المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحييكم تحية طيبة عبر أثير إذاعة “نداء الإسلام”من مكة المكرمة، طيبتم وطابت أوقاتكم جميعًا بكل خير،وأهلًا وسهلًا بكم معنا في بداية هذه الحلقة المتجددة لبرنامج "الدين والحياة" والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى في بداية هذه الحلقة مستمعينا الكرام تقبلوا تحيات الزملاء من الإخراج خالد الزهراني ومصطفى الصحفي، ومن الهندسة الإذاعية علي مدابغي، وتقبلوا أجمل تحية مني محدثكم وائل حمدان الصبحي، أهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم.
مستمعينا الكرام ضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ السلام عليكم وأهلا وسهلا بك معنا في بداية هذه الحلقة.
الشيخ:- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مرحبا بك وحياك الله.
المقدم:- أهلًا وسهلًا فضيلة الشيخ، مستمعينا الكرام في الدين والحياة نناقش موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، ونسلط الضوء عليها من كتاب الله –عز وجل- وسنة المصطفي صلوات ربي وسلامه عليه، ونبين إذا جاءت الشريعة بتبيان فضلها أو حذَّرت منها.
في هذه الحلقة سنتحدث بمشيئة الله تعالى عن (الصبر على البلاء)، بالتأكيد يمر الإنسان بالابتلاء في هذه الحياة والدنيا، والحياة الدنيا هي دار ابتلاء يبتلى الله –عز وجل- بالخير والشر، نتحدث في هذه الحلقة عن الصبر على هذا البلاء الذي يبتلي الله –عز وجل- به عبادة سنتكلم عن حقيقة البلاء أولًا، وعن الصبر عن البلاء وأوجه الصبر عن البلاء، وسنتحدث أيضًا عن سياقات ذكر البلاء وفضل الصبر على البلاء في كتاب الله –عز وجل-، وسنتحدث أخيرًا عن منافع الصبر، المنافع التي يحصلها الإنسان في الحياة الدنيا وفي الآخرة أيضًا.
ابتداءً فضيلة الشيخ ونحن نتحدث عن هذا الموضوع عن الصبر على البلاء، بودي أن نبدأ حديثنا بالحديث عن حقيقة البلاء الذي يبتلى الله –عز وجل- به عباده.
الشيخ:- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فالدنيا خلقها الله تعالى دارًا يمتحن بها عباده ويختبرهم اختبارًا يكون على ضوئه مصيرُهم ومنتهاهم في الآخرة قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾الملك: 2 وقال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾الأنبياء: 35 فالله تعالى يبتلي الناس بما يبتليهم به من أنواع البلاء في الدنيا، ويختبرهم بأنواع من اختبارات تكون هذه الاختبارات مقدمةَ نتائج هذه الاختبارات، مقدمة أو حالهم في هذه الاختبارات مقدمة لما سيكون عليه مآلهم ومنتهاهم.
والله –جل وعلا- أخبر بأنه لابد وأن يبتلي الناس، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾المؤمنون: 30 فالله تعالى أخبر بأنه يبتلي الناس بما يكون من أحوالهم في هذه الدنيا بشتى صنوف الابتلاء، فالابتلاء يكون على وجه واحد إنما يكون بالصحة والمرض، يكون بالغنى والفقر، يكون بالخير والشر، يكون بما يحب الإنسان وبما يكره.
فالابتلاء من جهة المفهوم العام هو الاختبار والامتحان، وأما البلاء فهو أخفُّ من الابتلاء؛ لأن البلاء نوع خاصٌّ من الابتلاء والامتحان وهو الابتلاء والامتحان بما يكون من المكروهات التي لا تلتئم مع ما يحبه الإنسان وما تكون عليه طبيعته، وبالتالي نحن مبتلَون في هذه الدنيا ابتلاء عامًّا يكون في كل أحوالنا وشئوننا ومن ذلك ما يجريه الله تعالى من المكروهات على الإنسان.
