بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين.
قال المصنِّفُ –رحمه الله- تعالى:
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((دَخَلَ عَلَيَّ اَلنَّبِيُّ –صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ. فَقَالَ: ((هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟)) قُلْنَا: لَا. قَالَ: ((فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ)) ثُمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخَرَ, فَقُلْنَا: أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ, فَقَالَ: ((أَرِينِيهِ, فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ:1154/169 .
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
هذا الحديث حديث عائشةَ -رضي الله تعالى عنها- فيه مسألتان من المسائل المتصِلةِ بالصيام.
أما الأولى:- فهي صَوم النَّفل بنية من النهار تقدَّم في حديث حفصة رضي الله تعالى عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ اَلصِّيَامَ قَبْلَ اَلْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ». أبو داود:2454, الترمذي:730, والنسائي4/196. واللفظ للنسائي. وكذلك قال: «لا صِيامَ لِمَنْ لَم يَفرِضْه مِنَ اللَّيلِ»سنن الدارقطني:2214 , وابن ماجه:1700 وهذا يدُلُّ على أنه لابد أن تكون النيةُ سابقةً لليوم بأن تكون في الليلة السابقة، هذا الحديث فيه خبر أن النبي –صلى الله عليه وسلم- جاء بيتَه يومًا من الأيام فسأل عائشةَ زوجَه هل عندكم شيء؟ يعني مما يُؤكل فقالت رضي الله تعالى عنها: لا فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ»، وهذا شروع في الصيام أن "إذًا" تقال للظرف الحاضرِ والمستقبل، فدل هذا على أن النبي –صلى الله عليه وسلم- شَرَع في صوم ذلك اليوم عندما أُخبر أنه لا طعام، وكان ذلك في النَّهار، ومن هذا أخذ جمهور العلماء أن صيامَ النَّفلِ يصلُح أن يكون بنيةٍ من النهار، وجعلوه مستثنىً من حديث حفصة الذي فيه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «لا صِيامَ لِمَنْ لَم يَفرِضْه مِنَ اللَّيلِ» وبهذا يتبيَّن أن صيام النفل يصحُّ بنية من النهار، وليس هذا هو الحديثَ الوحيدَ الدالَّ على هذا الحكم، بل هذا مستفاد من جملة أحاديث جاءت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- تدل على صحةِ الصيام بنية من النهار، لكن هذا أبرزُها وأظهرها.
أما ما يتعلق بالنَّفل فإن النفلَ الذي يصحُّ بنيةٍ من النهار في المُطلَق بلا ريب؛ لأن المطلق الصيام، المطلق وهو الصيام التطوع صادِقٌ على هذا فيكون الأجرُ فيه من نيَّة الإنسانِ بالصوم، وأما إذا كان مقيَّدًا بمعنى أنه إذا كان الصومُ مثلا ليوم عرفة أو كان ليوم عاشوراءَ أو ما إلى ذلك من الأيام التي وَرَد في صيامِها أجرٌ خاصٌّ هل يصلُح أن ينويَ من النهار أم لابد من نيةٍ من الليل يحصل الأجر المرتِّبُ على صيام ذلك اليوم؟
للعلماء في هذا قولان:
جمهور العلماء لا يفرِّقون في صحةِ الصوم بنيةٍ من النهار إذا كان نَفلًا بين أن يكون نفلًا مقيَّدًا أو نفلًا مطلقًا، بين أن يكون نفلًا ورد فيه فضلٌ خاصٌّ وبين أن يكون صيامَ تطوع على وجه الإطلاق والعموم. وهذا هو الراجح.
من العلماء من فرَّق, ومُستنَد التفريق أنهم قالوا: إذا كان صام من النهار فإنه مَضَى جزءٌ من اليوم دون نيةٍ ،وبالتالي لا يتحقَّق أنه صام يوم عرفة, ولا يتحقق أنه صام يوم عاشوراء؛ لأنه لم يستوعب اليوم كاملًا، وبالتالي لابد من النية من الليل حتى يحصِّل الفضيلةَ.
وما يظهر والله تعالى أعلم إنما ذَهب إليه الجمهور من أن الصيام يصلُح بنية من النهار إذا كان نفلًا يشمَل النَّفلَ المقيد والنفل المطلق؛ وذلك أن الأجر بفضل الله ومِنَّته يُكتبُ أجرَ صيامِ يوم كامل.
