بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين غفر الله لشيخنا والسامعين.
يقول المؤلف –رحمه الله- تعالى في بلوغ المرام كتاب الصيام:
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو مُحرِم، واحتجم وهو صائم" رواه البخاري البخاري:1938 ، وعن شدَّاد بن أوس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أَتَى على رجل بالبقيع وهو يحتجِم في رمضان فقال: «أَفطَرَ الحاجِم والمحجوم» رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه أحمد وابن خزيمة وابن حبان. أبوداود:2369, وعلقه البخاري في صحيحه3/33
وعن أنس بن مالك قال: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمرَّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أفطر هاذان)) ثم رخص النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم، رواه الدار قطني وقَوَّاه. سنن الدارقطني:2260, وقال الدارقطني عن رجاله: كلهم ثقات ولا أعلم له علةً
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
هذه الأحاديث الثلاثة كلها في موضوع واحد وهو ما يتعلق بأثر الحِجامة على الصيام.
الحِجامة: هي إخراج الدم بتشريطٍ يكون على الجلد يُستَشفى به، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-:( إن يكن الشفاء في شيء ففي ثلاثة منها شرطة محجم ) البخاري:5680, مسلم:2205 فيخرج الدم بطريقة معروفة يكون فيها تشريطٌ للجلد ومصٌّ للدم بواسطة آلة يُستخرج به الدَّم الفاسد الذي يحصل به نوع من الشفاء للبدن.
أثر هذا على الصيام:- هذه الأحاديث الثلاثة حديثُ عبد الله بن عباس فيه أن النبي –صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم، وهذا يدل على أن الحجامة لا تؤثِّر على الصوم؛ لأن النبي احتجم وهو صائم ولو كانت الحجامة تؤثِّر على الصائم لما احتَجَم – صلى الله عليه وسلم- حال صومه؛ لأن ذلك يفسد صومه أو يُنقِص أجره.
الحديث الثاني: حديث شدَّاد بن أوس رضي الله تعالى عنه وفيه خبرُ مرورِ النبي –صلى الله عليه وسلم- على رَجُلين أو على رجل بالبقيع يحتَجِم في رمضان فقال –صلى الله عليه وسلم- أفطر الحاجم والمحجوم، وهذا خبر عن تأثير الحجامة على الصيام وأنها تفطر.
حديث أنس فيه بيان أن أوَّل ما كُرهت الحجامة كانت بسبب أن النبي –صلى الله عليه وسلم- رأى جعفر بن أبي طالب يحتَجِم فقال: أفطر هاذان يعني الحاجم والمحجوم ثم رخَّص –صلى الله عليه وسلم- بعد في الحجامة، ولتأكيد هذا المعنى أخبر الراوي عن أنس بأنه كان يحتجم وهو صائم.
ولهذا يتعلق بهذه الأحاديث الثلاثة عدة مسائل:
المسألة الأولى:- ما يتعلق بما هو القول الفاصل فيما يتعلق بالحجامة وما أثرها على الصيام، للعلماء في ذلك قولان:
- جمهور العلماء على أن الحجامة مكروهةٌ للصائم، وأنه لو احتجم فإن ذلك لا يُفسد صومَه والدليل حديث ابن عباس، وحديث أنس حيث إن النبي احتجم وهو صائم، وأفاد أنس أن النبي رخَّص في الحجامة وهذا يدل على أن قوله –صلى الله عليه وسلم- :(أفطر الحاجم والمحجوم) ليس حكمًا بالفطر إنما هو خبر عن أن الحجامة قد تُضعِف الصائم فتؤدِّي به إلى الفِطر، كما أن الحاجم قد يُفطِر بسبب ما يتخلل إلى جوفه مما يمصُّه من الدم فيكون ذلك سببًا لفطره من حيث لا يتَنِبه أو من حيث يُغلَب.
فحمَل الجمهور حديثَ (أفطر الحاجِم والمحجوم) على واحد من أمرين:
إما أنه منسوخ بالأحاديث التي فيها الترخيص في الحجامة كحديث ابن عباس وحديث أنس.
