شهرُ النَّصْر
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أما بعد.
فاتقوا اللهَ أيُّها المؤمنون، واعلمُوا أن شهرَ رمضانَ لم يكن عِندَ سلفِنا شهرَ صيامٍ وقيامٍ ودعاءٍ واعتكافٍ وعمرةٍ وإكثارٍ من العبادةِ فحسبْ، بل كان شهرَ جهادٍ ومجاهدةٍ ودعوةٍ وعملٍ، فقد سطَّروا فيه أعظمَ الانتصاراتِ، وأكبرَ الفتوحاتِ، وإن لياليَ هذا الشهرِ وأيامَه تحكي ما حققتُه الأمةُ من انتصاراتٍ وأمجادٍ، فقد كانَ في هذا الشهرِ يومُ الفرقانِ، يومَ التقى الجمعانِ في غزوةِ بدرٍ الكبرى، التي هي شامةٌ في جبينِ التاريخِ.
إذا قامت الدُّنيا تَعُدُّ مفاخِراً *** فتاريخُنا الوضَّاحُ من بدر ابتدا ديوان وليد الأعظمي (95).
فقد فرَّقَ اللهُ في هذهِ الغزوةِ بين الحقِّ والباطلِ، فنَصَرَ اللهُ دينَه، وأظهَرَ نبيَّه، وأطاحَ رؤوسَ الكفرِ والشرِّ والظلمِ والطغيانِ، قال الله تعالى:﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ سورة آل عمران: 123.، فكانت هذه الغزوةُ صفحةً من صفحاتِ المجدِ المشرقِ، في تاريخِ هذه الأمةِ.
وقد منَّ اللهُ تعالى على الأمةِ في هذا الشهرِ أيضا، ففتحَ بيتَه لنبيِّه، وطهَّره من أوضارِ الشركِ، ولوثاتِ الكفر، ومظاهرِ الظلمِ والاستكبارِ، فكان حديثاً عظيماً كبيراً، ليس في تاريخِ الأمةِ فحسب، بل وفي تاريخِ البشريةِ كلِّها، كيف لا؟ وقد أعزَّ اللهُ بهذا الفتحِ دينَه ورسولَه صلى الله عليه وسلم وحزبَه، واستنقذَ به بلدَه وبيتَه من أيدي الكفارِ والمشركين.
وقد استبشرَ بهذا الفتحِ أهلُ السماءِ، وضربت أطنابُ عزِّه على مناكبِ الجوزاءِ، ودخل الناسُ به في دينِ اللهِ أفواجا، وأشرقَ به وجهُ الأرضِ؛ ضياءً وابتهاجاً، وانحسرت به الوثنيةُ في جزيرةِ العربِ.
وما انفكَّ هذا الشهرُ المعطاءُ أن يكون محلاً ومضماراً، لأمجادٍ وبطولاتٍ وانتصاراتٍ لهذه الأمةِ عبرَ التاريخِ، وهذا يؤكِّدُ أن شهرَ الصيامَ له أثرٌ بالغٌ في تحقيقِ النصرِ، وصناعةِ المجدِ، وكيف لا يكون كذلك، وهو شهرُ الصبرِ والتقوى؟ أما الصبرُ فإن من الكلام المأثور: "الصومُ نصفُ الصبرِ" له شاهد بلفظه من حديث أبي هريرة عند ابن ماجه(1745)،ومن حديث سلمان الفارسي عند ابن خزيمة (1887) وفيه في وصف رمضان: وهو شهر الصبر. فالصومُ يربِّي المسلمَ على تركِ المحابِّ والملاذِّ والشهواتِ؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: «كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلا الصومَ، فإنَّه لي وأنا أجزِي به، يتركُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجلي» أخرجه البخاري (5927) مسلم (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .
أما التقوى، فإن اللهَ إنما فَرَضَ الصيامَ على عبادِهِ لتحقيقِها، قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ سورة البقرة: 183.
