الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
ففي حديث:
أَبي أُمَامةَ إِيَاسِ بنِ ثعْلَبَةَ الْحَارِثِيِّ رضي اللَّه عنه أَن رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرئٍ مُسْلمٍ بيَمِينِهِ فَقدْ أَوْجَبَ اللَّه لَه النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» فقال رجُلٌ: وإِنْ كَانَ شَيْئاً يسِيراً يا رسولَ اللَّه؟ فقال: «وإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ»، كررها ثلاثًا في بعض الروايات.
عظيم حرمة الأموال وعظيم خطورة اليمين الكاذبة:
هذا الحدث الشريف يبين عظيم حرمة الأموال، وعظيم خطورة اليمين الكاذبة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرئٍ مُسْلمٍ بيَمِينِهِ» بغير حق، وفي رواية: من اقتطع من حق أخيه بيمينه بغير حق «فَقدْ أَوْجَبَ اللَّه لَه النَّارَ» وهذا تحذير من أن يحلف الإنسان يمين كاذبة في اقتطاع حق، في اقتطاع شيء لا يستحقه من المال أو من غيره فإنه في رواية ذكر المال، وفي رواية ذكر الحق وهو أعم من المال.
فينبغي للمسلم أن يحذر أكل أموال الناس بالباطل فقد حرم الله تعالى ذلك، فإذا انضاف إلى أكل المال بالباطل أن يكون ذلك من طريق اليمين الكاذبة، الفاجرة كان ذلك ظلمات بعضها فوق بعض، وكان هذا موجبًا لهذه العقوبة الغليظة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث حيث قال: «فَقدْ أَوْجَبَ اللَّه لَه النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»، وهذا لا يكون إلا في كبائر الذنوب وعظائم الإثم، وذلك دليل على أن الكذب في مثل هذه الأمور ليس مما تكفره اليمين، فلا يستهين بذلك أحد ويظن أنه يحلف كاذبًا في أكل أموال الناس بالباطل، أو في بخس حقوقهم وأخذ ما لا يستحق منهم، ويقول: أكفر عن يميني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن غلظ ذلك، وأنه يوجب النار أي يثبت لصاحبه العقوبة بالنار، ويحرم عليه الجنة.
والعقوبة بالنار هنا هي بقدر هذه المعصية، فالنار هنا هي نار العصاة، وتحريم الجنة المقصود به أنه لا يدخلها قبل أن يؤخذ لمن ظلمه الحق. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أن أخذ أموال الناس في الخصومات بغير حق مما يوجب النار في حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها، فقال: «إنَّكم تختصمون إليَّ» يعني في الأموال، «ولعل بعضَكم أن يكون أَلْحَنَ بحُجَّته من بعضٍ» يعني أكثر حجة، «فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا يعني بناء على قوله بغير حق، فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها.
أموال الناس محترمة:
وهذا يدل على أن أموال الناس محترمة باليمين وبغير اليمين لكن إذا أنضاف إلى أكل المال بالباطل اليمين كان ذلك موجبًا للعقوبة الغليظة، وقد يظن ظان أن هذا في الأموال الكثيرة، أو في الحقوق الكبيرة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ولو كان شيئًا يسيرًا؟ يعني الذي حلف على أخذه بغير حق، أو الذي اقتطعه من مال أخيه بغير حق، ولو كان شيئًا يسيرًا مما لا يأبه له أو لا يفطن له، قال صلى الله عليه وسلم: «وإِنْ قَضِيباً مِنْ أَرَاكٍ» يعني ولو كان على هذا النحو من التفاهة، والقلة، والحقارة من المال، ولو كان سواكًا.
ومعلوم أن السواك من أيسر ما يكون حصولًا، وأسهل ما يكون إدراكًا يدركه الإنسان من غير عناء ولا تعب، مع هذا إذا حلف يمينًا اقتطاع شيء يسير ولو كان سواكًا كان مهددًا بهذه العقوبة، وذلك أن العقوبة ليست على حجم ما يأخذه الإنسان وما يقتطعه، إنما على أمرين:
- الأمر الأول على الظلم فالظلم ظلمات يوم القيامة.
- والثاني وهو أعظم على الاستخفاف والاستهانة باليمين الماحقة المهلكة وهي التي تكون في اقتطاع الحقوق.
ولذلك جاء في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن حَلَفَ علَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بها مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ اللَّهَ وهو عليه غَضْبانُ»[صحيح البخاري (4549)، ومسلم (138)] يعني بيمين مؤكدة وهو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان، وهذا يبين أن العقوبة عظيمة فيلقى الله وهو عليه غضبان، وموجب هذا الغضب ما في حديث أبي أمامة من أن الله عز وجل يحرم عليه الجنة، ويوجب له النار.
فينبغي لنا أن نحذر أيها الإخوة من القليل والكثير من حقوق الناس، فإن الأمر فيها شديد عسير، ولا يمكن أن يخرج الإنسان من مثل هذا إلا بتوبة صادقة يرد بها الحقوق إلى أهلها، فلا يكفي أن يستغفر ويتوب فيما بينه وبين ربه ويقول: يتحمل الله تعالى عني، بل يجب رد الحقوق إلى أهلها، فلذلك التوبة من مثل هذا تحتاج إلى نفس قوية صادقة في الأوبة، ترجع الحقوق إلى أهلها وتستغفر عما كان من يمين فاجرة، وظلم سابق.
على ماذا تكون الكفارة؟
فيما يتعلق بالكفارة في اليمين الغموس وهي اليمين على أمر ماض كاذبًا سواء أن كان ذلك في الحقوق أو في غير الحقوق لا تجب فيها الكفارة، ليس تخفيفًا بل تغليظًا وذلك أن اليمين الغموس من كبائر الذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر: «الكَبائِرُ: الإشْراكُ باللَّهِ، واليَمِينُ الغَمُوسُ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، أوْ قالَ: وقَتْلُ النَّفْسِ»، واليمين الغموس وهي أن يحلف الإنسان على شيء ماضٍ كاذبًا ولو كان في خبر، ولا يتعلق به أخذ مال فإنه يكون بذلك قد انغمس في الإثم لاستهانته باليمين، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾[آل عمران:77].
أعاذنا الله وإياكم من ذلك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.