وهذا المكروه يختلف باختلاف الناس، وباختلاف ما يجريه الله تعالى عليهم من الأقدار، فليس البلاء الذي هو الإصابة بالمكروه على وجه واحد، بل هو على أوجه مختلفة يكون في النفس، ويكون في المال، ويكون في الولد، ويكون في الأهل، ويكون في الأرحام، ويكون في الأصدقاء، ويكون في الجيران، ويكون في الأحباب، ويكون في الدين، ويكون في الدنيا، يكون في خاصة الإنسان، ويكون في عامة شئون الناس.
وبالتالي جريان المكروه في حياة الناس له صور كثيرة ومتنوعة ومتعددة، وقد ذكر الله –جل وعلا- في محكم كتابه صورًا من البلاء الذي أجراه –جل وعلا- على عباده وعلى الناس في صنوف متعددة في القرآن، فذكر الله تعالى الابتلاء بالمرض، وذكر الله تعالى الابتلاء بالمال، وذكر الله تعالى الابتلاء بالولد، وذكر الله تعالى الابتلاء والبلاء بالنفس، وذكر الله تعالى البلاء في الدين، وصنوف وألوان البلاء لا تنحصر في وجه واحد، بل أوجه الابتلاء والبلاء عديدة كثيرة.
ولذلك ينبغي للمؤمن أن يتلمس الهديَ القرآني فيما يتصل بنزول البلاء والمكروه، وقد أخبر الله تعالى في كتابه الحكيم عن أن الابتلاء والبلاء مراتب ودرجات يتفاوت فيها الناس، وليسوا فيها على درجة واحدة، فالله تعالى أخبر عن بلاء مبين وعن بلاء عظيم، وكل ذلك توضيح وبيان لمراتب ما يبتلي الله تعالى به الناس، فقال تعالى في ابتلاء إبراهيم بابنه لما رأى الرؤية وهي رؤية في ذبح ابنه الذي جاءه على حين كِبَر وعلى حين يأس من الولد قال تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾الصافات: 101- 102 يعني هذا الغلام الذي بشر به قال يعني إبراهيم ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾الصافات: 101- 102 والذبح بلاء مبين وعظيم ليس في كونه فقدًا للولد، بل في كونه فقدًا للولد بيد الإنسان وفعله ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين﴾الصافات: 101- 102 فابتلى الله إبراهيم وابتلى إسماعيل، فإسماعيل مبتلى وبلاء عظيم إذ إنه مبتلى بأن أباه سيذبحه، ولو كان هذا من عدوٍّ لكان هو أخفَّ على النفس، لكن من الأب وهو أحنى ما يكون على الولد، وهي أيضًا بالوحي يكون ذلك شديدًا على النفس وعظيم الوطأة على الإنسان.
مع ذلك قال: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾الصافات: 102- 103 إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾الصافات: 103 أي همَّ بفعل ما أمر الله تعالى به واستسلم لذلك إسماعيل ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾الصافات: 104- 105 يعني قد صدقت الوحي الذي جاءك في الرؤيا ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾الصافات: 105 صدقت الرؤيا شهد الله له بالصدق والتصديق والتسليم له ولابنه ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ﴾الصافات: 106 يعني الذي جرى لإبراهيم وإسماعيل في شأن ولده بلاء عظيم، وَّفق الله تعالى إبراهيم عليه السلام للصبر عليه، فكان ذلك فرجًا ومخرجًا له من ذلك البلاء بالشهادة الإلهية بالتصديق والشهادة بالإحسان.
وأيضًا ذكر الله تعالى ابتلاء بني إسرائيل بما ابتلاهم به من تسلط فرعون وجنوده ﴿يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾البقرة: 49 فوصف الله تعالى البلاء الذي جرى على بني إسرائيل في ذلك الزمان، بأنه بلاء عظيم، وهكذا يتبين أن البلاء درجات ومراتب، والناس يبتلَون على قدر ما يكون معهم من إيمان ويقين وتصديق، وإن كان لا يسلم أحد من البلاء، فالجميع مبتلى
كل من لاقيت يشكو دهره**** ليت شعري هذه الدنيا لمن[نسب البيت لأبي العلاء المعري. انظر مختارات من عيون والأدب(ص44)]
لكن يتفاوتون في درجات البلاء في صنوفه في أنواعه في ألوانه وأيضًا في أحوالهم في البلاء بين صابر محتسب وبين راض مسلم وبين ساخط جذِع، وكل منهم ينال ما قدمت يداه ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾المدثر: 38 .
