الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
«فقد روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنه قال: كَانَ عَلَى ثَقَل النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم»
أي على متاعه وعلى ما ينقله المسافر من الحوائج، «رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ كِرْكِرةُ» هذا أسمه وكان رقيقًا للنبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه، فمات هذا الرجل، «فقال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «هُوَ في النَّارِ» فَذَهَبُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فوَجَدُوا عَبَاءَة قَدْ غَلَّهَا» أي أخذها من المغنم دون رخصة ولا أذن ولا استحقاق.
عظم جرم الغلول:
هذا الحديث الشريف يبين عظيم العقوبة المرتبة على الغلول، وهو من أنواع الظلم الذي يقع فيه بعض الناس، والغلول اسم لأخذ المال بغير حق على وجه العموم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هدايا العُمَّالِ غُلولٌ» أي هدايا الموظفين الذين يأخذون رواتب، ويأخذون أجور من جهات يعملون لديها إذا أخذوا شيئًا بسبب العمل من غير هذه الجهات التي يعملون لديها فقد غلو، أي أخذوا مالًا حرامًا يحاسبون عليه.
فهذا الرجل كان قد استأمنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أمتعته من منقول، ودواب، وغير ذلك مما يكون مع المسافر، إلا أنه خان في الأمانة بشيء يسير وهو العباءة، يشبه ما يكون كساء، أو ما يسمى الآن المشلحة أو البشت ونحو ذلك، غلها أي أخذها من غير حق، أخذها من الغنيمة من غير حق. فالغلول في الأصل يطلق على المال المأخوذ من الغنيمة بغير حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هُوَ في النَّارِ» أي أنه يعذب فيه إن لمم يعفو عنه الله عز وجل، وقيل: أنه بيان للعقوبة التي نالته بسبب هذا الذنب، فهو إما إخبار بوقوع العقوبة عليه بسبب هذا الذنب، أو بأن الله سيعاقبه بذلك إن لم يعفو عنه ويتجاوز.
عظيم حرمة الأموال:
فذهبوا فوجدوا هذه العباءة ففهموا السبب الذي من أجله أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في النار، فهذا الحديث يدل على عظيم حرمة الأموال، ولا فرق في ذلك بين المال العام، والمال الخاص «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»[مسند أحمد (7727) وقال محققو المسند: إسناده جيد]، فيجب على المؤمن أن يتوقى أن يصل إليه دقيق أو جليل، كثير أو قليل من أموال الناس، أو من الأموال على وجه العموم إلا بحق.
فإن كان من الأموال الخاصة فلابد من الحق الذي يبيح وصولها إليه، وإن كان مالًا عامًا فكذلك لابد أن يكون أخذك له بحق فإنك ستسأل يوم القيامة عن مالك من أين اكتسبه وفيما أنفقته.
وفيه من الفوائد أن الإخبار بالنار عن شخص لا يكون إلا بوحي، فإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يقبلوا ذلك إلا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فبحثوا عن السبب فوجدوه، ولهذا لا يحكم لمعين من عقائد أهل السنة والجماعة أنه لا يحكم لمعين بجنة ولا نار إلا بوحي، فلا يقال: فلان في النار أو فلان في الجنة إنما يرجى للمحسن أن يكون من أهل الجنة ولو كان من كان من أهل الإحسان، ويخاف على المسيء من النار ولو كان من أهل الإساءة كائنًا من كان، فلهذا لا يجزم لمعين بجنة أو نار إلا بدليل من الكتاب والسنة.
وفيه أن الغلول من كبائر الذنوب، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هُوَ في النَّارِ»، وكل ذنب ذكرت عقوبته أن صاحبه في النار فهو من كبائر الذنوب، وذلك أن الكبائر هي كل مخالفة يكون قد ورد فيها عقوبة خاصة دنيوية أو أخروية، والنار يعاقب بها العصاة كما يعاقب بها أهل الكفر لكن الفرق بين عقوبة أهل الكفر بالنار وأهل المعصية أن عقوبة أهل الكفر دائمة لا تنقطع أجارنا الله وإياكم منها، وأما نار أهل العصيان فإنها بقدر الذنب إن لم يكن لهم ما يمحو هذه السيئات أو يتجاوز الله تعالى عنهم.
فينبغي للمؤمن أن يتوقى كل سيئة، وأن لا يستصغر ذنبًا مهما كان في عينه حقيرًا صغيرًا، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.