالإنسان ضعيف في كل أطواره ليس به قوة ينمحي بها هذا الضعف بالكلية، وإن كان قد يقوى في بعض المراحل، أو في بعض الأحوال لكن تلك القوة لا تغيب هذا الضعف، فالضعف وصف للإنسان ذاتي كما قال الله تعالى: ﴿يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد﴾+++فاطر:15--- .

وذكر الله تعالى الضعف أيضا في موضع ثالث في قوله تعالى: ﴿الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا﴾+++الأنفال:66---  أي ضعفا على تحمل ما شرع وفرض فيما يتعلق بقتال الأعداء، ومقارعة من حاد الله ورسوله. هذه الآيات الكريمات الثلاث التي جاء فيها التصريح بالضعف هو إخبار عن ضعف الإنسان في خلقه، وبنيته، وعن ضعفه في قيامه بما أمر به، وما شرع له من الفرائض والشرائع، فالضعف قدري خلقي، والضعف أيضا فيما يتعلق بالصفات والخصال التي هي مناط التكليف، وبها يتحقق امتثال أمر الله عز وجل ورسوله.

واستشعار الإنسان بضعفه ليس عامل قعود أو نكوص عن الواجب والقيام بما شرع الله عز وجل، إنما هو بيان لحقيقة يحتاج الإنسان أن يدركها حتى يحسن التعامل معها، ولهذا جاءت الأحاديث في المسارعة إلى العمل الصالح، والقيام بما أمر الله تعالى به من الشرائع لأجل أن يستفيد الإنسان من أحوال قوته قبل أن تنزل به أحوال الضعف التي تعيقه عن القيام بما أمره الله تعالى به وشرعه له.

 جاء في السنن من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى- عنه قال صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال سبعا»، وهو أيضا في صحيح الإمام مسلم «هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر»+++سنن الترمذي (2306)، وقال: هذا حديث حسن غريب، والذي عند مسلم:بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم أو أمر العامة. صحيح مسلم:2947/129---.

 هذا الحديث ذكر المبادرة إلى صالح العمل قبل أن ينزل به مما يكون موجبا لضعفه عن القيام بما طلب منه من الأعمال، أو وجود ما يعيقه عن القيام بما طلب منه من الأعمال، فقوله: «بادروا بالأعمال» أي الأعمال المفروضة، والأعمال المتطوع بها الفرائض والنوافل سبعا، «بادروا بالأعمال سبعا» أي سبعة أحوال لا يخلو منها إنسان «هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر».

إذا ذكر ضعف الإنسان إنما هو لأجل أن يبادر إلى تلافي هذا الضعف بأخذ ما يمكن أن يكون من أسباب القوة التي يقوى بها على ما أمر الله تعالى به «فالمؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»+++[حديث النبيrأخرجه مسلم في صحيحه:2664/34]--- والقوة في الإيمان لا تكون إلا بالخلوص من تلك الصفات المذمومة التي ذكرها الله تعالى في صفات الإنسان في كتابه الحكيم فإنه إنما يقوى بخلوصه من تلك الصفات، وبمجاهدة نفسه عن الاستسلام لها والانقياد إلى مقتضياتها من عدم القيام بما أمر الله تعالى.

كلنا ضعيف أيها الإخوة والأخوات، كلنا فقير إلى الله عز وجل، وغنانا وقوتنا إنما هي بلجوئنا إلى الله تعالى واعتصامنا به سبحانه وبحمده

إذا هذا الضعف الذي ذكره الله تعالى في قوله: ﴿وخلق الإنسان ضعيفا﴾، وفي قوله تعالى: ﴿الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة﴾+++الروم:54--- ، وفي قوله تعالى: ﴿الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا﴾+++الأنفال:66--- ، هو بيان لعظيم رحمة الله تعالى بالإنسان، وأن الله تعالى راعى هذا الضعف الذي جبل عليه الإنسان بما شرعه من الأحكام، ولذلك ذكر الله تعالى التخفيف مقابل الضعف في موضعين: في قوله تعالى: ﴿الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا﴾+++الأنفال:66--- ، وكذلك في قوله -جل وعلا- في سورة النساء: ﴿والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا﴾+++النساء:27-28---  فذكر الله تعالى التخفيف في مقابل إخباره عن ضعف الإنسان، فالله من رحمته بعباده أن خفف عنهم فيها ذكرهم به من ضعفهم، وهذا فيما يتعلق بمؤاخذتهم، ورحمته بهم -جل في علاه-، وإحسانه إليهم، وعفوه عن تجاوزهم، وفتحه لباب التوبة لهم، فكان بهم رحيما -جل في علاه-، وكان بهم رءوفا سبحانه وبحمده.

وضعف الخلقة راعته الشريعة أيضا بما شرعته من أسباب التخفيف ﴿الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة﴾+++الروم:54---  فراعت الشريعة هذا الضعف بما شرعته من الأحكام المتعلقة بدفع المشقة المتعلقة بإزالة ما يكون من العناء المتعلق بالتكاليف في حال المرض، وكذلك في حال السفر، وكذلك في حال الخوف، كل ذلك مراعاة لهذا الضعف كما قال تعالى في الصلاة وهي الركن الأعظم من الأركان العملية في قوله صلى الله عليه وسلم بل في قول الله عز وجل: ﴿حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين *  فإن خفتم﴾ وهي حال ضعف ﴿فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون﴾+++البقرة:239--- .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمران: «صل قائما، فإن لم تستطع» فإن لم تستطع لمرض أو لغيره من الأسباب «فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب»+++صحيح البخاري (1117)--- ، وهذا كله مراعاة لهذا الضعف بالتشريع الذي يحقق قول الله تعالى: ﴿يريد الله أن يخفف عنكم﴾ الآن خفف الله عنكم. وكذلك في الصوم فقد شرع الله تعالى في أحكام الصوم ما يدفع عن الإنسان المشقة ويراعي هذا الضعف، قال تعالى: ﴿فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر﴾+++البقرة:184--- ، ﴿ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾+++البقرة:185--- .

وعلى هذا جرت سائر أحكام الشريعة: ﴿فاتقوا الله ما استطعتم﴾+++التغابن:16--- ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء، فدعوه»+++صحيح البخاري (7288)، ومسلم (1337)---، فالشريعة جاءت بالتخفيف الذي يزيل عن الإنسان ما يشق عليه ويراعي ضعفه، وما جبل عليه من ضعف يستوجب برحمة الله وفضله وإحسانه أن يخفف عنه، وذلك فضل الله وإحسانه جل في علاه.

 إذا هو بيان عظيم افتقار الإنسان لله عز وجل، وعظيم إحسان الله عز وجل على الإنسان بما شرعه من الأحكام المراعية لهذا الضعف.

المقدم: فضيلة الشيخ كنت أريد أن أسألك سؤالا قبل أن نذهب إلى الفاصل بعد ما أوردت سياقات ذكر ضعف الإنسان، أو سياقات ذكر الإنسان في كتاب الله عز وجل، ومن ثم أوردت سياقات ذكر ضعف الإنسان في كتاب الله عز وجل، كنت أريد أن أريد أن أسألك عن الحكمة من خلق الإنسان بهذا الضعف الذي ذكره الله عز وجل في أكثر من موضع في كتابه الكريم؟ لكن...

الشيخ: حكيم عليم.

المقدم: سبحانه وبحمده.