وبالتالي فمن المهم أن نعرف أن البلاء والابتلاء والصبر عليه مما يتقرب به إلى الله –عز وجل- ويتعبد به لله –عز وجل- ولهذا كان الصبر على البلاء في منزلة عالية سامية، ودرجة رفيعة عند رب العالمين.
المقدم:- فضيلة الشيخ نتحدث في هذه الحلقة مستمعينا الكرام عن الصبر عن البلاء، تحدثنا عن حقيقة البلاء وكيف يكون شاقًّا على الإنسان، لكن الله –عز وجل- يبتلي عباده بالخير والشر، فضيلة الشيخ بودي أن أتحدث عن سياقات ذكر الصبر على البلاء في كتاب الله –عز وجل-.
الشيخ:- ذكر هذا في القرآن العظيم كما ذكرت أن الله تعالى ذكره وبين اختلاف مراتبه، من حيث دلالات القرآن في وصف البلاء بالعظيم والمبين، ولكن أيضًا القرآن الكريم أشار إلى نماذج من البلاء الذي يبتلي به الناس مما يكرهون فقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾البقرة: 155 ثم ذكر ما يقابل به البلاء ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ وقال تعالى: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾آل عمران: 186 وقد ذكرنا ما يقابل به ذلك في قوله: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾آل عمران: 186 وذكر أيضًا -جل في علاه- ما ابتلى به –سبحانه وتعالى- عموم الخلق فيما سخَّر لهم من زينة الدنيا فقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا﴾الكهف: 7- 8 .
فالمقصود أن الله تعالى ذكر ابتلاء الإنسان بصنوف من البلاء وأنواع وهي على نحو ما ذكر -جل في علاه- من الاختلاف، إلا أن جميع ذلك وجه الله تعالى إلى مقابلته بالصبر فقال تعالى في صنف البلاء: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾البقرة: 155 ، قال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ ذكر أجرهم ولم يأمر والبشارة لهم لم يأمر بالصبر في هذه الآية، إنما ذكر أن الصابرين لهم البشارة صابرين على ماذا؟ على البلاء بالخوف والبلاء بالجوع، البلاء بنقص الأموال، البلاء بنقص الأنفس، البلاء بنقص الثمرات، كذلك في قوله فيما يتعلق بصنوف البلاء ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ﴾آل عمران: 186 أي بما ذكر من النقص والأذى ثم قال: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ وهذا الأذى النفسي والجميع من البلاء المذكور سواء كان في الأموال أو في الأنفس، وسواء كان حسيًّا أو معنويًّا بما يسمعه الإنسان مما يكره قال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾آل عمران: 186
فوجه الله تعالى إلى الصبر والتقوى الذي به تدرك معاني الأمور، وتدرك به المصالح، ويأمن به الإنسان من المكاره والشرور.
وبالتالي الله تعالى في محكم كتابه بين ما يقابل به البلاء، وما يتجاوز به ما يكون من مكروهات الوقائع والأحداث، وأن ذلك لا يكون إلا بالصبر قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾الحجر: 97- 99 فالله تعالى أمره بالعبادة في مقابلة ما يكون من المكروه، وما يكون من الأذى الذي يلقاه من أعدائه، وهذا الخطاب للنبي –صلى الله عليه وسلم- وهو الأسوة والقدوة للأمة في مواجهة كل ما تكره.
ولذلك آيات الصبر في القرآن عديدة وكثيرة ومتنوعة، وقد ذكر بعض أهل العلم أن ما ذكره الله تعالى في شأن الصبر في القرآن يتجاوز المائة آية.
