يقول المصنف رحمه الله تعالى:
وعن أَبي هُرِيْرَةَ رضي اللَّه عنه عن النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: «مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ، مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيتَحَلَّلْه ِمنْه الْيوْمَ قَبْلَ أَنْ لا يكُونَ دِينَارٌ ولا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَملٌ صَالحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقدْرِ مظْلمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» رواه البخاري.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
التحلل من المظالم في الدنيا:
فهذا الحديث الشريف حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في وجوب التحلل من المظالم مما ينبغي أن يقف عنده كل أحد محاسبًا لنفسه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ» يعني من كان عليه شيء من حقوق الخلق قد بخسه أو نقصه أو اعتدى فيه من عرض أو شيء، يعني كان هذا الحق يتعلق بالعرض أو أي شيء آخر.
تخصيص العرض بالذكر:
وذكر العرض على وجه الخصوص في هذه الرواية لأنه أكثر ما يقع الناس فيه من التجاوز، والظلم، بالغيبة، والنميمة، والسخرية، والسب، والقذف، وما أشبه ذلك مما يتعلق بذم الناس، وتنقصهم سواء في أنفسهم أو في أصولهم، أو فيما يتصل بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ، فَلْيتَحَلَّلْه ِمنْه الْيوْمَ» أي فليطلب منه الإباحة، فليطلب منه الحل، والمقصود بالحل أي أن يسقط حقه فيما يتعلق بالإثم المترتب على تلك المظلمة، على ذلك الظلم والتجاوز والخطأ الذي وقع منه، «قَبْلَ أَنْ لا يكُونَ دِينَارٌ ولا دِرْهَمٌ» يعني قبل أن يكون ما يتعاوض به الناس، ويتساقطون به الحقوق، فإنه في يوم القيامة لا يكون درهمًا ولا دينار إنما لا يكون إلا الحسنات والسيئات.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في بيان الاقتصاص للمظالم بين الناس في ذلك اليوم قال: فإن كان له حسنات أي للظالم حسنات أُخذ من حسناته، وأعطيت للمظلوم عوضًا عن ظلمه، «وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ» أو فنيت حسناته أي انقضت وذهبت في رد المظالم إلى الناس، «أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» وهذا بيان طريق الاقتصاص في ذلك اليوم، والحديث شامل لكل أنواع المظالم.
والمظالم لا تخلو من حالين:
- إما أن تكون يعلمها المظلوم فهنا لا طريق للتحلل منها والاستباحة إلا بردها إليه، وطلب المسامحة منه، فإذا علم فلان أنك اغتبته، أو أنك أخذت من ماله، أو أنك اعتديت عليه في شيء من حقه، فلا سبيل للتوبة من هذا الذنب، ومن هذه المظلمة إلا بأن تطلب منه الإباحة والحل، بأن يحللك وأن يبيحك سواء كان ذلك بمقابل أو كان ذلك بالمجان، هذا إذا كانت المظلمة معلومة للمظلوم.
- أما إذا كانت المظلمة غير معلومة للمظلوم يعني ظلمته وهو لا يدري، سواء كان ذلك في مال أو في عرض، فإن كذا هذا في مال فلا براءة لك إلا برد المال إلى صاحبه؛ لأن عدم علمه لا يسقط حقه في المال، مثل إنسان أخذ من مال صاحبه سرقة أو اختلاسًا أو تدليسًا أو ما إلى ذلك من طرق أخذ المال من غير علم المظلوم فالواجب الرد إليه، لأجل أن يتحلل الإنسان من حق المظلوم.
كيف التحلل من الخوض في الأعراض؟
أما إذا كان هذا في عرض بمعنى أنه اغتبته وهو لا يعلم، أو سببته وهو لا يعلم، أو انتقصته بسخرية وهو لا يعلم فهنا العلماء لهم قولان في التحلل: هل يلزم في التحلل أن تخبره أم يكفي أن تحسن إليه بما يوازي إساءتك له؟
من العلماء من يقول: الحديث عام ويشمل ما علمه المظلوم من المظالم وما لم يعلم، وآخرون قالوا: إذا لم يعلم وهذا قول الجمهور فإنه لا يتعين الإعلام لاسيما إذا كان يترتب عليه مفسدة، فإنه في هذه الحال ينبغي له أن يجتهد في الإحسان إلى المظلوم بكل وجه من أوجه الإحسان، بالمال، وبالكلام الطيب، وبالدعاء، وبالاستغفار، وبالصدقة، وما أشبه ذلك مما يحصل له به التحلل للإباحة.
لابد من الحذر من المظالم:
والمقصود أيها الإخوة أنه ينبغي أن يحذر الإنسان غاية الحذر من حقوق الخلق، ومن ظلمهم، وأن يجتهد في إبعاد نفسه عن أن يقع في شيء من حقوق الخلق تقصيرًا أو اعتداء أو بخسًا، فإن ذلك يصعب الخروج منه إذ لا خروج إلا بالتحلل، فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على حفظ حقه جل في علاه، وعلى توقي حقوق الخلق، وأن يتحمل عنا كل إساءة، وأن يعفو عن تقصيرنا وإساءاتنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.