الحمد لله رب العالمين، واصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
روى عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعاص رضي اللَّه عنهما عن النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ، والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ» رواه البخاري ومسلم.
استكمال خصال الإيمان:
هذا الحديث الشريف تضمن بيان النبي صلى الله عليه وسلم لمن استكمل خصال الإسلام على وجه الكمال حيث قال صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ» والإسلام قد بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «بُنِيَ الإِسَلامُ على خَمْسٍ: شَهادَةِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه، وأَنَّ مُحمداً رسولُ اللَّهِ، وإِقامِ الصَّلاةِ، وَإِيتاءِ الزَّكاةِ،، وَصَوْمِ رَمضانَ، وَحَجِّ البَيْتِ من استطاع إليه سبيلًا»[صحيح البخاري (8)، ومسلم (16)]، هذه هي دعائمه، وأصوله التي يبنى عليها، وللإسلام خصال وشعائر، وأعمال يكمل بها ويتم ومن ذلك ما تضمنه هذا الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ» أي الكامل الإسلام، الذي استوفى خصاله «مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ» أي لم يصل المسلمين منه أذى وضرر، لا من قوله، ولا من فعله، فقوله صلى الله عليه وسلم: «سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ» يعني من قوله سواء كان ذلك بالسب، أو الشتم، أو القذف، أو السخرية القولية، أو غير ذلك من الغيبة، والنميمة، وأكل المال بالباطل من طريق اللسان.
المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده:
فالمسلم من سلم المسلمون من قوله؛ فلا يكون منه قول مؤذٍ لأهل الإسلام، لا في حضورهم، ولا في غيابهم، ويده أي وسلم المسلمون من فعله فلا يكون من فعله ما يضر، وذكر اليد هنا لأنها الكاسبة التي يضاف إليها الكسب، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾[الشورى:30] أي بما فعلتم سواء باليد أو بسائر جوارح البدن، لكن ذكر اليد لأنها العادة، لأن الغالب في وسيلة الكسب والأخذ والعطاء.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسانِهِ ويَدِهِ» يعني من فعله سواء كان هذا الفعل باليد أو بغيره، فلا ضرب، ولا يسرق، ويغصبن ولا يكون من فعله ما يؤدي غيره، وهذا أقل ما يكون من حقوق أهل الإسلام أن تكف شرك عن الناس، فإن أقل الخير في الإنسان أن يكف شره عن غيره، ولذلك لما سأل الصحابي النبي صلى الله عليه وسلم عن جملة من الأعمال، وكل ما بين له صلى الله عليه وسلم عملًا من أعمال الخير قال: فإن عجزت عن ذلك نقله حتى قال: «تَكُفُّ شَرَّكَ عَنِ النَّاسِ فإنَّها صَدَقَةٌ مِنْكَ علَى نَفْسِكَ»[صحيح مسلم (84)].
كف الشر عن الناس:
فكف الشر عن الناس مما يجري الله تعالى به خيرًا كثيرًا على الإنسان، ولهذا ينبغي للواحد منا يا إخواني أن يتفقد نفسه في هذه الخصلة العظيمة، وأن ينظر إلى معاملته لغيره فيما يتصل بكف الأذى، وكف الشر، وأن لا يصل غيرك منك شرًا، لا في قول أو فعل، واحتسب الأجر عند الله في ذلك فإنه مما يجري الله تعالى به عليك خيرًا، ويفتح لك من أبواب الصلاح والاستقامة ما لا يرد على خاطرك. ولذلك قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾[الأحزاب:70]، والسديد هو القول الصالح، ثم بين نتيجة ذلك قال: ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾[الأحزاب:71] فصلاح العمل ومغفرة الذنوب رتبها الله تعالى على امتثال الأمر بأن يكون القول سديدًا، ومن سداد القول أن تمسك لسانك عن الشر، وكذلك أن تمسك فعلك عن الشر فلا يكن منك فعلًا يؤدي قريبًا أو بعيدًا، لا والد، ولا ولد، ولا رحم، ولا جار، ولا صاحب، ولا قريب، ولا بعيد، ولا مسلم، ولا غير مسلم إلا بحق، فإن الله تعالى قد قال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[البقرة:83] فينبغي للمؤمن أن يتحلى بهذه الخصلة العظيمة التي يدرك بها خيرًا كثيرًا.
الهجرة عن المعاصي:
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم خصلة أخرى فقال: «والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ» المهاجر أي المنتقل من شيء إلى شيء، والأصل في النقلة هو الانتقال وترك الردى إلى الخير لكن يطلق في الغالب على الانتقال من المكان إلى المكان، لكن يا إخواني الانتقال من مكان إلى مكان ليس هو المطلوب على وجه الكمال إنما انتقال النفس من الشر إلى الخير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ» وفي رواية أخرى: والمهاجر من هجر السيئات، ما الفائدة أن ينتقل الإنسان من بلد إلى بلد وهو مقيم على ما هو عليه من الشر، والفساد، وسيء الأخلاق والعمل!
لا فائدة من ذلك، إنما الهجرة من مكان إلى مكان سميت هجرة لأنها عون على صلاح الباطن، عون على استقامة الإنسان، ولذلك في خبر الذي قتل مائة نفسًا قال له صاحبه: أذهب إلى الأرض الفولانية فإن فيها قومًا صالحين تعبد الله معهم، هذه هجرة لكن الهجرة التي سبقت هذا هو ما في قلبه من ترك السيئات، هذا هو الذي يُطلب، وهذا هو الذي يُرغب، وهذا الذي نبه إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ» وما نهى الله عنه هو كل ما حرمه الله ورسوله.
وهجر ما نهى الله عنه من السيئات على مرتبتين:
- المرتبة الأولى أن تترك المحرم بأن لا تقترب منه ولا تقترف، وهذا أكمل ما يكون من الهجر فتترك الزنا، تترك النظر المحرم، تترك أذى الخلق في المال، تترك كل ما حرمه الله ورسوله، هذا هو الأصل في الهجر، وهجر السيئات، وهجر ما نهى الله عنه.
قد يذل الإنسان ويقع في خطأ، وكل ابن آدم خطاء، فكيف يحقق الهجرة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «والْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ» يهجر ما نهى الله عنه من السيئات التي تورط فيها بالتوبة، فالتوبة تهدم ما كان قبلها، ومن تاب قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «التَّائبُ منَ الذَّنبِ كمَن لا ذَنبَ لَهُ»، فهجر السيئات، هجر ما نهى الله عنه ابتداء بالترك فإن لم يتيسر أو زلت القدم، وهفا الإنسان في خطأ فلا يستمر، بل يحقق الهجرة الثانية أو النوع الثاني من الهجرة وهو أن يهجر السيئات بالتوبة منها، والندم عليها.
اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، أرزقنا كمال الإسلام وتمام طيب الخصال، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.