بسم الله الرحمن الرحيم
ممَّا كثرَ السؤالُ عنْهُ وبحثُهُ فِي هَذِهِ الأيامِ حكمُ إقامةِ صلاةِ العيدِ فِي البيوتِ والمنازلِ والأماكنِ الخاصةِ، فِي ظلِّ الإجراءاتِ الاحترازيةِ للوقايةِ مِنْ وباءِ كورونَا، والتِي اقتضتْ تعليقَ الجُمَعِ والجماعاتِ وكذَا سائرَ الصلواتِ، ومنهَا صلاةُ العيدِ. فأقولُ - وباللهِ التوفيقُ -: إنَّ للعلماءِ فِي هَذِهِ المسألةِ قوليْنِ فِي الجملةِ:
القولُ الأولُ:أنَّ صلاةَ العيدِ تسقطُ مشروعيتُهَا فِي ظلِّ المنعِ الاحترازيِّ خشيةَ انتشارِ الوباءِ فَلَا تصلَّى فِي البيوتِ لَا أداءً ولَا قضاءً؛ سواءً قيلَ بوجوبِهَا عَلَى الأعيانِ وهو الصحيح عند الحنفية، وقولٌ عند المالكية، ورواية عن أحمد، ينظر: حاشية ابن عابدين (2/ 166)، مواهب الجليل (2/ 189)، الإنصاف للمرداوي (2/ 420) ، أَوْ بوجوبِهَا عَلَى الكفايةِ وهو قولٌ عند الحنفية والمالكية والشافعية، والمذهب عند الحنابلة، ينظر: بدائع الصنائع (1/ 275)، مواهب الجليل (2/ 189)، الحاوي الكبير (2/ 482)، المجموع شرح المهذب(5/ 2)، المغني (2/ 272) ، أوْ بسنِّيَّتِهَا وهو قولٌ عند الحنفية، والمشهور عند المالكية، ومذهب الشافعية، ورواية عن أحمد، ينظر: المبسوط (2/ 37)، مجمع الأنهر (1/ 172)، مواهب الجليل (2/ 189)، المجموع شرح المهذب (5/ 2 - 3)، الإنصاف للمرداوي (2/ 420) ؛ وذلكَ للعجزِ عَنْ إقامتِهَا عَلَى صفتِهَا المشروعةِ، وهُوَ الاجتماعُ لهَا، بسببِ المنعِ مِنْ إقامتِهَا. وقاعدةُ الشريعةِ أنَّ الواجباتِ تسقطُ بالعجزِ عَنْهَا وعدمِ الاستطاعةِ، وأدلةُ ذلكَ ظاهرةٌ منهَا قولُ اللهِ تعالَى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾التغابن: 16 والقولُ بعدمِ مشروعيةِ إقامةِ صلاةِ العيدِ فِي البيوتِ ونحوِهَا لَا أداءً ولَا قضاءً هُوَ مذهبُ الحنفيةِ، وهمْ ممنْ يقولُ بوجوبِ صلاةِ العيدِ عَلَى الأعيانِ، وذلكَ أنهُمْ يَشترطونَ لصحةِ صلاةِ العيدِ أنْ تكونَ مَعَ الإمامِ، وصلاتُهَا فِي البيوتِ لَا يحقِّقُ ذلكَ ينظر: المبسوط (2/ 39)، بدائع الصنائع (1/ 275) وهُوَ أيضًا جارٍ على قولِ من يشترط لصحةِ صلاةِ العيدِ أداء اكتمال عددَ أربعينَ رجلاً كالجمعةِ وهذا قديمُ قولِ الشافعيةِ، ومذهبُ الحنابلةِ ينظر: نهاية المطلب (2/ 612)، الشرح الممتع (5/ 155 – 156) .
القولُ الثانِي:أنَّ صلاةَ العيدِ لَا تسقطُ مشروعيتُهَا فِي ظلِّ المنعِ الاحترازيِّ خشيةَ انتشارِ الوباءِ، بلْ تُصلَّى فِي البيوتِ والمنازلِ ونحوِهَا مِنَ الأماكنِ الخاصةِ، والناسُ فِي ذلكَ عَلَى حالينِ:
الحالُ الأولَى: مَنْ تقامُ فِي بلدِهِمْ صلاةُ العيدِ، إلَّا أنَّ عمومَ الناسِ لَا يتمكنونَ مِنْ شهودِ صلاةِ العيدِ فيصلونَها قضاءً فِي بيوتِهِمْ، وبِهَذَا قالَ جماهيرُ أهلِ العلمِ.
الحالُ الثانيةُ: مَنْ لَا تقامُ صلاةُ العيدِ فِي بلدانِهِمْ، ولَا يَتمكنونَ مِنَ الاجتماعِ لَهَا، فَلَمْ أقفْ عَلَى نصٍّ للفقهاءِ المتقدمينَ فِي حكمِ إقامةِ صلاةِ العيدِ فِي البيوتِ فِي هَذِهِ الحالِ؛ إلَّا أنَّ فقهاءَ الشافعيةِ نصُّوا عَلَى أنَّ صلاةَ العيدِ تشرعُ فِي البيوتِ ونحوِهَا، وأنَّ الاجتماعَ لهَا سنةٌ. فبناءً علَى هذَا فإنَّ صلاةَ العيدِ لَا تسقطُ مشروعيتُهَا إذَا لمْ يتمكنِ الناسُ مِنَ الاجتماعِ لهَا؛ بلْ يُصلونَهَا فِي البيوتِ وغيرِهَا.