وبالصبرِ والتقوى يحققُ العبدُ أوَّلَ درجاتِ النصرِ الكبرى وأسبابَه، قال الله تعالى: ﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ سورة آل عمران: 120..
فإذا صبَرَت الأمةُ، واتَّقتْ اللهَ سبحانه وتعالى وَقَاهَا شرَّ عدُوِّها، ودافعَ عنها ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ﴾ سورة الحج: 38.
وهذا مما يؤكِّدُ أهميةَ تحقيقِ المقصودِ من الصيامِ، فإن المتقدِّمين لما حقَّقُوا غاياتِ الصيامِ ومقاصدَه جعلَ اللهُ شهرَ صومِهِم شهرَ عزٍّ ونصرٍ وتمكينٍ ومجدٍ.
ولما ضعُفَ صبرُ الأمةِ، وقلّ تقواها وتمسُّكُها بدينِها، وتركت الجهادَ، جعلها اللهُ غرضاً لأعدائِها، فأحلَّ بها الكفرُ -أعظمَ الضيمِ- وأنزلَ بها الأعداءُ ألوانَ الكيدِ والتعذيبِ:
أحَلَّ الكفرُ بالإسلامِ ضَيْماً *** يطولُ به على الدِّينِ النَّحيبُ
فَحَقٌّ ضـائعٌ وحِمىً مباحٌ *** ومِيضٌ قـاطعٌ ودمٌ صبيبُ
أيها المؤمنون.
إن المتأمِّلَ لحركةِ المدِّ والجزرِ في تاريخِ الأمةِ لا يعتريه شكٌّ أنَّ الأمةَ اليومَ تمرُّ بأصعبِ أيامِها، وأشدِّ أحوالِها، فإنه -وإن كان قد نزلَ بالأُمَّةِ نكباتٌ، وحلَّتْ بها الكوارثُ والأزماتُ- فإنها لم تزلْ على ثقةٍ بدينِها وربِّها، معتزةً بالإسلامِ، فخورةً بالإيمانِ؛ لذا فإنها سرعانَ ما وَثَبَتْ من سُباتها، وانقشعَتْ كروبُها بمراجعةِ دينِ ربِّها.
أما اليومَ، فإنَّ كثيراً من المسلمين أُصيبوا في إيمانِهم ودينِهم، واجتمعَ عليهم أعداؤُهم، فَرَمَوْهُم عن قوسٍ واحدةٍ، كما أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم حيث قال: «تَدَاعَى عليكم الأُمَمُ كما تدَاعى الأكلةُ على قَصْعتِها. قالوا: أومِنْ قِلَّةٍ بِنَا يومَئذٍ يا رسولَ اللهِ؟ قال: لا، بل أنتم كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغثاءِ السَّيْلِ، ولينزعَنَّ اللهُ مهابتَكم من صُدورِ أعدائِكم، وليُلقِيَنَّ في صدورِكِم الوهَنَ، قالوا وما الوهنُ يا رسولَ اللهِ؟ قال حُبُّ الدُّنْيا، وكراهِيةُ الموتِ» أخرجه أحمد (22397)، وأبو داود (4299) من حديث ثوبان رضي الله عنه ، وإسناده حسن.
وواقعُ الأمةِ اليومَ يجسِّدُ هذا الحديثَ ويوضِّحُه، فأعدادُ المسلمين كثيرةٌ، ولكنها لا تُفرِحُ صديقاً، ولا تخيفُ عدوًّا، فهم غُثاءٌ كغثاءِ السَّيْلِ.
وأما أعداؤُنا من اليهودِ والمشركين والنصارى والمنافقين، فقد جَمَعُوا فُلولَهم، ورصُّوا صفوفَهم، وجمعوا كلمتَهم على حربِ الأمةِ وتدميرِها وإذلالِها، ونهبِ ثرواتِها.