الشيخ: وكل خلقه مفتقرون إليه ضعفاء بين يديه -جل في علاه-، لا غنى بهم عن فضله وإحسان، فالخلق مقتضى كونهم  مخلوقين أنهم إلى الله ضعفاء، والله -جل في علاه- غني عنهم كما قال الله تعالى: ﴿وهو القاهر فوق عباده﴾+++الأنعام:18--- ، فمهما أوتي الخلق من القوة والقدرة هذا لا يخرجهم عن كونهم ضعفاء، فقراء، أذلاء، مقهورين لله رب العالمين، فهذا من مقتضيات خلقهم أن يكونوا على هذه الحال؛ إذ إن القوي القوة المطلقة هو الله -جل في علاه-، وأما سائر خلقه فهم وإن كانوا قد أعطاهم الله تعالى من القوة والقدرة ما يتفاوتون به إلا أنهم جميعهم فقراء، فالملائكة وهم أعظم خلق الله -عز وجل- أذلاء بين يديه -جل في علاه- لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فهذا مقتضى العبودية، الضعف هو من مقتضيات العبودية التي يظهر بها افتقار العبد إلى ربه -جل في علاه-، وبه يظهر عظيم إحسان الله تعالى إلى خلقه، فلذلك كان الإنسان على هذا النحو من الخلق في ضعفه انتظاما للوصف العام الذي يشترك فيه جميع الخلق، وهو أنهم جميعهم إلى الله فقراء، جميعهم إلى الله تعالى أذلاء مقهورون بحكمه جل في علاه، ليس لهم خروج عما يريده كما قال تعالى: ﴿إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا﴾+++مريم:93---  فهو الله رب العالمين، خالق الخلق جل في علاه.

المقدم: ذكرنا الآيات التي ذكر الله عز وجل فيها ضعف الإنسان، وتحدثنا حول الحكمة من خلق الإنسان بهذا الضعف، نريد أن نبين أوجه ضعف الإنسان أو مظاهر ضعف الإنسان ومن ثم ننتقل فضيلة الشيخ إلى الحديث عن سبل النجاة من آثار هذا الضعف.

الشيخ: الله -جل وعلا- أخبر في كتابه عن مظاهر كثيرة من المظاهر التي يظهر فيها ويبدو فيها ما يكون عليه الإنسان من ضعف وقصور، فالله تعالى ذكر ضعف الإنسان في نواحي عديدة من مناحي حياته ومعاشه، مبدأه ومعاده، من ذلك ما ذكره الله -جل في علاه- في محكم كتابه من ضعف مبدأ الإنسان، الإنسان خلق من لا شيء، بمعنى أن الله تعالى أوجده بقدرته من تراب، بمعنى أنه لم يكن شيئا أصلا، قال الله تعالى: ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا﴾+++الإنسان:1--- ، فأصل الإنسان عائد إلى أنه لا شيء في الوجود فهو أوجده من العدم سبحانه وبحمده، وليس شيئا يذكر أو شيئا يعرف قبل أن يوجده الله تعالى وقبل أن يخلقه، والله تعالى خلق الإنسان من حكمته أن خلقه من مادة مهينة، أصله من تراب، من طين لازب، ذكر الله تعالى الخلق في خلقه....

المقدم: فضيلة الشيخ يبدو أننا فقدنا الاتصال بفضيلة الشيخ/ خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، سنعاود الاتصال بمشيئة الله تعالى مع فضيلة الشيخ خالد.

 كنا نتحدث مستمعينا الكرام حول سياقات ضعف الإنسان أو مظاهر ضعف الإنسان، وتحدثنا قبل ذلك كيف جاء ذكر الإنسان في كتاب الله عز وجل، وذكرنا الآيات التي ذكر الله عز وجل فيها ضعف الإنسان، وتحديدا ذكر الله عز وجل ضعف الإنسان في ثلاث آيات، وذكر الله عز وجل قبلها الإنسان في أكثر من خمسين موضعا في كتاب الله -عز وجل-، وأيضا تحدثنا حول الحكمة من خلق الإنسان بهذا الضعف، وأن الله عز وجل خلق الخلق كلهم مقهورين مجبولين على عبادة الله جل وعلا.

عادونا الاتصال بفضيلة الشيخ، أهلا وسهلا مجددا حياك الله.

الشيخ: مرحبا بك حياك الله.

 حديثنا عن مظاهر ضعف خلق الإنسان أول مظاهر ضعف خلق الإنسان هو ضعفه في أصل خلقته، فإنه خلق من ضعف كما قال تعالى: ﴿الله الذي خلقكم من ضعف﴾+++الروم:54---  فمبدأ خلق الإنسان من ضعف، فهو من طين لازب وليتضح ضعف الإنسان في خلقه أن الله تعالى لما صور آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه أي تركه قبل أن ينفخ فيه الروح، فجعل إبليس يطيف بالإنسان أي يأتي وينظر إليه، ويتأمل في هذا الخلق الجديد الذي خلقه الله قبل أن ينفخ فيه الروح، ورأى من خلق الله له أنه أجوف أي أنه مجوف، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك، هكذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يتمالك» أي أن فيه من الضعف ما لا يقوى به على مجابهة ما يكون من كيد الشيطان إلا بالاعتصام بالله عز وجل، وأنه خلق لا يقوى على مواجهة ما يكون من أسباب الهلاك، وما أشبه ذلك مما يجري على الإنسان من الأحوال والحوادث.

فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك»+++صحيح مسلم (2611)---  يعني لا يحبس نفسه عما من مشتهيات، ولا يقوى على مقارعة ما يكون من الأحوال الخارجة عن مشتهياته وملذاته، فخلق الإنسان من ضعف، ﴿وخلق الإنسان ضعيفا﴾+++النساء:28---  كما قال الله جل وعلا، هو خلق من ضعف ابتداء بكونه خلق من ماء مهين، من سلالة من طين، خلق من هذا الأصل الذي يستقذره لاحتقاره وعدم رغبته في أن يصيبه منه شيء، ثم انتقل بعد ذلك إلى سائر أوجه الضعف التي تكون، فهو ضعيف في خلقته في أصلها، وهو ضعيف في بنيته فالإنسان في بنائه ضعيف، قال الله تعالى: ﴿لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس﴾+++غافر:57--- .

 وهذا يبين أن خلق الإنسان على هذه الصفة من الضعف توجب أن يعتبر ويتعظ بهذا الوصف الذي ذكره الله تعالى في خلقه، وأنه لا يستكبر فثمة في خلق الله تعالى ما هو أعظم منه خلقا، وأكبر منه قدرة، والعاقل البصير يعتبر بضعفه، ويكون ذلك حاملا له على التخلي عن الخصال المرذولة، يقول الله تعالى: ﴿خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين﴾+++النحل:4--- ، وهذا يتنافى مع أصل الخلقة الضعيفة، فالخصومة البينة والجحود والاستكبار ليس مما تقتضيه.... ولذلك ذكر الله تعالى: ﴿خلق الإنسان من نطفة﴾+++النحل:4---  وهذا مقتضاه أنه حقير، ضعيف، لا يستكبر، لا يخرج عن مراد خالقه لكن الواقع ﴿فإذا هو خصيم مبين﴾+++النحل:4--- .

والله تعالى يذكر الإنسان بمبدئه فيقول: ﴿أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا﴾+++مريم:67--- ، وهذا التذكير لأجل أن يرعوي الإنسان عن الاستكبار والمعاندة للشرع.

