الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
ففي الصحيحين من حديث وعن أَبي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بنِ الحارثِ رضيَ اللَّه عنهُ خبر ما سأله النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجة الوداع، فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» فقالوا: اللَّه ورسُولُهُ أَعْلَم، قال: أَليْس ذَا الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا: بلَى، قال: «فأَيُّ بلَدٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللَّه وَرسُولُهُ أَعلمُ، قال: «أَلَيْسَ الْبلْدةَ الحرمَ؟» قُلْنا: بلَى رسول الله، قال: «فَأَيُّ يَومٍ هذَا؟» قُلْنَا: اللَّه ورسُولُهُ أَعْلمُ، قال: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْر؟» قُلْنَا: بَلَى».
أدب الصحابة في السؤال:
فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأسئلة الثلاثة تمهيدًا لما سيقوله ويبينه لهم، وكانوا في غاية الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يتقدموا بين يديه بجواب لكونهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن شيء ليبين أمرًا خفي عليهم، وإلا فالمكان معلوم، والشهر معلوم، والزمان معلوم لكنهم رضي الله تعالى عنهم لم يبادروا بالإجابة لأنهم ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم سيسمي هذا الشهر، وهذا البلد، وهذا اليوم بغير اسمه.
فلاستسلامهم لشرع الله عز وجل، ولما يأتي به نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم ردوا العلم إليه فقالوا: الله ورسوله أعلم، وهذا امتثال لما أمر الله تعالى به في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾[الحجرات:1] فإنهم لم يتقدموا بجواب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ظاهر الحال أن النبي لا يخفى عليه الشهر، ولا يخفى عليه المكان، ولا يخفى عليه اليوم وإنما سأل عن ذلك لحكمة فردوا العلم إلى الله وإلى رسوله، فقالوا: الله ورسوله أعلم.
أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم صالحة لكل زمان ومكان:
وهذا الجواب صالح في كل زمان لكل ما يتعلق بأحكام الدين والشرع، فلو سئل الإنسان عن مسألة شرعية، عن حكم من أحكام الدين فأجاب: الله ورسوله أعلم كان بذلك مصيبًا؛ لأن الله عالم بكل شيء، عالم بشرعه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه شيء من أمر ربه، ومن دين الله عز وجل فقد أوكل الله إليه البلاغ والبيان، فإذا رد الإنسان العلم في مسألة شرعية إلى الله ورسوله فيما لا يعلمه كان قد أصاب الصواب وأتى بما يجب عليه من إظهار عدم العلم والمعرفة.
لكن إن كان قد سئل عن أمر من أمور الدنيا، أو أمر من الأمور التي حدثت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، بعد وفاته فإنه لا يصلح أن يقول: ورسوله أعلم بل العلم إلى الله وحده، فلو سأل سائل: ما الذي حدث في البلد الفولاني اليوم مثلًا؟ لا يصلح أن يقول: الله ورسوله أعلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما حدث بعد موته، وهكذا في كل أمور الدنيا الحادثة بعد موته صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بحياة الناس يرد فيها العلم إلى الله وحده، فيقول: من لا يعلم الجواب عن أمر من أمور الدنيا: الله أعلم، أما إن كان السؤال عما يتعلق بأمر من أمور الدين أو أمور الآخرة فإنه إذا رد العلم إلى الله ورسوله كان بذلك مصيبًا لأن الله عالم بكل شيء، فهو بكل شيء عليم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله فهو عالم بشرعه وما جاء به من الهدى ودين الحق.