الإمام أحمد يقول: ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في تسعين آية[عدة الصابرين لابن القيم:(ص113)]، وعدَّها بعض المعاصرين باللفظ والاشتقاقات فبلغت أكثر من مائة آية، يذكر الله تعالى فيها الصبر، ويبين منزلته ومكانته، وهو بمعناه العام الصبر بكل صوره وأنواعه.
لأن الصبر أنواع، ومنه الصبر على البلاء، فالصبر يكون على طاعة الله بفعل ما أمر الله تعالى، ولا يكون هذا إلا بصبر ما يمكن أن يقوم الإنسان بالواجبات وتكاليف شرعية، وهذا يسمى الصبر على طاعة الله، وأيضًا يشمل الصبر الصبر عن معصية الله، وهذا الذي يكفُّ به الإنسان نفسه عما تشتهي من المحرمات والملذات التي حرمها الله، سواء كان ذلك في خاصة نفسه كمنع نفسه من الخمر، منع نفسه من الزنا، منع نفسه من النظر المحرم، أو كان ذلك في معاملته لغيره كمنع نفسه من السرقة، منع نفسه من الغيبة، منع نفسه من الاعتداء على أعراض الناس أو أموالهم، كل هذا من الصبر الذي يدخل في الصبر عن معصية الله، وهو مما تشتمل عليه الآية أو مما تشمله آيات الصبر في الكتاب الحكيم.
ومنه الصبر على قضاء الله وقدره، وهو الصبر على ما يكره من الأقضية والأقدار، وهو الصبر الذي نتحدث عنه في هذه الحلقة.
فالله تعالى ذكر هذه الأنواع من الصبر في القرآن الكريم ورتَّب عليها الأجور العظيمة التي لا ينالها إلا من وفَّق إلى هذا المقام الكبير.
والصبر في القرآن العظيم قرنه الله تعالى بآيات عظيمة جليلة رفيعة المنزلة فقرن الله تعالى الصبر باليقين قال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾السجدة: 24 واليقين هو أعلى وأرفع درجات العلم، فجعل الله تعالى الصبر قرينًا له؛ وذاك أنه لا ينال اليقين إلا بصبر، ولا تبلغ درجته إلا بصبر، وقرنه أيضًا بالتوكل قال تعالى: ﴿نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾العنكبوت: 58- 59 وقرنه الله تعالى بالصلاة طبعا اليقين والتوكل من أعمال القلوب، وكذلك قرنه الله تعالى بأعمال الجوارح فقال: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾البقرة: 45 وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾البقرة: 153 وقرنه أيضًا بالتقوى في مواضع عديدة قال: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾آل عمران: 186 ، ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾آل عمران: 120 ، وقال: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾يوسف: 90 وقرنه بالعمل الصالح على وجه العموم في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾هود: 11 .
كل هذا ليبين أن الصبر يُحتاج إليه في كل الأعمال، في طاعة الله، في ترك ما حرم الله، فيما يُجريه الله تعالى من الأقضية والأقدار التي يكرهها الناس، فينبغي أن يُعرف عظيم منزلة الصبر ورفيع مكانته، ولهذا لا عجب أن يكون جزاء الصبر على نحو ما ذكر الله –عز وجل- ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾الزمر: 10 فالله تعالى أخفى أجر الصابرين، وجعله على نحو لا يمكن حسابه ولا قياسه ولا تقديره ولا العلم به فقال: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾الزمر: 10 يعني من غير عدٍّ.
وهذا إذا تكلم به من بيده مفاتيح خزائن السموات والأرض، الذي له ما في السموات والأرض، الذي ينفق كيف يشاء -جل في علاه- عرفت عظيم الأجر والجزاء المرتب على الصبر.
