الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
وفقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث:
أَبي قَتَادَةَ الْحارثِ بنِ ربعي رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم أَنَّهُ قَام فِيهمْ، فذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهادَ فِي سبِيلِ اللَّه، وَالإِيمانَ بِاللَّه أَفْضلُ الأَعْمالِ، فَقَامَ رَجلٌ فقال: يا رسول اللَّه أَرَأَيْت إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّه، تُكَفِّرُ عنِي خَطَايَاىَ؟ فقال لَهُ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «نعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللَّه وأَنْتَ صَابر مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غيْرَ مُدْبرٍ».
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، «ثُمَّ قال له رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم:كيْف قُلْتَ؟» أي كيف سألت أعد سؤالك، فقال الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: «أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيل اللَّه، أَتُكَفرُ عني خَطَاياي؟ فقال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «نَعمْ وأَنْت صابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقبِلٌ غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلاَّ الدَّيْن».
فاستثنى النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه على السؤال في المرة الثانية الدين ثم قال صلى الله عليه وسلم في بيان وجه الاستثناء وسببه، قال صلى الله عليه وسلم: «فَإِنَّ جِبْرِيلَ قال لِي ذلِكَ» أي أخبرني بهذا الاستثناء.
هذا الحديث تضمن جملة من الفوائد:
أول ذلك بيان فضل الجهاد في سبيل الله: لما فيه من حفظ الدين والذب عن أهل الإسلام وبلادهم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قرن في بيان فضل الجهاد: الجهاد بالإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم فيما ذكر: ذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان أفضل الأعمال، الإيمان قول وعمل، ومن العمل المندرج في الإيمان الجهاد في سبيل الله، فالتنصيص عليه مع أنه مندرج في الإيمان هو بيان فضله، وعظيم أجره، وكبير ومنزلته عند الله عز وجل.
وهنا مسألة يبحثها أهل العلم وهي أي الأعمال أفضل؟
وفي بحثهم أي الأعمال أفضل يقصدون بذلك ما بعد الفرائض والواجبات، وهذا مما اختلفت فيه أقوال أهل العلم، فمنهم من قال: إن أفضل الأعمال الصلاة على وقتها، ومنهم من قال: إن أفضل الأعمال الجهاد في سبيل الله، ومنهم من قال: إن أفضل الأعمال طلب العلم، وهكذا أقوال عديدة في ذكر أفضل الأعمال، والسبب في هذا الاختلاف تنوع إجابات النبي صلى الله عليه وسلم عمن سأله عن أفضل العمل، وخيره، والسبب في هذا التفاوت إما اختلاف الأشخاص، وإما اختلاف الأحوال، وإما اختلاف الزمان والمكان فما كان هذا الاختلاف إلا لسبب، وبالتالي أفضل الأعمال ليس واحدًا لكل أحد، بل هو مختلف باختلاف أحوال الناس، وباختلاف ما يكون من زمان ومكان، وعلى كل حال أجاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب في بيان فضل الجهاد.
الشهادة تغفر كل الذنوب:
ثم إن رجلًا لما سمع هذه الفضيلة أراد أن يعرف الأجر لأن النبي صلى الله عليه وسلم فما ذكر، ذكر الفضل على وجه العموم دون ذكر الأجر المرتب عليه، فسأل الرجل عن أجر خاص فقال: يا رسول الله أرأيت يعني أخبرني إن قتلت في سبيل الله يعني في الجهاد مخلصًا لله أتكفر عني خطاياي؟ أي أيغفر الله ويتجاوز ويمحو ويعفو عني ما كان من سيء عملي؟ وهي الخطايا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.
شرط نيل أجر الشهادة:
والخطايا هنا تشمل كل مخالفة ومعصية يقع فيها الإنسان سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وسواء كانت في حق الله أو في حق الخلق لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: نعم في سؤاله: أتكفر عني خطاياي أي ذنوبي ولم يخص ذلك بكبير ولا صغير من الذنوب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر. فأجاب بأن الشهادة والقتل في سبيل الله مما يحط الله تعالى به الخطايا لكن بشرط أن يكون المقتول صابرًا، محتسبًا، مقبلًا غير مدبر، صابر في مواجهة ما يكره، وقيامه بما فرض عليه مما يكره ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾[البقرة:216]، محتسب أي مخلص لله عز وجل، يرجو ما عنده من الثواب على العمل، لا يبتغي الأجر من سواه، فالاحتساب هنا هو الإخلاص لله عز وجل وابتغاء وجهه أي طلب الأجر منه، والفضل منه لا رياء لا مكاثرة.
ثم الوصف الثالث مقبل أي متقدم بوجهه إلى أعدائه، وهذا الوصف يدل على ترجمة الصبر المذكور، والاحتساب المتقدم فإنه لا يفعل ذلك في الغالب إلا محتسب، وقوله: غير مدبر هو تأكيد للإقبال، وقيل: هو بيان أن الجهاد والقتل في سبيل الله يحصل به الأجر لهذا الشرط وهو أن يكون في إقبال لا إدبار فيه، فإن الإدبار من موبقات الذنوب﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [15] وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾[الأنفال:15-16].
فذكر الله تعالى العقوبة العظيمة على الإدبار فإذا سلم منه العبد بأن كان مقبلًا غير مدبر نال الفضل.
الشهادة تكفر كل شيء عدا الدين:
ثم إنه انتهى الجواب إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد إضافة قيد على هذا الجواب فقال للرجل: كيف قلت؟ يعني أعد علي سؤالك، فأعاد السؤال فقال: أرأيت يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي، قال صلى الله عليه وسلم: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، إلا الدين، فاستثنى النبي صلى الله عليه وسلم الدين.
والدين هو ما ثبت في ذمة الإنسان من مال أو حق، يطلق في الغالب على ما ثبت في الذمة من الأموال لكن الحقوق دين، ولذلك لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قضاء الصوم عن من مات ممن ثبت عليه الصوم قال: «فَاقْضِ اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ»، فالدين يطلق على ما يكون مما يثبت في الذمة من الديون، ومن الحقوق قال: إلا الدين، وهذا شامل لكل حقوق الآدميين سواء ثبت ذلك بمعاملة أو ثبت ذلك بجناية أو ثبت ذلك بأس سبب من أسباب ثبوت الدين في الذمة.
فقال صلى الله عليه وسلم: إلا الدين، ثم بين أن هذا الاستثناء أوحي إليه، فقال: قال جبريل عليه السلام لي ذلك، أي أن جبريل أخبره بذلك صلوات الله وسلامه عليه، أخبره بأن التكفير للخطايا لا يشمل الدين، هذا بعض ما في هذا الحديث ويأتي ما بقي فيه إن شاء الله تعالى من فوائد في لقاء قادم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.