وإما أنه محمول على الكراهة: وذلك أن قوله:( أفطر) يعني أوشك أن يفطر، قارب أن يفطر، وليس أن ذلك حكمٌ بالفطر، وأن خروج الدم بالحجامة يفسد الصيام.
وذهب الحنابلة إلى أن الحجامةَ مفطرةٌ، وحملوا الأحاديث التي فيها احتجامُه وهو صائمٌ على أنه كان مُسافرًا، وقال آخرون: بل إن ذلك غيُر محفوظ عن النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وإنما المحفوظ أنه احتجم وهو مُحرِم ، وأجابوا عن حديث أنس أنه ضعيف، المهم أنهم أجابوا بعدة أجوبةٍ عن هذين الحديثين.
والصواب ما ذهب إليه الجمهور من أن الحجامة لا تفطر، وأنها مكروهةٌ للصائم خشية أن تُضعفَه هذه المسألة الأولى التي أفادتها هذه الأحاديث.
المسألة الثانية: وهي إذا ما وَقَع الإنسان في مفطِّر جهلًا، بمعنى أنه ما يعرف أن الشيء هذا يفطر وفَعَله، هل يفسد صومه أو لا؟ أخذ بعض أهل العلم من حديث (أفطر الحاجم والمحجوم) أن المفطر إذا وقع من الإنسان حال الصوم فإنه يفسد صومه ولو كان جاهلًا بالحكم؛ لأن النبي قال عن هذين الرجلين: (أفطر الحاجم والمحجوم) فأثبت الفطر على ما ذهب إليه الحنابلة، فدلَّ ذلك على تأثر الصيام مع كونهما لم يسبق لهما علمٌ بالنهي هكذا قالوا.
وقال آخرون: بل هذا الحديث قضيةُ عين لا نعلم هل يعلمان الفطر بالحجامة أو لا قبل ذلك، والمعلوم أن الأحكام لا تَثبت إلا بالعلم وليست ثمة علمٌ في حال الجهل، وبالتالي من أتى مفطرًا جاهلًا فإنه لا يؤثر على صحة صيامه.
واستدلوا لذلك بحديث عدي بن حاتم في الصحيحين أنه لما نزل قول الله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ البقرة: 187 .
أخذ عديٌّ رضي الله تعالى عنه عقالين؛ عقالٍ أسود، وعقال أبيض وجعلهما عند وسادته وجعل الليل ينظر إليهما يعني هل تبين تميز الأبيض عن الأسود حتى أصبح فجاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما فعل واستمر يأكل ولم ينوِ الصيام حتى أصبح وتبين له تميُّز الخيط الأبيض من الخيط الأسود فلم يأمره النبي –صلى الله عليه وسلم- بالقضاء، بل قال له: إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار "صحيح مسلم"(1090) وليس سواد العقال وبياض العقال الآخر فدل ذلك على أنه من أتى مفطرًا جهلًا فإنه لا يؤثر ذلك على صحة صومه.
من المسائل المتعلقة بهذا الحديث خروجُ الدم هل هو مفطر بأي طريقة أخرى كالتحليل مثلا أو كالجرح أو كالرُّعاف؟ أو نحو ذلك هل يؤثر على صحة الصيام أو الفصد؟ وهو شرط يخرج به دم كثير ويستعمل للعلاج؟
الجواب الحكم مخصوص بالحجامة فقط فكل وسائل إخراج الدم الأخرى لا تأخذ حكم الحجامة، وبالتالي لا تُفسد الصوم، لكن إن كان خروج الدم قد يُضعف الإنسان ويفضي به إلى الفطر فينبغي أن يتركَه إلا في حالات الاضطرار التي لابد منها كأن يكون هناك حالاتُ تبرعٍ بالدم ضرورية في وقت الصيام فلا بأس، وإلا فجعله في الليل أحوط للإنسان، لكن لو وقع منه ذلك فإنه لا يفسد صومه، وأما الجروح والرعاف ونحو ذلك فهذه لا تفسد الصوم بالاتفاق والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.