ولهذا يكون أجر الصابرين يوم القيامة على نحو من الوصف يفوق الخيال، وذلك أنه يؤتى يوم القيامة بأهل البلاء بشتَّى صنوفه وأنواعه ممن يبتلون في هذه الدنيا بالبلاء الذي يكرهونه ثم يكون حالهم يوم القيامة في جزاء صبرهم على نحو رفيع عليٍّ كبير، عظيم المقام.
قال النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الترمذي من حديث جابر يود أهل العافية يوم العافية، العافية الذين لم تنزل بهم بلايا عظيمة «يودُّ أَهْلُ العافِيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطى أَهْلُ البلاءِ الثَّوابَ» وهم الذين أنزل الله تعالى بهم ما يكرهون في أنفسهم، في أموالهم، في أهليهم، في بلادهم، في أحبابهم، في شأنهم أنزل بهم ما يكرهون يقول: «يودُّ أَهْلُ العافِيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطى أَهْلُ البلاءِ الثَّوابَ لَو أنَّ جلودَهُم كانَت قُرِضَت في الدُّنيا بالمقاريضِ»سنن الترمذي (2402)، وحسنه الألباني الله أكبر.
وهذا يبين عظيم الأجر المرتب على الصبر؛ لأنه ينال بذلك هذا الأجر الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وليس شيء أشد من أن تُشدَّ جلودهم بالمقاريض، ومع هذا يود أهل العافية أن يكون قد نزل بهم ذلك لما يشاهدونه من العذاب المحصَّل والمدرك من أهل البلاء والإصابة.
وفي صحيح الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال –صلى الله عليه وسلم-: «يُؤْتى بأَنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيا مِن أهْلِ النّارِ يَومَ القِيامَةِ، فيُصْبَغُ في النّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابْنَ آدَمَ هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا، واللَّهِ يا رَبِّ ويُؤْتى بأَشَدِّ النّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا، مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا، واللَّهِ يا رَبِّ ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ» ينسيه ما لقي من عذاب الله وسخطه كل نعيم مر به «ويُؤْتى بأَشَدِّ النّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا» يعني بلاء ومصيبة بتتابع ألوان المصائب عليه في نفسه وماله وأهله وولده وسائر شأنه يؤتى به وهو من أهل الجنة «فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ» أي يناله شيء يسير من نعيمها، صبغة من نعيم الجنة «فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا، واللَّهِ يا رَبِّ ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ»صحيح مسلم (2807) الله يجعلنا وإياكم من الصابرين على البلاء الفائزين بعظيم الجزاء من ربٍّ كريم يعطي على القليل الكثير.
هذا الأجر يبين لنا عظيم ما يلقاه المؤمن بصبره واحتسابه على ما يكون من أقضية الله المكروهة، والإنسان إذا نزل به ما يكره من البلاء بين أمرين؛ إما أن يصبر فيفوز بالأجر والمثوبة من الله –عز وجل- والعون منه جل في علاه، فالصابر يصبر ويعان ويسدَّد ويوفق إضافة إلى الأجر، وإما أن يجزع وجزعه لن يدفع عنه ما نزل به من المكروه، بل لا يزيده جزعه إلا شرًّا وسوءًا، ولذلك يكون الصابر فائزًا بخير الدارين، والضاجر الجزع يناله شرُّ الحال والمآل، فلا أجر ولا عزاء فيما نزل به من مصاب.
ولهذا ينبغي أن يتذكر المؤمن هذه المآلات العظيمة التي ذكرها الله تعالى وجعلها مرتَّبةً على الصبر، والصبر يرتفع به الإنسان مراتب عالية ومنازل رفيعة، لا يدركها إلا بصبره واحتسابه في اجتياز ما يلقاه من مكروهات، وما ينزل به من سيئات.
المقدم:- مستمعينا الكرام حديثنا مستمر عن الصبر على البلاء، وذكرنا في بداية الحلقة حقيقة الصبر، وذكرنا أيضًا الصبر على البلاء، وذكرنا أيضًا سياقات ذكر الصبر في كتاب الله –عز وجل- فضيلة الشيخ فيما تبقى من وقت هذه الحلقة نريد أن نتحدث عن أوجه الصبر على البلاء.
