نقل المصنف رحمه الله تعالى:
عن جابر رضي اللَّه عنه أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مـَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حملَهُمْ على أَنْ سفَكَوا دِماءَهُمْ واسْتَحلُّوا مَحارِمَهُمْ» رواه مسلم.
الحمد لله رب العالمين، واصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
ذَمُّ الشُّحِّ:
فهذا الحديث الشريف حديث جابر رضي الله تعالى عنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم في أوله بتوقي الظلم فقال: «اتَّقُوا الظُّلْمَ» وفي رواية: إياكم والظلم، «فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ثم عطف على هذا التحذير، وعلى هذا الأمر أمرًا آخر فقال: «واتَّقُوا الشُّحَّ» وفي رواية: وإياكم والشح، والشح هو نوع من الظلم لكنه ظلم عظيم كبير يفسد على الإنسان معاشه، ويخرب آخرته، الشح هو شدة الحرص، وليس فقط البخل فالبخل هو صورة من صور الشح، لكن الشح أعظم من ذلك، وأكبر، وأكثر، وأخطر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر في الصحيح قال: «إيَّاكُم والشُّحَّ، فإنَّما هلَكَ مَن كانَ قبلَكُم بالشُّحِّ، أمرَهُم بالبخلِ فبخِلوا، وأمرَهُم بالقَطيعةِ فقطعوا، وأمرَهُم بالفجورِ ففجَروا» فجعل الشح هو الذي يحمل على البخل، وهو الذي يحمل على الظلم، وهو الذي يحمل على القطيعة، وبه يُعلم أن الشح أعظم خطرًا من البخل، فالبخل هو إمساك ما في اليد من المال ونحوه لكن الشح أعظم من هذا، فإنه إمساك لكل حق واجب على الإنسان، ويزيد على هذا بغي على الآخرين بكراهية ما في أيديهم من الخير والحرص على ما في أيديهم مما آتاهم الله تعالى وأعطاهم.
البذل والإيثار من صفات خير الأجيال:
ولهذا لما ذكر الله تعالى أهل الإيمان من الأنصار قال: ﴿وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا﴾[الحشر:9] فصدورهم سليمة على غيرهم فيما ساقه الله تعالى إليهم من الخيرات، فلا يجدون حسدا، ولا يجدون كرها، ولا يجدون غلا لما ساقه الله تعالى على غيرهم من الخير والفضل، سواءً كان الفضل دينا أو دنيا، فليس في صدورهم غل، ولا حقد، ولا حسد على إخوانهم، ويضيفون إلى هذه الخصلة خصلة أخرى جميلة فيقول: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾[الحشر:9] أي يبذلون ويقدمون حاجة غيرهم على حاجة أنفسهم، ثم قال جل وعلا في بيان عظيم ما تبوأه هؤلاء من الفضل: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾[الحشر:9] بتحقيق تلك الخصال المتقدم سلامة الصدر على ما في أيدي الناس، والبذل والإيثار بتقديم حاجة غيرك على حاجة نفسك ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر:9].
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «واتَّقُوا الشُّحَّ» أي اجتنبوا التورط فيه، وهذا يعني أن الإنسان يستطيع أن يعالج نفسه من الشح، ويقي نفسه هذه الخصلة، وأنه ما فيه خصلة من خصال الشر يقول الإنسان: أنا ما أقدر أعالج نفسي فيها، قال: كل خصلة من خصال الشر تستطيع أن تتخلص منها، وتستطيع أن تتجنبها، وكل خصلة من خصال الخير تستطيع أن تكتسبها، وتستطيع أن تتحلى بها، فإنما الصبر بالتصبر، وإنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، وإنما الكرم بأخذ أسباب الكرم، وطيب النفس بأخذ أسباب طيب النفس، قال صلى الله عليه وسلم: «واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مـَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ » كيف أهلكهم؟
أي أوردهم الهلاك، والهلاك هنا يشمل نوعي الهلاك: هلاك الدنيا بما في قلوبهم من اللظى، والحسرة، والضيق، والضنك، وبما يصيبهم الله تعالى به من العقوبات العاجلة، وأما الهلاك الأخروي فذاك حدث عنه ولا حرج، وذلك لعظيم ما ينتج عن الشح، قال: «واتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مـَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ » ثم قال: «حملَهُمْ على أَنْ سفَكَوا دِماءَهُمْ واسْتَحلُّوا مَحارِمَهُمْ» سفكوا دمائهم أي استباحوا الدماء والسفك هو زائد على القتل، لم يقل: وقتلوا واقتتلوا أو وقتلوا الناس بل سفكوا الدماء دلالة على الإسراف في دماء الخلق بالقتل والجنايات بما جون القتل، كله يدخل في هذا.
ثم جاء بما هو أوسع قال: «واسْتَحلُّوا مَحارِمَهُمْ» والمقصود من استحلال المحارم استباحة الدماء، واستباحة الأموال، واستباحة الأعراض، كل ذلك ناتج عن الشح، ولهذا ليس شيء أفسد على الإنسان في دينه ودنياه من الشح كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء من حديث كعب بإسناد جيد، قال صلى الله عليه وسلم: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلاَ فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»[مسند أحمد (15784)، وقال محققو المسند: إسناده صحيح]، يعني حرصه على المال وهذا أكثر من البخل، الحرص على المال ليس فقط بخلًا، بخل وزيادة لأن الحرص على المال سيمسك ما في يده، وسيسعى لأخذ ما في أيدي غيره ببخس الحقوق، وظلمها، وانتهاك الأموال الحدود بالسرقة، والاغتصاب، والغصب، والاختلاس وغير ذلك من أوجه كسب المال الحرام.
وبالتالي ينبغي للإنسان أن يحرص على التخلي من هذه الخصلة العظيمة الشؤم على الإنسان، وقد كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه يقول في طوافه: "ربي قني شح نفسي، ربي قني شح نفسي، ربي قني شح نفسي" لا يزيد على هذا الدعاء، يسأل الله أن يقيه شح نفسه، فقيل له في ذلك، قال: أنك إذا وقت شح نفسك سلمت من الظلم والبخل والقطيعة، وفي رواية أخرى قال: أنك إذا وقيت شح نفسك أفلحت، وقرأ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر:9].
اللهم قنا شح أنفسنا، وأعنا على طاعتك، واستعملنا بما تحب وترضى، وأعنا على كل فضيلة، وقنا كل رذيلة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.