وأما قول من قال من العلماء أنه لا يُحتسب الأجر إلا من وقت الصيام، يعنِي نَوى مثلا الساعةَ الثانية عشرة فيُحسب له أجر الصيام بَقيَّة اليوم دونَ أوَّلِ اليوم، فهذا من حيث أنه لا يكون أجر إلا بنية صحيح، لكن بالنظر إلى فضل الله وأنه يحتسب صيام يوم كامل لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «فَإِنِّي إِذًا صَائِمٌ» فيُرجى أن يكتب له أجرُ اليوم كاملًا.
وبالتالي لا فرق بين صيام نَفل مُقَيد ونفل مُطلق، لكن الأفضل في كل الأحوال أن ينويَ الإنسانُ الصيام من الليل لأجلِ أن يدرِكَ الفضيلةَ على وجه الكمال.
أحيانًا يستيقظ ويمضي جزءٌ من النهار قليل أو كثير، ويتردَّدُ في الصوم فيصوم، فنقول: لك ما نَويتَ وفضل الله واسع. بعض العلماء يفرِّق بين الصيام بنيةٍ من النهار أولَ النهار وبين من يجعلُه في النهار كلِّه ولو بقي على المغرب أدنى ما يكون من الوقت، والصواب أنه لا فرق؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يخصَّ صحة النية بما كان قبل الزوالِ، وبالتالي من حدَّد صحةَ النية بما قبل الزوال دون ما بعدَ الزوال يقال له: أين الدليل؟ وهذا لا دليلَ عليه .
وبالتالي يصحُّ صومُ النفل بنيةٍ من النهار في أولِه وفي آخره وفضل الله واسع هذه المسألة الأولى.
أما المسألة الثانية:- فهي الفِطر في صيام التطوع هل يجوز قطعُ صيامِ التطوع بالفطر؟
خبر عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي –صلى الله عليه وسلم- جاء يومًا آخر وقيل له: أُهدي إلينا حَيس، والحيس: هو التمر الذي فيه أقط مع سمن يُعجن ويخرج نواه، هذا الحيس وهي أكلة مشهورة عند البلدان التي فيها التمر وفيها مواشي.
المقصود أنه أُخبر النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- أنهم أهديَ إليهم حيس وعائشة رضي الله تعالى عنها أخبرت النبيَّ بذلك فقال: أَرِنيه, وفي رواية أدنيه فأُخبر بأنه صائم قال:«أَرنيه فإني أصبحت صائمًا، فأكل منه»صحيح مسلم:1154/170 .
معنى أكل منه أي أنه قَطَع صومَه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدلَّ ذلك على جواز قطع صيامِ النَّفل سواء كان نَفلًا مقيدًا أو نفلًا مطلقًا، والدليل واضح من فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخبره أنه كان قد أصبح صائمًا وأكل.
وهذا الذي ذَهَب إليه جمهور العلماء خلافًا لما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك من عدم جواز قطعِ الصيام إذا كان نفلًا، ومن باب أولى إذا كان فرضا, لكنَّ الكلام في صيام النفل، الإمام أبو حنيفة والإمام مالك يريان أنه لا يجوز قطعُ صومِ النفل.
والصواب أن قطعَ صوم النفل جائز، وهو خلاف الأولى، الأولى التكْمِيل، لكن لو قطع فلا بأسَ لاسيَّما إذا ترتَّب على القطع مصلحةٌ أن يطيَّب خاطرَ أهلِه أو يكرمَ ضيفَه كما جرى من أبي الدرداء مع سلمان الفارسيِّ عندما قدَّم له طعامًا فقال: إني صائم فقال: لا آكلُ حتى تأكلَ فأَكَل منه وأقرَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- ما فعل أبو الدرداء من أكلِه وقطعِه الصيامَ لأجل إكرام ضيفه.
المقصود أن قطعَ الصيام إذا كان نفلًا جائزٌ بفعل النبي –صلى الله عليه وسلم- وبإقراره في خبر سلمان وأبي الدرداء، وأيضًا بقوله فيما رواه أبو أمامة رضي الله تعالى عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «المتطوِّعُ أميرُ نفسِه إن شاء أفطرَ وإنْ شاءَ صام» الترمذي:732. وقال: في إسناده مقال والحديث جاء بأسانيدَ مختلفةٍ ترقَى إلى درجة القبول ولذلك قال عنه النووي: إسناده جيد.
الخلاصة: أن صوم النفل يجوز قطعه، والأولى تكمُيله لكن إذا كان فيه المصلحة فإن القطع عند ذلك يكون أفضل من الإتمام, أسال الله لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح وصلى الله وسلم على نبينا محمد.