الشيخ:- البلاء كما تقدم ألوان وأشكال وصور، ومن البلاء ما يبتلي الله تعالى به الناس من الأمراض والأسقام والآلام في أبدانهم وأجسادهم، وقد ذكر الله تعالى هذا البلاء في قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ﴾البقرة: 214 .
قال ابن كثير –رحمه الله-: في تفسير الآية في معنى البأساء والضراء قال: هي الأمراض والأسقام والآلام والمصائب والنوائب.[تفسير ابن كثير:1/427]
وقد أخبر الله تعالى أن هذا جارٍ على الأمم السابقة، وهو جارٍ على الأمم والناس عبر الزمان، فإن الله تعالى من سنته أن يبتلي الناس بما يكون من سقم في أبدانهم، وتعب في أجسادهم ينالون به أجرًا وثوابًا وحطًّا لخطاياهم وسيئاتهم.
فمن البلاء الذي يكون بالمرض، وقد ابتلى الله تعالى به أيوب عليه السلام، فاشتد بلاؤه وطال عناؤه عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر الله تعالى ذلك في محكم كتابه، وشهد له بالصبر على ما نزل به من مكروه البلاء قال تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ص: 41 وهذا ما كان قد نزل به من المرض.
ثم ذكر الله تعالى له العلاج وطريق الشفاء ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾ص: 42 ثم ذكر المنَّة عليه وصلاح الشفاء قال: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ص: 43 بعد ذلك قال: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ص: 44 فذكر الله –عز وجل- لنبي من أنبيائه -صلوات الله وسلامه عليه- هذه الميزة، وهي الصبر على المرض وما نزل به.
وقد جاءت الأحاديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في بيان الأجر المرتَّب على الصبر على المرض فجاء ذلك في الحُمَّى على سبيل المثال، فإن الأحاديث الواردة في فضل الصبر على الحمى، وهي نوع من الأمراض عديدة كثيرة، جاءت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما ذلك إلا أن هذه الأمراض التي تصيب الناس تفقدهم شيئًا من لذة الحياة التي ألِفوها وتمتعوا بها.
ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في عموم ما يدركه الإنسان من الأجر بالإصابة في بدنه بالمرض قال: «ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولا وصَبٍ، ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍ ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتّى الشَّوْكَةِ يُشاكُها، إلّا كَفَّرَ اللَّهُ بها مِن خَطاياهُ»صحيح البخاري (5640)، ومسلم (2572) وجاء أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «مَن يُرِدِ اللَّهُ به خَيْرًا يُصِبْ منه»صحيح البخاري (5640)، ومسلم (2572) يعني ينزل به من البلاء والأحداث والوقائع ما يكره سواء في نفسه أو ماله أو ولده، ومنه المرض سيكون ذلك من إرادة الخير به.
وفي خصوص الحمَّى أن النبي –صلى الله عليه وسلم- دخل على امرأة تُدعَى أمَّ السائب أو أم المسيب فقال لها: «ما لكِ يا أمَّ السّائبِ أو يا أمَّ المسيَّبِ تُزفزِفينَ؟ قالت: الحمّى لا بارَك اللهُ فيها، فقال صلّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تسُبِّي الحمّى؛ فإنَّها تُذهِبُ خطايا ابنِ آدَمَ كما يُذهِبُ الكِيرُ خبَثَ الحديدِ»صحيح مسلم (2575) يعني كما يذهب النار ما يكون في الحديد من صدأ وخبث. رواه الإمام مسلم.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يستحضر هذه المعاني، أن المرض إذا نزل به وهو نوع من البلاء، فإنه إذا صبر كان ذلك أجرًا له ومثوبة عند الله –عز وجل-.