ويمكنُ أنْ يُستأنسَ للقولِ بصحةِ أداءِ صلاةِ العيدِ فِي البيوتِ والمنازلِ ونحوِهَا مِنَ الأماكنِ الخاصةِ فِي هذَا الظرفِ بمَا جاءَ عَنْ أنسٍ رضي الله عنه مِنْ إقامتِهِ صلاةَ العيدِ فِي موضعِ سكنِهِ فِي الزاويةِ قربَ البصرةِ؛ حيثُ كانَ يقيمُ ويجمعُ مواليَهُ وولدَهُ، ثمُّ يأمرُ مولاهُ عبدَ اللهِ بنَ أبِي عتبةَ فيصلِّي بِهِمْ أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5803)
وكذلكَ يمكنُ أنْ يُستأنسَ بمشروعيةِ قضاءِ صلاةِ العيدِ لمنْ فاتَتْهُ عَلَى قولِ الجمهورِ مَعَ كونِ الشعيرةِ قدْ أقيمتْ بمَنْ صلاهَا فِي المجامعِ معَ الأئمةِ، فصلاتُها فِي حالِ عدمِ التمكُّن مِنْ إقامتِهَا أداءً مَعَ الأئمةِ أولَى مِنَ القولِ بالقضاءِ.
وأيضًا فإنَّ هذَا هوَ مقدورُهُمْ واستطاعتُهُمْ فأَتَوْا بِمَا يقدرونَ عليهِ لـمَّا عجزُوا عَنِ الاجتماعِ للصلاةِ.
أمَّا صفةُ صلاةِ العيدِ فِي البيوتِ فللعلماءِ فيهَا عدةُ أقوالٍ:
القولُ الأولُ: أنَّ صلاةَ العيدِ تصلَّى عَلَى صفتِهَا التي شُرعتْ بخطبةٍ؛ فتصلَّى ركعتينِ بسبعِ تكبيراتٍ فِي الأولَى وخمسٍ فِي الثانيةِ، ويُخطَبُ بعدَهَا. وهُوَ ظاهرُ فعلِ أنسٍ أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (5803) بِهِ قالَ جماعةٌ مِنَ السلفِ كالحسنِ وعطاءٍ وإبراهيمَ وحمادٍ ينظر: مصنف ابن أبي شيبة (5802)، (5807)، (5808)، (5809) وهُوَ وجهٌ عندَ الشافعيةِ ينظر: المجموع شرح المهذب (5/ 26)
القولُ الثانِي: أنَّ صلاةَ العيدِ تصلَّى عَلَى صفتِهَا الَّتي شُرعتْ؛ فتصلَّى ركعتينِ بسبعِ تكبيراتٍ فِي الأولَى وخمس فِي الثانيةِ، دونَ خطبةٍ، وهذَا قولٌ عندَ المالكيةِ، وهُوَ مذهبُ الشافعيةِ والحنابلةِ ينظر: بداية المجتهد (1/ 230)، مواهب الجليل (2/ 197)، المجموع شرح المهذب (5/ 26)، المغني (2/ 290)، الإنصاف (2/ 433)
القولُ الثالثُ: أنَّ صلاةَ العيدِ تصلَّى أربعًا. وهُوَ منقولٌ عَنْ علىٍّ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5816) حيثُ استخلفَ مَنْ يصلي بضعفةِ الناسِ وأمرَهُ أنْ يصلِّيَ أربعًا، وكذلكَ قالَ ابنُ مسعودٍ فيمَنْ فاتَتْهُ العيدُ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (5800) ، وبهذَا قالَ جماعةٌ مِنَ السلفِ كالشعبيِّ والضحاكِ والثوريِّ ينظر: مصنف ابن أبي شيبة (5801)، (5805)، المغني (2/ 289) وهُوَ قولٌ عندَ الحنابلةِ ينظر: بداية المجتهد (1/ 230)، المغني (2/ 289)، الإنصاف (2/ 433)
وممَّا احتجَّ بِهِ هؤلاءِ القياسُ عَلَى الجمعةِ لشبهِهَا بِهَا، وهَذَا قياسٌ غيرُ سديدٍ؛ فإنَّ فرضَ مَنْ فاتَتْهُ الجمعةُ أوْ عجزَ عَنْهَا: الظهرُ أداءً لَا قضاءً ينظر: بداية المجتهد (1/ 231)
هذَا مجملُ مَا فِي هَذِهِ المسألةِ مِنْ أقوالٍ، والَّذِي يَظهرُ لِي أنَّ الأقربَ إلَى الصوابِ مشروعيةُ صلاةِ العيدِ فِي البيوتِ والمنازلِ والأماكنِ الخاصةِ فِي حالِ عدمِ التمكنِ مِنَ الاجتماعِ لأجلِ الإجراءاتِ الاحترازيةِ للوقايةِ مِنِ انتشارِ الوباءِ؛ فتصلَّى صلاةُ العيدِ فِي البيوتِ ركعتينِ عَلَى صفتِهَا بتكبيراتِها الزوائدِ جهرًا، جماعةً أو فرادَى قال ابن قدامة في المغني (2/ 290): "وهو مخير، إن شاء صلاها وحده، وإن شاء في جماعة. قيل لأبي عبد الله: أين يصلي؟ قال: إن شاء مضى إلى المصلى، وإن شاء حيث شاء". مِنْ غيرِ خطبةٍ، واللهُ أعلمُ.