 إذا الضعف في أصل الخلقة، وكان من عدم لم يكن شيئا مذكورا، وثانيا أنه خلق من هذا الماء المهين، من النطفة، وأصله من تراب في خلق أبيه ﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين﴾+++المؤمنون:12--- ، أيضا هذا الخلق يخرج فيه الإنسان على نحو من الضعف وعدم القدرة ما هو بين واضح فإنه يخرج من بطن أمه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، قال الله تعالى: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا﴾+++النحل:78---  لا تعلمون ولا تقدرون أيضا، فأصل القدرة العلم، فإذا انتفى العلم انتفت القدرة، فليس عنده قدرة على شيء، ولا علم بشيء، ومنحه الله تعالى من أسباب المعرفة والقدرة ما تدرج إلى أن كان عالما عارفا بما يصلحه، على فعل ما يكون سببا لنجاته، مع افتقاره إلى ربه جل في علاه.

إذا هذا ثاني أوجه الضعف التي ذكرها الله تعالى، التي يتبين بها ما ذكره الله تعالى من ضعف الإنسان، ضعف الخلقة، ضعف البداية في الخلق، وهذا الذي أشار إليه في قوله تعالى: ﴿الله الذي خلقكم من ضعف﴾+++الروم:54--- ، قال: ﴿ثم جعل من بعد ضعف﴾+++الروم:54---  والضعف الأول هو ضعف الخلقة، والضعف الثاني هو ضعف الخلقة الابتدائية، وضعف القدرة في حال الطفولة وعدم المعرفة والعلم، ﴿ثم جعل من بعد ضعف قوة﴾+++الروم:54---  وهي القوة التي منح الله تعالى بها الإنسان العلم والمعرفة، التي يدرك بها مصالح معاشه.

 لكن حتى هذه القدرة قدرة ليست كاملة، بل قدرة ضعيفة يكتنفها أولا العجز عن أمور كثيرة، فالإنسان في قدرته عن أشياء كثيرة لا يقوى عليها بل قدرته محدودة سواء أن قدراته البدنية، أو قدراته الذهنية والعقلية التي يدرك بها المعارف فهو ضعيف في قدرته في بدنه، وجسده، وهو ضعيف أيضا في علمه ومعارفه.

 ومن دلائل ضعفه في علمه ومعرفته أنه ابتدأ بجهل: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا﴾+++النحل:78--- ، ثم بعد ذلك... معارف كثيرة يصلح بها معاش الناس لكن هذه المعارف لا تخرجه عن وصف الضعف الذي هو ملازم له في معارفه وعلومه، فروحه التي هي بين جنبيه وهي ألصق ما يكون بالإنسان منذ نشأته إلى نهايته، ومع ذلك يقول الله تعالى: ﴿ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾+++الإسراء:85---  فإذا كان الإنسان يجهل حقيقة هذه الروح التي تسكن بدنه، التي بها يكون معاشه، وحياته، وبها ينعم، وبها يشقى، لا يدري ما هي، ولا يعرف حقيقتها إلا الله عز وجل الذي من عليه بها، ومع ذلك يستكبر وينسى هذه الخصلة التي تبين حقيقة جهله وضعفه وافتقاره.

والإنسان يطغى بمعارفه الضعيفة القليلة ويظن أنه قد أحاط بكل شيئا علما، فيظن أن ما أتاه من كسب، ما أتته من عطايا وهبات كلها بعلمه ومعرفته كما قال أهل الفجور: ﴿قال إنما أوتيته على علم عندي﴾+++القصص:78---  وينسى ما يكون من فضل الله تعالى وإحسانه، ومن دلائل ضعفه في علمه ومعارفه أنه لا يعرف ما الذي سيجري له بعد لحظة، وهذا من مظاهر ضعف الإنسان.

 كلنا لا يعلم ما الذي سيكون بعد دقيقة من حالهم الآن، لا نعلم ماذا سيكون في المستقبل، جهلنا بالمستقبل من مظاهر ضعفنا، وعدم استغنائنا عن ربنا -جل في علاه- الذي يتولى أمورنا فإنه من عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة، ومن كان مع الله محسنا متقيا كان الله معه معينا وظهيرا ومؤيدا وناصرا ﴿إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون﴾+++النحل:128---

فعدم علمنا بما يكون بالمستقبل هو مما يظهر به ضعفنا، أيضا عدم إدراكنا لمصالحنا، قد يحب الإنسان شيئا ويتعلق به ويكون فيه هلاكه، ﴿وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون﴾+++البقرة:216--- ، فمن مظاهر ضعف الإنسان أنه قد يحب ما يكون فيه هلاكه، وقد يكره ما يكون فيه نجاته وصلاحه، وهذا من ضعف معارفه وعلومه.

 من مظاهر ضعف الإنسان عدم صبره، فالإنسان عجول، وصبره محدود، ومن عرف حال الإنسان عرف أن لا صبر له إلا بالله...

المقدم: فضيلة الشيخ يبدو أننا فقدنا الاتصال أيضا مرة أخرى، فضيلة الشيخ الاتصال يبدو في المنطقة التي أنت فيها سيء، فضيلة الشيخ تسمعني؟

الشيخ: اصبر وما صبرك إلا بالله..

المقدم: فضيلة الشيخ؟ 

الشيخ: أسمعك.

المقدم: جميل، الصوت يقطع كثيرا عندنا على الهواء، بودي أن نختم فضيلة الشيخ يعني الوقت أدركنا كثيرا، بودي أن نختم بالنقطة الأخيرة التي سنتحدث عنها وهي: كيف ينجو الإنسان من آثار هذا الضعف؟، لم يتبق أمامنا سوى ثلاث دقائق لو تكرمت نختم فيها.

الشيخ: هو فيما يتعلق بنجاة الإنسان من هذه الخصال التي ذكرها الله تعالى من ضعفه، وسائر ما يكون من الخصال المذمومة التي ذكرها الله تعالى في كتابه هو أن يكون الإنسان كما ذكر الله تعالى في صفة الهلع، قال الله تعالى: ﴿إن الإنسان خلق هلوعا﴾+++المعارج:19---  وهذه صفة مذمومة تجمع مجموعة من الصفات المذمومة، وقد فسرها الله تعالى بقوله: ﴿إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا﴾+++المعارج:20-21--- ، كيف ينجو من هذه الخصال المذمومة؟ 

نجاة الإنسان من الخصال المذمومة أن يراعي -كما قال الله تعالى- من خصال النجاة في صفات المؤمنين: ﴿إلا المصلين *  الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم *  والذين يصدقون بيوم الدين * والذين هم من عذاب ربهم مشفقون *  إن عذاب ربهم غير مأمون *  والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين *  فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون *  والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون *  والذين هم بشهاداتهم قائمون *  والذين هم على صلاتهم يحافظون *  أولئك في جنات مكرمون﴾+++المعارج:22-35--- .

إذا السلامة من الخصال المذمومة التي ذكرها الله تعالى في القرآن من كون الإنسان كنودا، يئوسا، قنوطا، جهولا، ظلوما أن يتصف بما أمر الله تعالى به عباده من صفات أهل الإيمان في صلواتهم، وفي سلامة قلوبهم، وفي أدائهم لحق الله في عبادته وحده لا شريك له، وفي أدائهم لحقوق الخلق في المال، وفي غيره من الحقوق، هذا هو الطريق.

