نقل المصنف رحمه الله تعالى:
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقَهُ يوم القيامة منْ سَبْعِ أَرَضِينَ» متفقٌ عليه.
الحمد لله رب العالمين، واصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
إثم التعدي على ملك الغير:
هذا الحديث حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فيه بين عظيم الإثم المرتب على اغتصاب الأموال، على غصب الأموال وانتهاك حرمتها، وذكر في ذلك العقار وهو ما كان من أراض وبناء، قال صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة رضي الله تعالى عنها: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقَهُ يوم القيامة منْ سَبْعِ أَرَضِينَ» من ظلم قيد شبر أي بالاعتداء عليه غصبًا، فيزيد في ملكه أو يجني على ملك غيره ما ليس منه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون هذا الاعتداء على ملك خاص أو على ملك عام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد ذلك بالأملاك الخاصة، بل عم ذلك بوصف الظلم فقال: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ» أي أخذه بغير حق، سواء أخذه من شخص أو من أملاك عامة «طُوِّقَهُ منْ سَبْعِ أَرَضِينَ».
الظلم يشمل المتسبب والمباشر:
والظلم هنا يشمل كل من كان متسببًا أو مباشرًا في انتهاك الأملاك، والتعدي عليها، سواء كان ذلك بالشهادة، أو كان ذلك بالحكم، أو كان ذلك بالعمل، فكل هذا يدخل في عموم قوله: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقَهُ يوم القيامة منْ سَبْعِ أَرَضِينَ»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «طُوِّقَهُ يوم القيامة» أي جُعل طوقًا في عنقه، هذا معنى من معاني قوله صلى الله عليه وسلم: «طُوِّقَهُ يوم القيامة».
وقيل: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «طُوِّقَهُ» أي حمله يوم القيامة، أي يحمل هذا القدر من الأرض الذي اعتدى فيه، وظلم فيه يحمله يوم القيامة يأتي به يحمل وزره وإثمه يوم القيامة، والمعنى سواء قيل هذا أو هذا، وقيل: خُسف به أي أنه يخسف به في سبع أراضين فتحيط به، وسواء قيل هذا أو هذا المعنى أنه عقوبة عظيمة مؤجلة إلى يوم القيامة، اليوم الذي تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه، فالتطويق هنا هو أنه يعاقب بذلك يوم القيامة أشد العقوبة، وقد جاء الإخبار بالتطويق في الأموال في عدد من العقوبات منها قوله تعالى: ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾[آل عمران:180] وهو أمساك ما يجب بذله فإنه يمسكه ويطوقه يوم القيامة.
وكذلك في الزكاة فإنه من منع الزكاة طوقه جُعل يوم القيامة ما بخل به من الزكاة طوقًا يطوقه إما أن يحمله أو أن يكون في عنقه يوم القيامة. ويوم القيامة هو اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين، ويجزون على أعمالهم، وذكر العقوبة في هذا الحديث دليل على أن الغصب من كبائر الذنوب، أو التسبب فيه من كبائر الذنوب، لأن كل ما ذكر من الذنوب من الأعمال السيئة، ذُكر له عقوبة خاصة في الدنيا أو في الآخرة فإنه من الكبائر، ومن عظائم الإثم التي يجب على المؤمن أن يتجنبها، وقوله صلى الله عليه وسلم: «منْ سَبْعِ أَرَضِينَ» أي أنه يطوق ما غصبه من سبع أراضين، والسبب في هذا مع أن من أساء جوزي بالسيئة مثلها، هنا من سبع أراضين وليس من الأرض التي غصبها أن الأراضي بعضها فوق بعض، وقد استدل بهذا جماعات من أهل العلم، وحكي الإجماع عليه أن الأرض بعضها فوق بعض، فإذا طوق الأرض الأولى تبعه أو إذا غصب الأرض الأولى تبعه جميع ما يتبعها من الأراضين، وبالتالي يكون بذلك قد اعتدى على جميع هذه الأراضين ويعاقب بها يوم القيامة.
وفيه من الأدلة أو فيه من الفوائد الفقهية أن الإنسان إذا ملك أرضًا ملك ما تحتها من معدن أو ماء أو غير ذلك، فلا يجوز لأحد أن يعتدي على ما في باطن الأرض من ملك غيره بأن يحفر بئرًا أو ما أشبه ذلك مما يدخل به على أرض غيره، فمن ملك الأرض ملك قرارها يعني ما تحتها لقوله صلى الله عليه وسلم: «طُوِّقَهُ يوم القيامة منْ سَبْعِ أَرَضِينَ».
وفيه من الفوائد أن الأراضين سبع، كما أن السموات سبع، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾[الطلاق:12] مثلهن في العدد، ومثلهن في عظم الخلق، وإن كانت الصفة مختلفة في خلق السماء عن الأرض لكن المثلية هنا هي المساواة في العدد، والمساواة في عظم الخلق وإن كان الخلق مختلفًا. نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الظلم دقيقه وجليله، صغيره وكبيره، وأن يدفع عنا وعنكم الشر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.