حرمة الدماء والأموال والأعراض:
بعد أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسائل الثلاثة وأجاب أتى بالمقصود من السؤال فقال: «فإِنَّ دِماءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأَعْراضَكُمْ عَلَيْكُمْ حرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا في بَلَدِكُمْ هَذا في شَهْرِكم هَذَا» فمقصود النبي صلى الله عليه وسلم من السؤال عن المكان والزمان شهرًا ويومًا إنما هو بيان حرمة الدماء والأموال والأعراض أي وجوب الامتناع عن الاعتداء على الدماء، وعلى الأموال، وعلى الأعراض، وأنها في الحرمة والمكانة كحرمة الزمان، والمكان المحرمين مستقرًا في نفوس العرب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حرمة مكة، وحرمة الشهر الحرام، وحرمة يوم النحر، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بحرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم بما يعرفونه من هذه الحرمة التي استقرت في نفوسهم زمانًا ومكانًا.
وبهذا يُعلم أن حرمة الدم، والمال، والعرض للمسلم أعظم من حرمة المكان منفردًا، وأعظم من حرمة الزمان منفردًا، ولهذا جاء في الحديث في بيان عظيم ذنب سفك الدم المسلم أنه أعظم عند الله عز وجل من هدم الكعبة، وذلك لعظيم حرمة الدماء عند رب العالمين، فحرمة الدم والمال والعرض أعظم من حرمة مكة، وأعظم من حرمة الأشهر الحرم إذا اجتمعا، فمعلوم أن الشهر الحرام يدرك الإنسان في البلد الحرام وفي غيره، في مكة وفي غيرها لكن عندما يجتمع حرمة زمان وحرمة مكان تكون الحرمة مغلظة، فإذا كانت الحرمة المغلظة مثل حرمة الدماء والأموال والأعراض، عرف بذلك عظيم قدر هذه الأشياء وعرف بذلك وجوب توقي انتهاك حرمة الدم، والمال، والعرض.
كثرة الوقوع في الأموال والأعراض:
وأنا أقول يا إخواني قد نتورع ويخاف الناس عن التعدي على الدماء لكن الأموال، والأعراض مما يقع فيه كثير من الناس، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحاسب نفسه فيما يتعلق بأعراض الناس، وأعراض الناس هو كل حديث في الإنسان يتعلق بما ينقصه أو يذمه أو يعيبه، سواء أن كان ذلك بغيبة، أو كان ذلك بنميمة، أو كان ذلك باستنقاص، أو كان ذلك باحتقار سواء أن ظاهر أو باطن حتى ما في القلوب من احتقار الناس، والترفع عليهم، والكبر عليهم هو مما يدخل في الاعتداء على أعراضهم؛ لأنك إنما استنقصته لما ترى فيه من نقص، ولما ترى في نفسك من علو عليه.
فينبغي للإنسان أن يحذر، ينبغي للإنسان أن يتوقى هذا الأمر غاية جهده، وليعلم يا إخوان أن مما يعين الإنسان على ذلك تذكر أنه سيلقى الله، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر حرمة هذه الأشياء الثلاثة وبين عظيم حرمتها قال: «وَسَتَلْقَوْن ربَّكُم فَيَسْأْلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ» مباشرة بعد هذا أخبرهم بالآخرة، فأعظم ما يكف الإنسان عن الاعتداء على الدماء والأعراض والأموال هو علمه بأنه سيلقى الله، وأن الله سيسأله، وسيحاسبه، والأمر شديد في غاية الغلظة والشدة فيما يتعلق بحقوق العباد؛ لأن حقوق العباد ليست جارية على المسامحة بل على المشاحة.
الأم وهي أعطف ما يكون على الابن يوم القيامة تبحث عن حسنة واحدة تنتزعها من ابنها في تقصير منه في حقها، فكيف بغير الأم! ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ[34] وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ[35] وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [36] لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾[عبس:37] فلنحذر حقوق العباد، لنجتهد بالتخلص منها بتوقي انتهاكها، ثم إذا وقعنا في شيء فلنبادر إلى التحلل وطلب العفو، والاستباحة، ورد الحقوق إلى أهلها، فبذلك تكون النجاة.
أعاننا الله وإياكم على الصالحات، وصرف عنا السيئات، وجعلنا من حزبه وأوليائه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.