أما ما يتعلق بضعف الإنسان فالشريعة راعت هذا الضعف بتنبيه الإنسان إليه، وتذكيره بافتقاره إلى الله عز وجل، وشرعت له من الأحكام ما يناسب هذا الضعف فالله تعالى لا يكلف نفسا إلا ما آتاها ﴿لا يكلف الله نفسا إلا وسعها﴾+++البقرة:286---  فالتكاليف الشرعية راعت هذا الضعف، ومن أعظم ما يقوى به الإنسان أن يعتصم بالرحمن -جل في علاه-، فإن من أعظم أسباب القوة في الإنسان التي يقوى بها على التكاليف الشرعية، وعلى مواجهة ما يكره من الحوادث الكونية، والأمراض، والآفات، والأوبئة، وسائر المخوفات أن يعتصم بالله عز وجل، وأن يتوكل عليه، وأن يلتجأ إليه، وأن يعرف عظيم قدر ربه فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.

فبالتوكل وهو عمل القلب والتقوى وهي عمل قلبي بدني، قولي يلتزم به الإنسان بأمر الله وشرعه، يخرج الإنسان عن الضعف إلى القوة بالله عز وجل.

 ومن أعظم ما يقوي الإنسان أن يلتزم بذكر الله عز وجل: ﴿فاذكروني أذكركم﴾+++البقرة:152---  ذكره -جل في علاه- من أسباب قوة الإنسان، وهو في مواجهة ما يلقاه من أسباب المخاوف، والمكروهات، وأيضا يعطيه قوة عن القيام بالأمر المشروع، والأمر الذي أمر به من الصبر على طاعة الله، الصبر عن معصية الله، الصبر على أقدار الله تعالى المؤلمة.

الخروج عن هذا الوصف من الضعف يكون بالتزام ما أمر الله تعالى به ورسوله ظاهرا وباطنا، بقدر التزام الإنسان بشرائعه ولجوئه إلى الله واعتصامه به يكون من أسباب قوته، وأدائه ما أمر الله تعالى، وسلامته من آثار هذا الضعف الذي يسترعي كل أحواله وشئونه.

المقدم: جميل شكر الله لك، كتب الله أجرك فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، شكرا جزيلا فضيلة الشيخ على ما أجدت به، وأفدت في هذه الحلقة.

الشيخ: وأنا أشكركم أيضا، وأسأل الله لي ولكم البصيرة في الدين، وأن يحفظنا من كل سوء وشر، كما أسأله أن يدفع عن بلادنا وعن البشرية ما يكرهونه، وأن يمدهم بالخير، وأن يدفع عنا الأوبئة والأمراض، وأن يعمنا بالفضل والإحسان والصحة والعافية، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى، كما أسأله جل في علاه أن يوفق ولاة أمرنا إلى ما يحب ويرضى خادم الحرمين الشريفين وولي عهده أن يوفقهم، وأن يسددهم في الأقوال والأعمال، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

المقدم: عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ونعم بالله، شكرا جزيلا فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم

المشاهدات:3529

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، مستمعينا الكرام في كل مكان، تحية طيبة طبتم وطابت أوقاتكم جميعًا بكل خير، وأهلاً وسهلاً بكم معنا في بداية هذه الحلقة من برنامج الدين والحياة، عبر أثير إذاعة نداء الإسلام من مكة المكرمة في هذه الحلقة التي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى.

 في بداية هذه الحلقة تقبلوا تحياتي محدثكم "وائل حمدان الصبحي"، ومن الإخراج "فهد الحربي"، و"ياسر الثقفي".

مستمعينا الكرام ضيف حلقات برنامج الدين والحياة هو فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ "خالد المصلح" أستاذ الفقه بجامعة القصيم، فضيلة الشيخ السلام عليكم، وأهلاً وسهلاً بك معنا في بداية هذه الحلقة.

الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبًا بك أخي وائل، حياك الله.

المقدم: أهلاً وسهلاً فضيلة الشيخ، بمشيئة الله تعالى في هذه الحلقة وكما بقيت حلقات الدين والحياة نستعرض موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، نحاول أن نسلط الضوء عليها من خلال كتاب الله عز وجل، ومن خلال سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، في هذه الحلقة نتحدث حول ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًاالنساء:28 ، سنأتي بالحديث على مجموعة من الآيات التي ورد فيها ذكر ضعف الإنسان في كتاب الله عز وجل، وسنتحدث أيضًا عن أوجه هذا الضعف، وكيف ينجو الإنسان من هذا الضعف الذي خلقه الله عز وجل فيه؟

. فضيلة الشيخ ابتداء ونحن نتحدث حول هذا العنوان نريد نأخذ حديث القرآن الكريم عن الإنسان بالمجمل.

الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة لك أخي وائل ولفريق العمل، وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، حياكم الله جميعًا.

 الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد..

فالقرآن الكريم هو خطاب الله تعالى للعالمين، خاطب الله تعالى به الإنس والجن، خاطب الله تعالى به الناس مبيِّنًا لهم ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم، وقد استوعب القرآن الحديث عن كل ما يكون سببًا للنجاة بيانًا وإيضاحًا وترغيبًا، وعن كل ما هو سبب للهلاك تحذيرًا وتنبيهًا

وقد تحدث القرآن الكريم عن الإنسان حديثًا مستفيضًا واسعًا وذلك أن القرآن رسالة للإنسان، وبالتالي فإنه خطاب للإنسان ببيان كل ما يكون سببًا لنجاته وصلاح حاله.

حديث القرآن عن الإنسان جاء في مواضع عديدة تجوز الخمسين موضعًا ذكر الله تعالى فيها لفظ الإنسان بهذه المفردة الصريحة، والمتتبع للخطاب القرآني والبيان الإلهي في القرآن الكريم لما في خطابه للإنسان يجد أنه خطاب متنوع بيَّن فيه المبدأ، والخصال، والصفات، والمنتهى، والمآل، بين كل ذلك على وجه من الإيجاز، وعلى وجه من الإيضاح الذي يكشف كثيرًا من الجوانب التي يتساءل عنها الإنسان، ويصبو إلى معرفتها.

فالقرآن تحدث عن مبدأ الخلق، خلق الإنسان وذكر ما يتعلق بأصل خلقته، وأطوار هذه الخلقة، وأطباقها، وذكر القرآن الإنسان وبين غاية خلقه، ومقصود وجوده، وذكره بأطباق معاشه، وأحواله، وتنقلاته في هذه الحياة من ولادته إلى منتهى إقامته في الدنيا، ولم يقتصر البيان على ذلك بل بين ما يكون عليه حال الإنسان بعد موته، وفي بعثه ونشوره، وما ينتهي إليه حاله ومآله إما في جنة أو في نار، فريق في الجنة، وفريق في السعير.

القرآن الكريم ذكر الإنسان بصفات كثيرة من صفاته وخصاله، والغالب فيما ذكره من هذه الصفات هي صفات جِبِلِّيَّة خلقية هذَّب القرآن الإنسان عنها، وحذره من الاستسلام لها، فذكر القرآن جملة من الصفات والخصال المذمومة التي جُبِل عليها الإنسان، وبين له طريق السلامة من آثار هذه الخصال وعدم الاستسلام لها، وأن استسلامه لها يفضي به إلى الخسارة، ويفضي به إلى الهلاك في دنياه وفي أخره.

فالقرآن الكريم ذكر صفات كثيرةً من صفات الإنسان، وخصاله، وبين له ما ينبغي أن تقابل به هذه الصفات، وما يَسْلم به من آثارها، وسنتطرق -إن شاء الله تعالى- إلى ذكر ذلك في نهاية هذا اللقاء.