فالوثنيُّون والملحدون ممثَّلون بالعالمَ الشرقيِّ، يَسحَقُون المسلمين بالحديدِ والنَّارِ، يتربَّصون بالأمةِ الدوائرَ، ويكيدون لها المكائدَ، ولا يجدون فرصةً، ينفِّسُون فيها عن أحقادِهِم إلا فعلوا، وما تخفي صدورُهُم أكبرُ، وما يفعلونَه بإخوانِنا في كشميرٍ، وفي الهندِ، وفي بورما، وفي بلادِ الشيشانِ خيرُ شاهدٍ على ضراوةِ عداوتِهم.
أما الصليبيُّون ممثَّلون بالعالِم الغربيِّ الكافرِ، فهم ورَثةُ الأحقادِ والضغائنِ على الأمةِ، فالصليبيُّون ضائقون بالإسلامِ مُنذُ ظهورِه، وقد اشتبَكُوا مع المسلمين في حروبٍ طويلةٍ مضنيةٍ، إلا أن التاريخَ لم يشهدْ حِدَّةً في العداءِ، وخُبْثاً في الأَداءِ، وإِصراراً وتصميماً على تدميرِ الأمةِ وإفنائِها، كما يجرِى منهم اليومَ.
فهاهُم خبراؤُهُم وكبراؤُهُم وساستُهُم يتنادَوْن لحربِ الإسلامِ، وما ذاك الذي يجري في بلادِ البُوسنةِ والهرسكِ، وغيرِها من بلادِ الإسلامِ إلا ثمرةَ أعمالِهم، وجنيَ أحقادِهِم.
وما هذه الهيمنةُ السياسيةُ، والتسلطُ الاقتصاديُّ، والاستكبارُ الحضاريُّ على المسلمين، إلا قليلاً من كثيرٍ، وغيضًا من فَيْضٍ، وقد صدق القائلُ:
عادَ الصليبيُّون ثانيةً *** وجالوا في البطاحِ
عاثوا فساداً في الدِّيارِ *** كأنَّها كلأٌ مباحُ
أمَّا اليهودُ، فقد زَرَعُوا دولتَهم في قلبِ العالمَ الإسلاميِّ، وهم سماسِرةُ الكَيْدِ والمكْرِ والخُبثِ، وقد ضربوا أفظعَ الصورِ في تشريدِ المسلمين وإِذلالِهِم، والتسلُّطِ عليهم، والتلاعُبِ بهم، وانتهاكِ مقدساتِهم.
ولا عجبَ في ذلك، فهُمُ الذين قال اللهُ عنهم:﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ سورة المائدة: 82.
وهم الذين آذَوْا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ودبَّروا له المكائدَ، ونقضُوا العهودَ والمواثيقَ.
وهل ما يجري اليومَ في فلسطينَ الغاليةِ، وفي غيرِها من البلادِ، إلا من صنائِعِهم؟!
فعجباً لمن نَسِيَ الكتابَ، وركضَ وراءَ السرابِ، بطلبِ الصُّلحِ أو السِّلمِ، مع أربابِ الغدرِ والمكرِ، اليهودِ!!
لمثلِ هذا يذوبُ القلبُ مِنْ كَمَدٍ *** إنْ كانَ في القلبِ إيمانٌ وإسلامُ
أما المنافقون، فهم أشدُّ الأعداءِ خطراً، وأعظمُهُم فتْكاً؛ لذا قال الله تعالى عنهم: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ سورة المنافقون: 4.
لا يَرقُبون في مؤمنٍ إلًّا ولا ذِمَّةً، لبِسُوا مُسوحَ الضَّأنِ على قلوبِ الذئابِ، فالظواهرُ ظواهرُ الأنصارِ، والبواطنُ قد تحيَّزت إلى الكفارِ، دعاةٌ على أبوابِ جهنمَ، يصُدُّون عن سبيلِ اللهِ، ويبغونها عِوَجًا.
تلوَّنت راياتُهم، وتشكَّلت شعاراتُهم، فتارةً قوميون، وتارةً وطنيُّون، وتارةً علمانيُّون، تعدَّدَت الأسماءُ والكفرُ واحِدٌ، عاثوا في الأمةِ فساداً ودماراً، فهل التغريبُ الذي تعيشُه الأمةُ إلا من صنعِهِم؟!