ولهذا المرأة التي كانت تُصْرع وجاءت إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- تطلبه أن يدعو لها قال لها: «إن شئتِ دعوتُ لكِ، وإن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة»صحيح البخاري (5652)، ومسلم (2576) فخيَّرها النبي –صلى الله عليه وسلم- بين أمرين؛ بين أن تصبر على ما نزل بها من هذا المصاب وهو الصرع، فيكون ذلك موجِبًا للجنة، وأن يدعو الله تعالى لها فيزول عنها ما نزل بها، وتسلم بالدنيا، ويفوتها فضل الصبر على المرض، فاختارت -رضي الله تعالى عنها- أن تصبر على المرض وتنال ما وعد به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد أخبر ذلك ابن عباس في تلك المرأة فقال: من أحب أن ينظر إلى امرأة من أهل الجنة فلينظر إلى هذه وقصَّ خبرها، وقد كانت -رضي الله تعالى عنها- إذا صُرعت تتكشف فسألت النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يدعو الله تعالى أن يسترها وألا تتكشف. والمقصود أن الصبر على المرض يدرك به الإنسان أجرًا عظيمًا وخيرًا كبيرًا.
أما أوجه الصبر على المرض وسائر ما ينزل بالإنسان من المكروه في الأمراض، فيكون على أنحاء، وبما أنه الزمن هذا الذي نحن فيه انتشر فيه هذا الوباء الذي نسأل الله أن يرفعه عن العباد وأن يرحم الخلق وأن يدفع عنهم هذا الوباء (وباء كورونا) نحتاج إلى أن نلمِّح إلى أوجه الصبر على الأوبئة على وجه الخصوص، الصبر على المرض عمومًا مما يجازى عليه الإنسان والوباء على وجه الخصوص، ثمة أوجه للصبر نحتاج إلى لفت النظر إليه:.
أولًا:- الصبر على خوف الإصابة به، ما في شك له أنه إذا انتشر الوباء في مكان فإن الإنسان يخاف على نفسه أن ينزل به البلاء والمرض، ولهذا كان أجر الصابر المحتسب في أرض البلاء كالشهيد كما جاء ذلك فيما روته عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سألت النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الطاعون وهو وباء شديد الفتك في الناس فأخبرها –صلى الله عليه وسلم- عن شأنه ثم قال: «فليس مِن عَبدٍ وقَعَ الطّاعونُ في بَلَدِه، فيَمكُثُ في بَلَدِه صابِرًا مُحتسِبًا، يَعلَمُ أنَّه لن يُصيبَه إلّا ما كتَبَ اللهُ له، إلّا كان له مِثلُ أجْرِ شَهيدٍ».صحيح البخاري (3474) .
وهذا بيان عظيم المنزلة، والأجر الكبير الذي يناله الإنسان بصبره على الخوف من الإصابة بالمرض، فإنه ينال بذلك أجرًا عظيمًا وإذا صدق في توكُّله على الله دفع الله عنه بالتوكل وصدق اللجوء إليه ما يكره، ولذلك قال في هذا الحديث: «يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد».
أيضًا من أوجه الصبر على البلاء والوباء، الصبر على أخذ أسباب الوقاية من الإصابة بهذا المرض أو انتقاله أو نشره فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- وجَّه به توجيهات عديدة تتعلق بمحاصرة الداء والوباء وتدابير عدم انتشاره من ذلك أمره –صلى الله عليه وسلم-: «ما مِن عَبْدٍ يَكونُ في بَلَدٍ يَكونُ فِيهِ، ويَمْكُثُ فيه لا يَخْرُجُ مِنَ البَلَدِ، صابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أنَّه لا يُصِيبُهُ إلّا ما كَتَبَ اللَّهُ له، إلّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ شَهِيدٍ»، وجعل على هذا العمل هذا الأجر العظيم، وهو أن يبلغ أجر الشهادة ولو لم يُصَب من التدابير التي جاءت بها السنة فيما يتعلق بالاحتراز من الإصابة في الأوبئة والأمراض قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ»صحيح البخاري (5771)، ومسلم (2221) وهذا لتوقي الإصابة، فالصبر على امتثال هذا التوجيه النبوي هو مما يؤجر عليه الإنسان، وهو من أوجه الصبر على البلاء.