 على سبيل المثال ذكر الله تعالى من خصال الإنسان جملة من الخصال المذمومة التي تُعِيق الإنسان عن تحقيق الغاية من خلقه، فالله تعالى بين الغاية من خلق الإنسان، قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَالملك:2  موت الإنسان وحياته، ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًاالملك:2 ، وقال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِالذاريات:56 .

فهذه الغاية يعيقها ويحول دون تحقيقها في الإنسان كثيرٌ من الخصال التي جُبِل عليها، وطُلب منه أن يتخلَّص من آثارها، وشؤمها، قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًاالإسراء:11 ، قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًاالإسراء:100 ، قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًاالكهف:54 ، قال الله تعالى: ﴿لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌفصلت:49 ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًاالمعارج:19 ، قال الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىالعلق:6 ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌالعاديات:6 .

وعلى هذا النحو من البيان لخصال الإنسان التي يجمعها ما ذكره الله تعالى في آية حمل الأمانة كما قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُالأحزاب:72 ، وهذه الأمانة هي موطن ومَناطُ التكليف، هي موضوع التكليف الذي كلَّف الله تعالى به الناس وأرسل الرسل إليهم بخصوصها، وحملها الإنسان ثم ذكر المُعيقَ الأعظم لأداء هذه الأمانة على الوجه المطلوب ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًاالأحزاب:72  ليس في كونه حَمَل الرسالة والأمانة، إنما في كونه لم يؤدِّ حق هذه الأمانة بسبب ظلمه وجهله، ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًاالأحزاب:72 

وعن هذين الوصفين تنبثق سائر الصفات التي ذكر الله تعالى في كتابه من صفات الإنسان من كونه قتورًا، من كونه صاحبَ جدل، من كونه يئوسًا، من كونه قنوطًا، من كونه هلوعًا وما إلى ذلك.

إذًا القرآن وصف الإنسان وصف بيان وإيضاحٍ لخصاله التي تعيق عن أداء الأمانة، وتحول بينه وبين القيام بما فرض الله تعالى عليه، وما من أجلِه خلق الإنسان، وهذا ليس المقصود به التعييب للإنسان فهو خلقُ الله عز وجل، والله أرحم بعباده من أن يعيبهم، وأن يذمَّهم إنما ذكر هذه الصفات ليحذَرَها الإنسان، وليتوقَّاها، وليأخذ بالأسباب التي ينجو بها من هذه الخصال، ومن هذه الصفات المذمومة، فهذه الصفات التي ذكرها الله تعالى في وصف الإنسان من كونه قتورًا، كنودًا، من كونه كفورًا، يئوسًا، من كونه ظلومًا، جهولًا، كل هذا لأجل أن يسلم الإنسان من الاستسلام لهذه الصفات التي إذا استسلم لها وانساق وراءها أوردته المهالك.

ومما ذكره الله تعالى من صفات الإنسان الضعف، وهذا هو مدار حديثنا في هذه الحلقة، حديثنا عن ضعف الإنسان وقد ذكر الله تعالى الضعف صريحًا في ثلاثة مواضع، ضعف الإنسان صريحًا بهذا اللفظ في ثلاثة مواضع:

 قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَالبقرة:185 .

 قال الله تعالى: ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًاالنساء:27 .

 قال تعالى: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًاالنساء:28 ، فالله جل في علاه يخبر عن ضعف الإنسان بما جعله الله تعالى عليه من الخصال التي توجب ضعفه، الآية الكريمة: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *  وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًاالنساء:26-28  هذا الموضع الأول الذي جاء فيه ذكر ضعف الإنسان صريحًا قال: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًاالنساء:28  ذكرها في خاتمة هذه الآيات التي تبين ما يريده الله تعالى من عباده، وما يريده أعداءُ الإنسان بالإنسان من الانحراف والضلال، وختم ذلك بقوله: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا.

أيضًا ذكر الله تعالى ضعف الإنسان صريحًا في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُالروم:54  جل في علاه سبحانه وبحمده، فذكر الله تعالى الضعف هنا وكرَّره ثلاثَ مرات لبيان استيعاب الضعف لمراحل الإنسان في المبدأ، وفي الحال، وفي المآل والمنتهى، فالإنسان ضعيف في كل أطواره ليس به قوة ينمحي بها هذا الضعف بالكلية، وإن كان قد يقوى في بعض المراحل، أو في بعض الأحوال لكن تلك القوة لا تُغيِّب هذا الضعف، فالضعف وصف للإنسان ذاتيٌّ كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُفاطر:15 .

وذكر الله تعالى الضعف أيضًا في موضع ثالث في قوله تعالى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًاالأنفال:66  أي ضعفًا على تحمل ما شرع وفرض فيما يتعلق بقتال الأعداء، ومقارعة من حادَّ الله ورسوله. هذه الآيات الكريمات الثلاث التي جاء فيها التصريح بالضعف هو إخبار عن ضعف الإنسان في خلقه، وبنيته، وعن ضعفه في قيامه بما أمر به، وما شرع له من الفرائض والشرائع، فالضعف قدريٌّ خِلقيٌّ، والضعف أيضًا فيما يتعلق بالصفات والخصال التي هي مناط التكليف، وبها يتحقق امتثال أمر الله عز وجل ورسوله.

واستشعار الإنسان بضعفه ليس عامل قعود أو نكوص عن الواجب والقيام بما شرع الله عز وجل، إنما هو بيان لحقيقة يحتاج الإنسان أن يدركها حتى يحسن التعامل معها، ولهذا جاءت الأحاديث في المسارعة إلى العمل الصالح، والقيام بما أمر الله تعالى به من الشرائع لأجل أن يستفيد الإنسان من أحوال قُوَّته قبل أن تنزل به أحوال الضعف التي تُعِيقه عن القيام بما أمره الله تعالى به وشرعه له.

 جاء في السنن من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى- عنه قال صلى الله عليه وسلم: «بادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعاً»، وهو أيضًا في صحيح الإمام مسلم «هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلاَّ فَقراً مُنسياً، أَوْ غِنًى مُطغِياً، أَوْ مَرَضاً مُفسِدا، أَوْ هَرَماً مُفْنداً، أَوْ مَوتاً مُجْهزاً، أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ فالسَّاعَةُ أدهَى وَأَمَرّ»سنن الترمذي (2306)، وقال: هذا حديث حسن غريب، والذي عند مسلم:بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ. صحيح مسلم:2947/129.

 هذا الحديث ذكر المبادرةَ إلى صالح العمل قبل أن ينزل به مما يكون مُوجبًا لضعفه عن القيام بما طُلب منه من الأعمال، أو وجود ما يعيقه عن القيام بما طلب منه من الأعمال، فقوله: «بادروا بالأعمال» أي الأعمال المفروضة، والأعمال المتطَوَّع بها الفرائض والنوافل سبعًا، «بادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعاً» أي سبعة أحوال لا يخلو منها إنسان «هَلْ تَنْتَظِرُونَ إلاَّ فَقراً مُنسياً، أَوْ غِنىً مُطغِياً، أَوْ مَرَضاً مُفسِدا، أَوْ هَرَماً مُفْنداً، أَوْ مَوتاً مُجْهزاً، أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوْ السَّاعَةَ فالسَّاعَةُ أدهَى وَأَمَرّ».