وهل تنحيةُ الشريعةِ، وتطبيقُ القوانينَ الوضعيةِ إلا مِنْ أعمالِهم؟!
وهل محاربةُ الدِّينِ وأهلِه وعلمائِه ودعاتِه إلا تجارتُهم؟!
فللّهِ، كَمْ من رايةٍ للدِّينِ قد نكسُوها؟
وكمْ من شعيرةٍ من شعائرِه قد عطَّلوها؟
وكمْ من عالمٍ أو عاملٍ أو داعيةٍ للهِ قد آذَوْه؟
فلا يزال الإسلامُ وأهلُه منهم في محنةٍ وبليةٍ، فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون.
أيها المؤمنون.
هؤلاءِ هُم أعداءُ دينِكم الظاهرون والمستتِرُون، سَعَوْا إليكم بالبوائقِ والأزماتِ، وجرمُكم الذي اقترفتموه أنَّكم رضيتُم باللهِ ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًّا ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ سورة البروج: 8.
الخطبة الثانية:
أما بعد.
أيها المؤمنون.
إن أمَّتَكُم مَغزُوَّةٌ من داخلِها، ومحارَبةٌ من خارجِها، أما غَزْوُها من الدَّاخِلِ، فذلك بالمنافقين المتربِّصين من العلمانيين وأشياعِهم، الذين أضعفوا إيمانَ الأمةِ بربِّها ودينِها، بشُبُهاتِهم وشَهَواتِهم.
وأما حربُها من خارجِها، فبهذا التَّداعِي العالميِّ لأُمُمِ الكفرِ، من اليهودِ والنصارى والمشركين والملحدين على أمةِ الإسلامِ، ولن تنجوَ الأُمَّةُ من هذين الشَّبَحَين، إلا بإقبالِها على ربِّها، ورجوعِها إلى دينِها، وإعلائِها راياتِ الجهادِ بأنواعِه، جهادِ النفسِ، وجهاد العُصاةِ، بالأمر بالمعروفِ، والنهيِ عن المنكرِ، وجهادِ المنافقين، وجهادِ الكفارِ، فإنه ما أصابَ الأمةَ ما أصابَها إلا لما هَجَرَت ظهورَ الخيلِ، وأخَذَت بأذنابِ البقرِ، ويدلُّ لذلك ما رواه أبو داود وغيرُه بإسنادِه عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:«إذا تَبَايعتُم بالعِينَةِ، وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتم بالزَّرعِ، وتَرَكتُم الجهادَ سلَّطَ اللهُ عليكم ذُلًّا، لا ينزعُه حتى ترجِعوا إلى دِينِكم» أخرجه أبو داود (3464)، وصححه ابن القطان من طريق آخر عند أحمد بلفظ: "إِذا بغى النَّاس تبايعوا بِالْعينِ، وَاتبعُوا أَذْنَاب الْبَقر، وَتركُوا الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، أنزل الله بهم بلَاء، فَلم يرفعْهُ عَنْهُم حَتَّى يراجعوا دينَهم"..
فعلينا أيها الأخوةُ الأخذُ بأسبابِ النَّصرِ وسننِه للخروجِ من مآسِي اليومِ، وتحقيقِ آمالِ الغدِّ، فإنَّ النصرَ لا ينزلُ اعتباطاً، ولا يخبطُ خَبْطَ عشواءٍ، بل يجيء وِفقَ سنن وقوانينَ مضبوطةٍ، كانضباط حركة سَيْرِ الشمسِ.
فمن هذِهِ السننِ: أن تعلمَ أنَّ النصرَ من عندِ اللهِ تعالى، كما أخبَرَنا مولانا، حيث قال ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ سورة آل عمران: 126.، فمهما طلبنا النصرَ من غيرِه أذلَّنا اللهُ، وخيَّبَ سعيَنا، وما أحْوَجَنا إلى أنْ نجأَرَ إلى اللهِ تعالى بما قالَه الأوَّلُ:
فياربِّ هلْ إِلا بِكَ النَّصْرُ يُرتَجى عَليهِمْ وهلْ إِلا عليْكَ المُعوَّلُ من هاشميات كميت بن زيد الأسدي. انظر: أوضح المسالك 1/213
ومن أسبابِ النصرِ: أن ننصر اللهِ تعالى بأقوالِنا و أعمالِنا وقلوبِنا، فإنَّ اللهَ تعالى قالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ سورة محمد: 7 .
