يقول المصنف رحمه الله تعالى:
وعن أَبِي هريرة رضي اللَّه عنه أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقيامَةِ حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاء» رواه مسلم.
الحمد لله رب العالمين، واصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
أداء الحقوق:
فقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقيامَةِ حَتَّى يُقَادَ للشَّاةِ الْجَلْحَاء مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاء»، هذا الحديث رواه الإمام مسلم وفيه بيان كمال عدل رب العالمين يوم يقوم الناس للحساب، فالله عز وجل ينصف كل مظلوم في ذلك اليوم، ويعطي كل مبخوس حقه ما بخس من حقوقه في الدنيا، فلا يفوت من حقوق الخلق شيء بالمطلق، حتى أن الله تعالى يقتص للشاة الجلحاء وهي الجماء التي لا قرن لها من الشاة القرناء التي لها قرن إذا نطحتها، وهذا لكمال عدله جل في علاه، وأنه يرد الحقوق إلى أهلها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقيامَةِ» أي ينصف الله تعالى كل صاحب حق ممن بخسه حقه يوم القيامة ولو كان على هذا النوع، حتى من كمال العدل واستيعاب الإنصاف يقتص للشاة الجلحاء الجماء التي لا قرن لها من الشاة القرناء، وهذا فيه ترهيب عظيم لمن كان قلبه حيا من حقوق العباد، فإن حقوق العباد لا تضيع، وفيه تطمين للمظلومين أنه مهما فاتت حقوقهم في الدنيا فهي لا تفوت في الآخرة، بل سيقتص الله تعالى لهم.
لا تضيع الحقوق يوم القيامة:
ولهذا كل من فات حقه سواء كان فيه دم، أو كان في مال، أو كان في عرض، سواء علمه أو لم يعلمه، فإنه لن يضيع يوم القيامة بل سيجده يوم القيامة تامًا موفورًا، ولهذا ينبغي لكل واحد منا أن يحذر غاية الحذر من بخس الناس حقوقهم في دمائهم، أو في أعراضهم، أو في أموالهم، فإنه لا يضيع عند الله تعالى شيء بل كل صغير وكبير مستطر، مكتوب، محفوظ، مسجلًا يفوت منه شيء عند من لا تخفى عليه خافية، فليحذر الإنسان يا إخواني ليحذر حقوق العباد فإن الإنسان شحيح في الدنيا مع ما يجد من مال وغيره من الأمور التي تغنيه في ذلك اليوم لا درهم ولا دينار، إنما هي الحسنات والسيئات ويشاح الناس فيها على أدنى ما يكون، حتى أن المرء يفر من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لأجل أن لا يطلب بشيء من حقوقهم، فكيف بالأباعد إذا كان هذا حال الإنسان مع الأقربين منه في ذلك اليوم العظيم فكيف بالأباعد؟!
أمر حقوق الناس شديد:
الأمر خطير وشديد، والعاقل البصير يسعى غاية جهده في أن يتخفف من حقوق العباد، في أعراضهم، ودمائهم، وأموالهم، فيتجنب ابتداء أن ينال منها شيئًا، فلا يعتدي، ولا يظلم أحدًا في دم أو في مال أو في عرض، ثم إذا تورط في شيء من ذلك فإنه يسعى جاهدًا إلى إبراء ذمته، وإلى الاستباحة والتحلل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ» سواء في دم، أو في مال، أو في عرض، «فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه» يعني في الدنيا «قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ» والقصاص يوم القيامة ليس فقط في الشيء الكبير، حتى في الشيء اليسير والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بيَمِينِهِ، فقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ له النَّارَ، وَحَرَّمَ عليه الجَنَّةَ» أعوذ بالله «فَقالَ له رَجُلٌ: وإنْ كانَ شيئًا يَسِيرًا يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: وإنْ قَضِيبًا مِن أَرَاكٍ». يعني ولو كان سواك وهو مما يحصل يسيرًا في الأراضي المباحة، فكيف بما هو أعلى من ذلك!
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن المفلس، فقال: «أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ» في القصاص ورد الحقوق إلى أهلها، التي أخبر عنها في قوله: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقيامَةِ» أخذ من سيئاتهم ووضعت عليه، فلا يضيع شيء.
ينبغي للإنسان أن يبادر إلى إبراء ذمته من الحقوق:
ولهذا ينبغي للإنسان أن يبادر إلى إبراء ذمته من حقوق الخلق ولو كلفه هذا ما كلفه، بعض الناس يقول: استحي، أخاف، وش أقول؟ وما أشبه ذلك من الاعتذارات التي يعتذر بها عن إيفاء الناس حقوقهم، ما تلقاه مما تكره في الدنيا أهون من عذاب الآخرة فبادر إلى إبراء ذمتك.
حشر الحيوانات يوم القيامة:
اللهم أعنا على ذلك، ثم إنه يا إخواني الحديث يدل على أن الحيوانات تحشر يوم القيامة، وهذا كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾[التكوير:5]، وقال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾[الأنعام:38]، فهؤلاء على اختلاف أجناسهم من الحيوان الطائر والدارج يبعث يوم القيامة ويُحاسب، يقتص للمظلوم من الظالم ثم بعد ذلك تصير ترابًا، والشأن في حال الإنسان المكلف الذي مآله إما إلى جنة أو إلى نار فليبادر إلى التخفف من أسباب دخول النار، وليستكثر من أسباب دخول الجنة فريق في الجنة، وفريق في السعير.
اللهم أعنا على أداء الحقوق، وأعذنا من بخسها، ويسر لنا اليسر، وأبرأ ذممنا من حقوق الخلق، وأعنا على القيام بحقك على الوجه الذي ترضى به عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.