إذًا ذكر ضعف الإنسان إنما هو لأجل أن يبادر إلى تلافي هذا الضعف بأخذ ما يمكن أن يكون من أسباب القوة التي يقوى بها على ما أمر الله تعالى به «فالمؤمن القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ»[حديث النبيrأخرجه مسلم في صحيحه:2664/34] والقوة في الإيمان لا تكون إلا بالخلوص من تلك الصفات المذمومة التي ذكرها الله تعالى في صفات الإنسان في كتابه الحكيم فإنه إنما يقوى بخلوصه من تلك الصفات، وبمجاهدة نفسه عن الاستسلام لها والانقياد إلى مقتضياتها من عدم القيام بما أمر الله تعالى.

كلنا ضعيف أيها الإخوة والأخوات، كلنا فقير إلى الله عز وجل، وغنانا وقوتنا إنما هي بلجوئنا إلى الله تعالى واعتصامنا به سبحانه وبحمده

إذًا هذا الضعف الذي ذكره الله تعالى في قوله: ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾، وفي قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةًالروم:54 ، وفي قوله تعالى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًاالأنفال:66 ، هو بيان لعظيم رحمة الله تعالى بالإنسان، وأن الله تعالى راعى هذا الضعف الذي جبل عليه الإنسان بما شرعه من الأحكام، ولذلك ذكر الله تعالى التخفيف مقابل الضعف في موضعين: في قوله تعالى: ﴿الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًاالأنفال:66 ، وكذلك في قوله -جل وعلا- في سورة النساء: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًاالنساء:27-28  فذكر الله تعالى التخفيف في مقابل إخباره عن ضعف الإنسان، فالله من رحمته بعباده أن خفف عنهم فيها ذكرهم به من ضعفهم، وهذا فيما يتعلق بمؤاخذتهم، ورحمته بهم -جل في علاه-، وإحسانه إليهم، وعفوه عن تجاوزهم، وفتحه لباب التوبة لهم، فكان بهم رحيمًا -جل في علاه-، وكان بهم رءوفًا سبحانه وبحمده.

وضعف الخِلقة راعَتْه الشريعة أيضًا بما شرعته من أسباب التخفيف ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةًالروم:54  فراعت الشريعة هذا الضعف بما شرعته من الأحكام المتعلقة بدفع المشقَّة المتعلقة بإزالة ما يكون من العناء المتعلق بالتكاليف في حال المرض، وكذلك في حال السفر، وكذلك في حال الخوف، كل ذلك مراعاةٌ لهذا الضعف كما قال تعالى في الصلاة وهي الركن الأعظم من الأركان العملية في قوله صلى الله عليه وسلم بل في قول الله عز وجل: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ *  فَإِنْ خِفْتُمْ﴾ وهي حال ضعف ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾البقرة:239 .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمران: «صَلِّ قَائِمًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِع» فإن لم تستطع لمرض أو لغيره من الأسباب «فَقَاعِدًا، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»صحيح البخاري (1117) ، وهذا كله مراعاة لهذا الضعف بالتشريع الذي يحقق قول الله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ﴾ الآن خفف الله عنكم. وكذلك في الصوم فقد شرع الله تعالى في أحكام الصوم ما يدفع عن الإنسان المشقَّة ويراعي هذا الضعف، قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَالبقرة:184 ، ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَالبقرة:185 .

وعلى هذا جرت سائر أحكام الشريعة: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْالتغابن:16 ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَدَعُوهُ»صحيح البخاري (7288)، ومسلم (1337)، فالشريعة جاءت بالتخفيف الذي يزيل عن الإنسان ما يشقُّ عليه ويراعي ضعفه، وما جُبِل عليه من ضعف يستوجب برحمة الله وفضله وإحسانه أن يخفف عنه، وذلك فضل الله وإحسانه جل في علاه.

 إذًا هو بيان عظيم افتقار الإنسان لله عز وجل، وعظيم إحسان الله عز وجل على الإنسان بما شرعه من الأحكام المراعية لهذا الضعف.

المقدم: فضيلة الشيخ كنت أريد أن أسألك سؤالًا قبل أن نذهب إلى الفاصل بعد ما أوردت سياقات ذكر ضعف الإنسان، أو سياقات ذكر الإنسان في كتاب الله عز وجل، ومن ثمَّ أوردت سياقات ذكر ضعف الإنسان في كتاب الله عز وجل، كنت أريد أن أريد أن أسألك عن الحكمة من خلق الإنسان بهذا الضعف الذي ذكره الله عز وجل في أكثر من موضع في كتابه الكريم؟ لكن...

الشيخ: حكيم عليم.

المقدم: سبحانه وبحمده.

الشيخ: وكل خلقه مفتقرون إليه ضعفاء بين يديه -جل في علاه-، لا غنى بهم عن فضله وإحسان، فالخلق مقتضى كونهم  مخلوقين أنهم إلى الله ضعفاء، والله -جل في علاه- غنيٌّ عنهم كما قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِالأنعام:18 ، فمهما أُوتيَ الخلق من القوة والقدرة هذا لا يخرجهم عن كونهم ضعفاء، فقراء، أذلاء، مقهورين لله رب العالمين، فهذا من مقتضيات خلقهم أن يكونوا على هذه الحال؛ إذ إن القَويَّ القوةَ المطلقة هو الله -جل في علاه-، وأما سائر خلقه فهم وإن كانوا قد أعطاهم الله تعالى من القوة والقدرة ما يتفاوتون به إلا أنهم جميعهم فقراء، فالملائكة وهم أعظم خلق الله -عز وجل- أذلَّاء بين يديه -جل في علاه- لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فهذا مقتضى العبودية، الضعف هو من مقتضيات العبودية التي يظهر بها افتقار العبد إلى ربه -جل في علاه-، وبه يظهر عظيم إحسان الله تعالى إلى خلقه، فلذلك كان الإنسان على هذا النحو من الخلق في ضعفه انتظامًا للوصف العام الذي يشترك فيه جميع الخلق، وهو أنهم جميعهم إلى الله فقراء، جميعهم إلى الله تعالى أذلاء مقهورون بحكمه جلَّ في علاه، ليس لهم خروج عما يريده كما قال تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًامريم:93  فهو الله رب العالمين، خالق الخلق جل في علاه.

المقدم: ذكرنا الآيات التي ذكر الله عز وجل فيها ضعف الإنسان، وتحدثنا حول الحكمة من خلق الإنسان بهذا الضعف، نريد أن نبين أوجه ضعف الإنسان أو مظاهر ضعف الإنسان ومن ثم ننتقل فضيلة الشيخ إلى الحديث عن سُبل النجاة من آثار هذا الضعف.

الشيخ: الله -جل وعلا- أخبر في كتابه عن مظاهر كثيرة من المظاهر التي يَظهر فيها ويبدو فيها ما يكون عليه الإنسان من ضعف وقصور، فالله تعالى ذكر ضعف الإنسان في نواحي عديدة من مناحي حياته ومعاشه، مبدأه ومعاده، من ذلك ما ذكره الله -جل في علاه- في محكم كتابه من ضعف مبدأ الإنسان، الإنسان خلق من لا شيء، بمعنى أن الله تعالى أوجده بقدرته من تراب، بمعنى أنه لم يكن شيئًا أصلاً، قال الله تعالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًاالإنسان:1 ، فأصل الإنسان عائد إلى أنه لا شيء في الوجود فهو أوجده من العدم سبحانه وبحمده، وليس شيئًا يذكر أو شيئًا يعرف قبل أن يُوجِده الله تعالى وقبل أن يخلقه، والله تعالى خلق الإنسان من حكمته أن خلقه من مادة مَهينة، أصله من تراب، من طين لازب، ذكر الله تعالى الخلق في خلقه....

