الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث:
عَدِي بن عُمَيْرَةَ رضي اللَّه عنه قال: سَمِعْتُ رسولَ اللَّه يَقُول: «مَن اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَل، فَكَتَمَنَا مِخْيَطاً فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولا يَأْتِي بِهِ يوْم الْقِيامَةِ».
عظيم جرم الغلول:
هذا الحديث الشريف حذر فيه النبي صلى الله عليه وسلم من الغلول، والغلول هو الخيانة في الأصل، ويغلب استعماله على الخيانة في الغنيمة، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمله مطلقًا، واستعمله فيما يؤخذ بغير حق من الغنيمة، فقال صلى الله عليه وسلم: «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ»، وهذا فيما يتعلق بالخيانة فيما يأخذه الإنسان بسبب عمله ووظيفته وولايته.
الغلول خيانة في المال:
وهذا الحديث جارٍ على هذا المعنى وهو بمعنى الغلول المطلق أي الخيانة في المال، قال صلى الله عليه وسلم: «مَن اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَل» يعني من كلفناه بمهمة وعمل، «فَكَتَمَنَا مِخْيَطاً فَمَا فَوْقَه»ُ يعني أخذ مما كلفناه شيئًا زهيدًا ولو كان مخيطًا، المخيط هو الإبرة، فلو أخذ إبرة مما كلف به من غير حق كان غلولًا أي فهو غلول، وهذا بيان لحكم هذا المال وعقوبته، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي بِهِ يوْم الْقِيامَةِ» فبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم هذا العمل ببيان عقوبته، وهو أنه يأتي به غلولًا يوم القيامة.
وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾[آل عمران:161]، وهذا عام في كل من خان في المال سواء أن كان ذلك في الغنيمة، أو كان ذلك في سائر ما يؤخذ من المال بغير حق، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة هذا المجيء بالغلول يوم القيامة فيما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة أنه قال صلى الله عليه وسلم: «لا أجِدَنَّ أحدَكم يأتي يومَ القِيامةِ على رَقَبَتِهِ بَعيرٌ لها رُغَاءٌ»، وقال أيضًا: «لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ» ، وقال أيضًا: «لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَومَ القِيَامَةِ علَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ»، وكل هذه الصور إخبار عن أن الغلول يأتي به صاحبه يوم القيامة وهو يحتمل أن يأتي به على صورته يعني يأتي بما غل قد تعلق برقبته يحاسب به، ويعاقب عليه، ويعذب به، ويحتمل أن الذي في رقبته هو إثم ذلك المال الذي أخذ بغير حق سواء أن من الغنيمة أو من غيرها.
الغلول من كبائر الذنوب:
وهذا بيان أن الغلول من كبائر الذنوب، وقد أجمع العلماء على ذلك، فإن الغلول وهو أخذ المال بغير حق بالخيانة سواء أن كان في الغنائم أو في غيرها من أموال الناس العامة أو الخاصة، فإنه يأتي به يوم القيامة ويحاسب عليه، وهذا لا يكون إلا في الكبائر من الذنوب فإن الكبيرة هي كل ما ذكرت عقوبته في الدنيا أو في الآخرة بالنار أو بغيرها من العقوبات.
فلما سمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم هذا التحذير الشديد من النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الأموال التي يأخذها من تولى أعمالًا عامة من الوظائف ونحوها، قام أحدهم وهو رجل أسود من الأنصار رضي الله تعالى عنه فقال: «يا رسول اللَّه اقْبل عني عملَكَ» أي استقال من العمل، قال: «ومالكَ؟» يعني ما الذي جعلك تستقيل، قال: «سَمِعْتُك تقُول كَذَا وَكَذَا» أي سمعتك من أن يدخل على العامل شيء من المال ولو كان زهيدًا بغير حق، فلعله رضي الله تعالى عنه خاف على نفسه من أن يدخل عليه شيء من المال فيحاسب به إما لضعف أو لغير ذلك من الأسباب التي قد تكون سببًا لدخول مال بغير حق على الإنسان فرغب عن ذلك بترك هذا العمل لأجل أن لا يدخل في ذمته شيء.
فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وَأَنَا أَقُولُهُ الآن» يعني هذه المقالة التي حملتك على الاستقالة أقولها الآن: «من اسْتعْملْنَاهُ عَلَى عملٍ فلْيجِئ بقَلِيلهِ وَكِثيرِه» أي من كلفناه بعمل دخل عليه به شيء فليأت بالقليل والكثير مما يدخل عليه، «فمَا أُوتِي مِنْهُ أَخَذَ ومَا نُهِى عَنْهُ انْتَهَى» أي ما أوتي منه أي ما أذن له به من هذا المال الذي كلف به من قبل ولي الأمر فإنه يأخذه، وما نهي عنه انتهى ورده إلى بيت المال.
هدايا العمال:
وهذا بيان أن الهدايا والعطايا التي تأتي إلى العمال لا يجوز أن يستأثروا بها إذا كانت بسبب عملهم إلا بمراجعة الجهات التي يعملون عندها، فإن أذنوا لهم بأخذها فهي لهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فمَا أُوتِي مِنْهُ أَخَذَ ومَا نُهِِى عَنْهُ انْتَهَى»، لأن كل مال ينظر في حكمه إلى سبب تحصيله، كل مال يضاف إلى سبب تحصيله، فما كان سبب تحصيل الوظيفة والعمل فإنه يكون لصاحب العمل، ولصاحب الوظيفة سواء أن كانت الوظيفة في جهة عامة كوظائف الحكومات والدول، أو وظيفة خاصة كالقطاع الخاص فإنه إذا أعطي لأجل أنه يشتغل في المكان الفولاني سواء أن كانت وظيفة حكومية أو وظيفة في قطاع خاص فإنه لا يستحق ذلك إلا أن يخبر الجهة التي يعمل عندها ويقول: دخل علي كذا.
ضابط ما يجوز وما لا يجوز:
فإن أذنوا له فهي له وإلا فهي غلول، يدخل فيما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحذر في هذا الحديث، وفيما قال صلى الله عليه وسلم: «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ»، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدعى ابن اللتبية كلفه على مال فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا لكم وهذا أهدي إلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ»[صحيح البخاري (6979)، ومسلم (1832)] وهذا ضابط مهم ومفيد في تمييز ما يكون من الهدايا التي تأتي العمال التي لهم والتي لا يجوز لهم أن يأخذوها، فما أهدي للشخص نفسه بغض النظر عن وظيفته وعمله فإنه يجوز له أن يأخذه كزميلين في عمل، أو رجل في عمل وله مصاحبة ومصادقة مع أحد، وأعطاه لذاته وصحبته لا لأجل عمله فلا بأس.
أما ما أخذه لأجل عمله فهو داخل في قول: «مَن اسْتَعْمَلْنَاهُ مِنْكُمْ عَلَى عَمَل، فَكَتَمَنَا مِخْيَطاً فَمَا فَوْقَهُ، كَانَ غُلُولا يَأْتِي بِهِ يوْم الْقِيامَةِ» فالواجب الحذر من القليل والكثير من أموال الناس العامة والخاصة، ومن تساهل في ذلك فسيجد ذلك بين يديه يوم القيامة يأتي بما غل يوم القيامة، أعاذنا الله وإياكم من الغلول وسيء الأعمال، ورزقنا وإياكم الصالح في السر والعلن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.