نقل المصنف رحمه الله تعالى:
عن جابر رضي اللَّه عنه أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مـَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حملَهُمْ على أَنْ سفَكَوا دِماءَهُمْ واسْتَحلُّوا مَحارِمَهُمْ» رواه مسلم.
الحمد لله رب العالمين، واصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
ما الظلم؟
هذا الحديث الشريف حديث جابر قال فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «اتَّقُوا الظُّلْمَ» والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وهو على قسمين في الجملة: ظلم يتعلق بحقوق الله عز وجل، وظلم يتعلق بحقوق الخلق، ما يتعلق بحقوق الله عز وجل هو كل مخالفة لأمر أمر به أو نهى عنه، لكل أمر به أن يوجد أو شيء نهى عنه يفعله الإنسان.
الظلم المتعلق بحقوق الخلق:
وأما ما يتعلق بالظلم الذي يتصل بحقوق الخلق فهذا إما في إيصال الأذى إليهم بغير حق، أو نقصهم ما لهم من الحقوق، فالظلم دائر على هذين الشيئين:
إما أن يوصل الإنسان إلى غير أذى بغير حق، وإما أن يبخسه أو ينقصه حقه، وكلاهما داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اتَّقُوا الظُّلْمَ»، والأمر بتقوى الظلم هو أمر باجتنابه، ولذلك جاء في رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ» وهذا تحذير من أن يتورط الإنسان في شيء من الظلم سواء أن كان ذلك في حق الله أو في حق الخلق، وينبغي أن يُعلم أن كل ظالم سواء أن كان في حق الله، وما فرضه من حقوقه جل في علاه، أو كان في حقوق الخلق فإنما يظلم نفسه.
الظالم يظلم نفسه أولا:
قال الله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ﴾[هود:101]، فكل من وقع في شيء من النقص في حق الله أو في حقوق الخلق فإنما يظلم نفسه، ولذلك على الباغي وعلى الظالم تدور الدوائر ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾[يونس:108]. ثم بعد أن حظر النبي صلى الله عليه وسلم على الظلم بين شؤمه وعاقبته في الآخرة، قال: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قوله: «فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» هو بيان للعقوبة، وأن عقوبة الظلم لا تذهب، ولا تغيب بل هي مما يجني الإنسان عاقبته في الآخر، لم يذكر الدنيا، هل يعني هذا أن الظالم لا يناله عقوبة ظلمه في الدنيا؟
هل يعاقب الظالم في الدنيا أيضا؟
الجواب: لا، بل يناله من العقوبات في الدنيا ما يكون رادعًا له لو أبصر، ولو عقل، لكن عذاب الله أشد، وعذاب الآخرة أعظم وما يكون من فوات الحظوظ في الآخرة أشد وقعًا على الناس مما يمكن أن يصيبهم في الدنيا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في تذكيره لبعض الناس: «أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ»، ولا شك أن عذاب الآخرة أعظم وأخزى وأكبر، ولذلك ذكره النبي صلى الله عليه وسلم ليردع النفوس، قال: «الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الظلم يوم القيامة يتحول إلى ظلمات، والظلمات المقصود بها هنا الظلمة التي تكون مع أهل المعصية، والنفاق، فلا يبصرون مواقع الهدى يوم القيامة، فإن الله تعالى يعطي المؤمنين يوم القيامة نورًا يبصرون به مواقع الهدى، وينجون به من الردى، ويسلمون به من المهالك، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
الظالمون تطفَأ أنوارهم، أو تنقص أنوارهم بقدر ظلمهم
فقوله: «ظُلُمَاتٌ» على معناها أي أنه لا نور لهم، أو أنه ينقص نورهم بقدر ما معهم من الظلم. النوع الثاني أو المعنى الثاني من معاني قوله صلى الله عليه وسلم: «ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أي شدائد، وكروبات، يلقونها يوم القيامة جزاء ظلمهم، وهذا لا يبعد عن المعنى الأول فإنه إذا طفئت أنوارهم وقعوا في الشدائد والكروبات، ولهذا كل ما فُسر به قوله صلى الله عليه وسلم: «ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يرجع إلى انطفاء النور الذي به تحصل النجاة لأهل الإيمان يوم القيامة.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يتذكر ويعتبر، ويتعظ بمثل هذا الوعظ النبوي الذي يوقفه عن إيقاع الظلم على غيره، والظلم في حقوق الله عز وجل التخلص منه بالتوبة الصادقة، والأوبة الراشدة إليه، وإصلاح العمل ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾[طه:82]، وأما ما يتعلق بحقوق الخلق فالأمر أشد «مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ»[صحيح البخاري (2449)] فإن الظلم في حقوق الخلق لابد فيه من الاستباحة والتحلل، الغيبة، والنميمة، انتهاك الأعراض، أكل الأموال بغير حق، بخس الحقوق الواجبة على الإنسان لغيره من نفقة، أو صلة، أو بر، أو غير ذلك، إذا ظلم في هذه الأشياء فإنه لا يتحلل منها بمجرد أن يقول: استغفر الله العظيم وأتوب إليه، بل لابد من استباحة أصحاب الحقوق، وهذا سيد الورى يقول: «مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه» يطلب منه الحل والإباحة والسماح اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار.
وهذا شاق على النفوس بالمشاهدة فإنه يشق على الإنسان أن يأتي إلى غيره يطلب منه المسامحة، ثم لو قوى نفسه وجاء للمظلوم وطلب منه المسامحة قد لا يسامحه، وبالتالي ينبغي أن يتخفف الإنسان من حقوق الخلق لكن أرجو من الله وهو ذو فضل وإنعام، ومن وإكرام أن من صدق في التوبة، وعجز عن رد الحقوق إلى أهلها مع صدقه في الندم على ما مضى من ذنبه وظلمه فإن الله يتحمله عنه، فضل الله واسع ويمكن أن يُستشهد لهذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أخَذَ أمْوالَ النَّاسِ يُرِيدُ أداءَها أدَّى اللَّهُ عنْه، ومَن أخَذَ يُرِيدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ اللَّهُ»[صحيح البخاري (2387)] اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، طهرنا من الظلم دقيقه وجليله، صغيره وكبيره في حقك، وفي حق خلقك، واغفر لنا الخطأ والزلل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.