المقدم: فضيلة الشيخ يبدو أننا فقدنا الاتصال بفضيلة الشيخ/ خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، سنعاود الاتصال بمشيئة الله تعالى مع فضيلة الشيخ خالد.

 كنا نتحدث مستمعينا الكرام حول سياقات ضعف الإنسان أو مظاهر ضعف الإنسان، وتحدثنا قبل ذلك كيف جاء ذكر الإنسان في كتاب الله عز وجل، وذكرنا الآيات التي ذكر الله عز وجل فيها ضعف الإنسان، وتحديدًا ذكر الله عز وجل ضعف الإنسان في ثلاث آيات، وذكر الله عز وجل قبلها الإنسان في أكثر من خمسين موضعًا في كتاب الله -عز وجل-، وأيضًا تحدثنا حول الحكمة من خلق الإنسان بهذا الضعف، وأن الله عز وجل خلق الخلق كلهم مقهورين مجبولين على عبادة الله جل وعلا.

عادونا الاتصال بفضيلة الشيخ، أهلاً وسهلاً مجدَّدًا حياك الله.

الشيخ: مرحبًا بك حياك الله.

 حديثنا عن مظاهر ضعف خلق الإنسان أول مظاهر ضعف خلق الإنسان هو ضعفه في أصل خلقته، فإنه خلق من ضعف كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍالروم:54  فمبدأ خلق الإنسان من ضعف، فهو من طين لازب وليتضح ضعف الإنسان في خلقه أن الله تعالى لما صوَّر آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه أي تركه قبل أن يَنفخ فيه الروح، فجعل إبليس يطيف بالإنسان أي يأتي وينظر إليه، ويتأمل في هذا الخلق الجديد الذي خلقه الله قبل أن ينفخ فيه الروح، ورأى من خلق الله له أنه أجوف أي أنه مجوَّف، فلما رآه أجوف عرف أنه خُلق خلقًا لا يَتَمَالك، هكذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا يَتَمالَك» أي أن فيه من الضعف ما لا يقوى به على مجابهة ما يكون من كيد الشيطان إلا بالاعتصام بالله عز وجل، وأنه خلق لا يقوى على مواجهة ما يكون من أسباب الهلاك، وما أشبه ذلك مما يجري على الإنسان من الأحوال والحوادث.

فقوله -صلى الله عليه وسلم-: «عَرَفَ أنَّه خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمالَكُ»صحيح مسلم (2611)  يعني لا يحبس نفسه عما من مشتهيات، ولا يقوى على مقارعة ما يكون من الأحوال الخارجة عن مشتهياته وملذَّاته، فخلق الإنسان من ضعف، ﴿وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًاالنساء:28  كما قال الله جل وعلا، هو خلق من ضعف ابتداء بكونه خلق من ماء مَهِين، من سُلالة من طين، خلق من هذا الأصل الذي يستقذِره لاحتقاره وعدم رغبته في أن يصيبه منه شيء، ثم انتقل بعد ذلك إلى سائر أوجه الضعف التي تكون، فهو ضعيف في خلقته في أصلها، وهو ضعيف في بنيته فالإنسان في بنائه ضعيف، قال الله تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِغافر:57 .

 وهذا يبين أن خلق الإنسان على هذه الصفة من الضعف توجب أن يعتبر ويتَّعظ بهذا الوصف الذي ذكره الله تعالى في خلقه، وأنه لا يستكبر فثمة في خلق الله تعالى ما هو أعظم منه خلقًا، وأكبر منه قُدرة، والعاقل البصير يعتبر بضعفه، ويكون ذلك حاملاً له على التخلِّي عن الخصال المرذولة، يقول الله تعالى: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌالنحل:4 ، وهذا يتنافى مع أصل الخلقة الضعيفة، فالخصومة البيِّنة والجحود والاستكبار ليس مما تقتضيه.... ولذلك ذكر الله تعالى: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍالنحل:4  وهذا مقتضاه أنه حقير، ضعيف، لا يستكبر، لا يخرج عن مراد خالقه لكن الواقع ﴿فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌالنحل:4 .

والله تعالى يذكِّر الإنسان بمبدئه فيقول: ﴿أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًامريم:67 ، وهذا التذكير لأجل أن يرعوي الإنسان عن الاستكبار والمعاندة للشرع.

 إذًا الضعف في أصل الخلقة، وكان من عدم لم يكن شيئًا مذكورًا، وثانيًا أنه خلق من هذا الماء المهين، من النطفة، وأصله من تراب في خلق أبيه ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍالمؤمنون:12 ، أيضًا هذا الخلق يخرج فيه الإنسان على نحوٍ من الضعف وعدم القدرة ما هو بين واضح فإنه يخرج من بطن أمه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًاالنحل:78  لا تعلمون ولا تقدرون أيضًا، فأصل القدرة العلم، فإذا انتفى العلم انتفت القدرة، فليس عنده قدرة على شيء، ولا علمٌ بشيء، ومنحه الله تعالى من أسباب المعرفة والقدرة ما تدرَّج إلى أن كان عالمًا عارفًا بما يصلحه، على فعل ما يكون سببًا لنجاته، مع افتقاره إلى ربه جل في علاه.

إذًا هذا ثاني أوجه الضعف التي ذكرها الله تعالى، التي يتبين بها ما ذكره الله تعالى من ضعف الإنسان، ضعف الخلقة، ضعف البداية في الخلق، وهذا الذي أشار إليه في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍالروم:54 ، قال: ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍالروم:54  والضعف الأول هو ضعف الخلقة، والضعف الثاني هو ضعف الخلقة الابتدائية، وضعف القدرة في حال الطفولة وعدم المعرفة والعلم، ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةًالروم:54  وهي القوة التي مَنَح الله تعالى بها الإنسان العلم والمعرفة، التي يدرك بها مصالح معاشه.

 لكن حتى هذه القدرة قدرةٌ ليست كاملة، بل قدرة ضعيفة يكتنفها أولاً العجز عن أمور كثيرة، فالإنسان في قدرته عن أشياء كثيرة لا يقوى عليها بل قدرته محدودة سواء أن قدراته البدنية، أو قدراته الذهنية والعقلية التي يدرك بها المعارف فهو ضعيف في قدرته في بدنه، وجسده، وهو ضعيف أيضًا في علمه ومعارفه.

 ومن دلائل ضعفه في علمه ومعرفته أنه ابتدأ بجهل: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًاالنحل:78 ، ثم بعد ذلك... معارف كثيرة يصلح بها معاش الناس لكن هذه المعارف لا تخرجه عن وصف الضعف الذي هو ملازم له في معارفه وعلومه، فروحه التي هي بين جنبيه وهي ألصق ما يكون بالإنسان منذ نشأته إلى نهايته، ومع ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًاالإسراء:85  فإذا كان الإنسان يجهل حقيقة هذه الروح التي تسكن بدنه، التي بها يكون معاشُه، وحياته، وبها ينعم، وبها يشقى، لا يدري ما هي، ولا يعرف حقيقتها إلا الله عز وجل الذي منَّ عليه بها، ومع ذلك يستكبر وينسى هذه الخصلة التي تبين حقيقة جهله وضعفه وافتقاره.

والإنسان يطغى بمعارفه الضعيفة القليلة ويظن أنه قد أحاط بكل شيئًا علمًا، فيظن أن ما أتاه من كسب، ما أتته من عطايا وهبات كلُّها بعلمه ومعرفته كما قال أهل الفجور: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِيالقصص:78  وينسى ما يكون من فضل الله تعالى وإحسانه، ومن دلائل ضعفه في علمه ومعارفه أنه لا يعرف ما الذي سيجري له بعد لحظة، وهذا من مظاهر ضعف الإنسان.