ونصرُنا للهِ تعالى يكونُ بتعظيمِ دينِه، وامتثالِ أمرِه، وإعلاءِ كلمتِه، وتحكيمِ شرعِه، والجهادِ في سبيلِه، قال الله تعالى في بيانِ المستحقين للنصرِ: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ سورة الحج: 41.
ومن سننِ النصر: أنه آتٍ لا محالةَ للمؤمنين الصادقين، وأن التمكينَ للإسلامِ متحقِّقٌ، رغمَ العوائقِ والعقباتِ، فالدِّين دِينُ اللهِ، واللهُ ناصرٌ دينَه وأولياءَه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ سورة غافر: 51.
لكنَّ هذا الوعدَ لا يعني ألا يُبتلَى المؤمنون بالنَّكَباتِ والأزَمَاتِ، ولا يعني ألا تصابَ الأمةُ بالمصائبِ والكوارثِ، بل كلُّ هذا لا بدَّ منه، ليميزَ اللهُ الخبيثَ من الطيِّبِ، قال الله تعالى:﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ سورة البقرة: 214.
وقد يبتلي اللهُ تعالى الأمةَ بتأخيرِ النصرِ، أو تمكينِ الأعداءِ بسببِ الذنوبِ والمعاصي، قال تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ سورة آل عمران: 165.
فإذا أصرَّيتُ أنا وأنت على تقصيرِنا وذنوبِنا، فهل نرجُو أن يصلحَ اللهُ الأحوالَ، ويرفعُ عنَّا هذا الذُّلَّ والصِّغارَ والانكسارَ؟!! إنَّ هذا لمِنْ أمْحَلِ المُحالِ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ سورة الرعد: 11.
فإن لم يكن مِنَّا نزوعٌ عن الذنوبِ، وإقلاعٌ عن المعاصي، ونصرٌ للدِّينِ وأهلِه، فإنَّ الله ينصرُ دينَه بغيرِنا، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ سورة محمد: 38.
أيها الأخوةُ المؤمنون.
اعلموا أن مِن أقلِّ ما يجبُ علينا تجاهَ إخوانِنا أنْ نشعرَ بما يشعُرون به، من ألمٍ وضيقٍ، فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» أخرجه مسلم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه..
وإنَّ من واجِبِنا تِجاهَ إخوانِنا أن ننْصُرَهُم بما نستطيعُ من مالٍ، ونعينَهم بِهِ على جهادِ أعدائِهم وأعدائِنا، فنكسُوَ أولادَهم، ونُطْعِمَ جائِعَهم، ونَخلفُهم في أهلِيهم وذوِيهم، وهذا هو أقلُّ ما يجبُ علينا تجاهَهُم.
فأنفِقُوا في سبيلِ اللهِ، فإنها من أعظمِ النفقاتِ، قال الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة: 261 .
وقال صلى اللهُ عليه وسلم : «أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ» أخرجه مسلم (994) من حديث ثوبان رضي الله عنه. .
ومازالَ السَّلفُ الصَّالحُ رضي اللهُ عنهم يبذِلُون جُهدَهم في الإنفاقِ في سبيلِ اللهِ، والتقرُّبِ إلى اللهِ تعالى، بمساعدةِ الغُزاةِ والمجاهدين، وإدخالِ السرورِ عليهِم، بما تصلُ إليه استطاعتُهم، قليلاً كان أو كثيراً، حتى إن بعض نسائِهم تصدَّقت بشعرِها، عَقَالاً لفرسٍ في سبيلِ اللهِ: ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ سورة محمد: 38..