كذلك من أوجه الصبر على البلاء توقي مخالطة المصابين، وتقليل الإصابة في حال احتمال انتشار الوباء، تقليل المخالطة في حال انتشار الوباء، ومن ذلك ما فعله النبي –صلى الله عليه وسلم- في حديث الشَّرِيدtفي قصة وفد ثقيف، فإن رجلًا جاء من الطائف مع قومه ليبايع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على الإسلام، وكان مجذومًا أي مصابًا بالجذام، وهو مرض معدي، لم يلتقه النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما يظهر، بل أرسل إليه من يقول له: «ارجع فقد بايعناك»[صحيح مسلم:2231/26] وهذا توقي المخالطة والمماسة لمن هم مصابون بالمرض، وعلم أن مخالطته سبب للانتقال، فهذا كله من أوجه الصبر على البلاء في ما إذا انتشر الوباء وشاع بين الناس.
المقدم:- فضيلة الشيخ لم يتبق أمامنا وقت طويل في نصف دقيقة -لو تكرمت- اختم لنا هذا الحديث.
الشيخ:- من أوجه الصبر على البلاء بالوباء، إذا أصيب الإنسان بالوباء أن يصبر ويحتسب عند الله –عز وجل- فيما أصابه، ويتخذ تدابير العلاج المتاحة من أوجه الصبر على البلاء بالوباء، الصبر على فقد الأحباب عندما يصاب الإنسان بفقد حبيب بسبب الوباء.
من أوجه الصبر على البلاء بالوباء ترك المألوفات الحياتية.
من أوجه الصبر على الوباء انتظار الفرج والإلحاح على الله تعالى بالدعاء.
ولذلك مما يتعبد الله تعالى به في دفع المكروه من الوباء أن يلحَّ الإنسان على الله –عز وجل- بالسؤال والدعاء، والدعاء مما يدفع الله تعالى به المكروه، ولذلك يصبر الإنسان ويحتسب ويجتهد في سؤال الله –عز وجل- وينتظر الفرج من ربٍّ كريم يعطي على القليل الكثير، وينبغي أن نحمد الله تعالى على ما يسَّر لنا في هذه البلاد المباركة من حرص ولاة أمرها على سلامة المواطنين، وسلامة المقيمين، وسلامة هذا الوطن من كل الآفات والأوبئة.
فهذه من نعمة الله –عز وجل- التي تُذكر وتُشكر، وحُقَّ على عموم الناس أن يشكروا من أحسن إليهم من ولاة أمرهم، ومن عامة الناس، ومن أهل الصحة، وكل المشاركين في تحقيق التدابير الوقائية التي تقي الناس ما يكرهون من هذا الوباء، وأن يلتزموا -محتسبين الأجر عند الله- جميعَ التوجيهات الصادرة من الجهات المختصة، وأن يكونوا عونًا لولاة أمرهم وجهاتهم الصحية في تحقيق الغاية والغرض من هذه التدابير مع الدعاء واللجوء إلى الله تعالى وكثرة الاستغفار، فإن ذلك مما يدفع المكروه ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾الأنفال: 33
فأسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يدفع عنا الوباء، وأن يرفع عن بلادنا وعن عباده هذا المرض وأن يكفينا شرَّ كلِّ ذي شرٍّ هو أخذ بناصيته.
هذه بعض الكلمات والتوجيهات حول ما يتعلق بالصبر على البلاء عمومًا، والصبر على البلاء بالوباء على وجه الخصوص نسأل الله السلامة والعافية وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المقدم: شكر الله لك وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه في جامعة القصيم.
شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ على ما أجدت به وأفدت به في هذه الحلقة.
الشيخ: وأنا أشكركم، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين ويوفَّق ولاة أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده، والجهات المختصة بحفظ صحة الناس إلى ما فيه الخير، وما فيه كشف البلاء عنا وعن هذه البلاد وعن سائر بلاد الناس، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.