 كلنا لا يعلم ما الذي سيكون بعد دقيقة من حالهم الآن، لا نعلم ماذا سيكون في المستقبل، جهلُنا بالمستقبل من مظاهر ضعفنا، وعدم استغنائنا عن ربنا -جل في علاه- الذي يتولى أمورنا فإنه من عرف الله في الرخاء عرفه في الشدة، ومن كان مع الله مُحسنًا متَّقِيًا كان الله معه مُعينًا وظهيرًا ومؤيِّدًا وناصرًا ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَالنحل:128

فعدم علمنا بما يكون بالمستقبل هو مما يظهر به ضعفُنا، أيضًا عدم إدراكنا لمصالحنا، قد يحب الإنسان شيئًا ويتعلق به ويكون فيه هلاكُه، ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَالبقرة:216 ، فمن مظاهر ضعف الإنسان أنه قد يحبُّ ما يكون فيه هلاكه، وقد يكره ما يكون فيه نجاتُه وصلاحه، وهذا من ضعف معارفه وعلومه.

 من مظاهر ضعف الإنسان عدمُ صبره، فالإنسان عَجولٌ، وصبره محدود، ومن عرف حال الإنسان عرف أن لا صبر له إلا بالله...

المقدم: فضيلة الشيخ يبدو أننا فقدنا الاتصال أيضًا مرة أخرى، فضيلة الشيخ الاتصال يبدو في المنطقة التي أنت فيها سيءٌ، فضيلة الشيخ تسمعني؟

الشيخ: اصبر وما صبرك إلا بالله..

المقدم: فضيلة الشيخ؟ 

الشيخ: أسمعك.

المقدم: جميل، الصوت يقطع كثيرًا عندنا على الهواء، بودي أن نختم فضيلة الشيخ يعني الوقت أدركنا كثيرًا، بودِّي أن نختم بالنقطة الأخيرة التي سنتحدث عنها وهي: كيف ينجو الإنسان من آثار هذا الضعف؟، لم يتبق أمامنا سوى ثلاث دقائق لو تكرمت نختم فيها.

الشيخ: هو فيما يتعلق بنجاة الإنسان من هذه الخصال التي ذكرها الله تعالى من ضعفه، وسائر ما يكون من الخصال المذمومة التي ذكرها الله تعالى في كتابه هو أن يكون الإنسان كما ذكر الله تعالى في صفة الهلع، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًاالمعارج:19  وهذه صفة مذمومة تجمع مجموعة من الصفات المذمومة، وقد فسَّرها الله تعالى بقوله: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًاالمعارج:20-21 ، كيف ينجو من هذه الخصال المذمومة؟ 

نجاة الإنسان من الخصال المذمومة أن يراعي -كما قال الله تعالى- من خصال النجاة في صفات المؤمنين: ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ *  الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ *  وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ *  إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ *  وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *  فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *  وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *  وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ *  وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *  أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَالمعارج:22-35 .

إذًا السلامة من الخصال المذمومة التي ذكرها الله تعالى في القرآن من كون الإنسان كنودًا، يئوسًا، قنوطًا، جهولًا، ظلومًا أن يتصف بما أمر الله تعالى به عباده من صفات أهل الإيمان في صلواتهم، وفي سلامة قلوبهم، وفي أدائهم لحق الله في عبادته وحده لا شريك له، وفي أدائهم لحقوق الخلق في المال، وفي غيره من الحقوق، هذا هو الطريق.

أما ما يتعلق بضعف الإنسان فالشريعة راعت هذا الضعف بتنبيه الإنسان إليه، وتذكيره بافتقاره إلى الله عز وجل، وشرعت له من الأحكام ما يناسب هذا الضعف فالله تعالى لا يكلف نفسًا إلا ما آتاها ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَاالبقرة:286  فالتكاليف الشرعية راعت هذا الضعف، ومن أعظم ما يقوى به الإنسان أن يعتصم بالرحمن -جل في علاه-، فإن من أعظم أسباب القوة في الإنسان التي يقوى بها على التكاليف الشرعية، وعلى مواجهة ما يكره من الحوادث الكونية، والأمراض، والآفات، والأوبئة، وسائر المخوفات أن يعتصم بالله عز وجل، وأن يتوكل عليه، وأن يلتجأ إليه، وأن يعرف عظيم قدر ربه فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب.

فبالتوكل وهو عمل القلب والتقوى وهي عمل قلبي بدني، قولي يلتزم به الإنسان بأمر الله وشرعه، يخرج الإنسان عن الضعف إلى القوة بالله عز وجل.

 ومن أعظم ما يقوي الإنسان أن يلتزم بذكر الله عز وجل: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْالبقرة:152  ذكره -جل في علاه- من أسباب قوة الإنسان، وهو في مواجهة ما يلقاه من أسباب المخاوف، والمكروهات، وأيضًا يعطيه قوةً عن القيام بالأمر المشروع، والأمر الذي أمر به من الصبر على طاعة الله، الصبر عن معصية الله، الصبر على أقدار الله تعالى المؤلمة.

الخروج عن هذا الوصف من الضعف يكون بالتزام ما أمر الله تعالى به ورسوله ظاهرًا وباطنًا، بقدر التزام الإنسان بشرائعه ولجوئه إلى الله واعتصامه به يكون من أسباب قوته، وأدائه ما أمر الله تعالى، وسلامته من آثار هذا الضعف الذي يسترعي كل أحواله وشئونه.

المقدم: جميل شكر الله لك، كتب الله أجرك فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، شكرًا جزيلاً فضيلة الشيخ على ما أجدت به، وأفدت في هذه الحلقة.

الشيخ: وأنا أشكركم أيضًا، وأسأل الله لي ولكم البصيرة في الدين، وأن يحفظنا من كل سوء وشرٍّ، كما أسأله أن يدفع عن بلادنا وعن البشرية ما يكرهونه، وأن يمدَّهم بالخير، وأن يدفع عنا الأوبئة والأمراض، وأن يعمَّنا بالفضل والإحسان والصحة والعافية، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى، كما أسأله جل في علاه أن يوفق ولاة أمرنا إلى ما يحب ويرضى خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده أن يوفقهم، وأن يسددهم في الأقوال والأعمال، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

المقدم: عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ونعم بالله، شكرًا جزيلاً فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : الخوف من الله تعالى ( عدد المشاهدات42599 )
3. خطبة : الحسد ( عدد المشاهدات29317 )
4. خطبة: يوم الجمعة سيد الأيام ( عدد المشاهدات24694 )
5. خطبة : الأعمال بالخواتيم ( عدد المشاهدات22205 )
6. حكم الإيجار المنتهي بالتمليك ( عدد المشاهدات20769 )
7. خطبة : احرص على ما ينفعك ( عدد المشاهدات20340 )
8. خطبة : الخلاف شر ( عدد المشاهدات15634 )
9. خطبة: يا ليتنا أطعناه ( عدد المشاهدات12308 )
10. خطبة : يتقارب الزمان ( عدد المشاهدات12302 )
11. خطبة : بماذا تتقي النار. ( عدد المشاهدات10910 )
12. خطبة: أثر الربا ( عدد المشاهدات10816 )
14. خطبة : أحوال المحتضرين ( عدد المشاهدات10561 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف