الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن:
قال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «الْمُؤْمنُ للْمُؤْمِن كَالْبُنْيَانِ يَشدُّ بعْضُهُ بَعْضاً» وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِه.
تواد المؤمنين وتلاحمهم:
هذا الحديث الشريف يبين عظيم ما يكون بين المؤمنين من التحام، واجتماع، وتقوية، وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بالمثال والتقريب فقال: «الْمُؤْمنُ للْمُؤْمِن» المؤمن هو من يؤمن بالله، واليوم الآخر، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، من آمن بهذه الأصول: الإيمان بالله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره فإنه موصوف بالإيمان، ويطلق المؤمن ويراد به المسلم وهو من أقر بهذه الأصول مع الإقرار بأركان الإسلام.
المؤمن في الإطلاق يشمل المؤمن والمسلم:
فقوله: (المؤمن) هنا المراد به المسلم، فالمؤمن والمسلم معناهما واحد عندما يستقل كل واحد منهما بالذكر، فقوله: المؤمن للمؤمن أي المسلم لأخيه المسلم، «كَالْبُنْيَانِ» أي مثله كمثل البنيان، وهذا تمثيل وتصوير مقالي، مثل النبي صلى الله عليه وسلم حال المؤمن مع أخيه المؤمن بالبنيان، والبنيان هو ما شيد وبني من بناء سواء أن كان جدارًا، أو كان بيتًا، أو كان ما كان من الأبنية التي تبنى، البناء إذا نظرت إلى مفرداته وجدته وحدات من البناء إما طوب، وإما بلوك، وإما حجر، وإما طيب منفردًا لا يكون شيئًا، لكن عندما يجتمع يتكون ما تشاء وما تريد من بناء جدار، أو بيت أو غير ذلك مما يُبنى، فالمؤمن مع أخيه المؤمن كالبنيان أي في حصول الخير والقوة، والامتناع مما يكون من الضعف في الانفراد كالبنيان يشد بعضه بعضًا.
أنت إذا وضعت الطوب على الطوب، أو حجر على حجر في بنائك، فإن هذا الجدار المكون من هذه الأحجار أو من هذه القطع إنما يقوى ويشتد باجتماع هذه على هذا النحو، اجتماع هذه المكونات على هذا النحو، اجتماع الطوب والحجر وما إلى ذلك فكذلك المؤمن مع أخيه المؤمن كالبنيان، قال: «يَشدُّ بعْضُهُ بَعْضاً» يشد أي يقوي، يقوي بعضه بعضًا، والشد يطلق على التقوية كما قال تعالى: ﴿وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ﴾[ص:20]، وكذلك في قوله تعالى: ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾[طه:31]، فالشد هنا المقصود به التقوية، فقوله صلى الله عليه وسلم: يشد بعضه بعضًا أي يقوي بعضه بعضًا.
معنى (المؤمن للمؤمن):
والمعنى في كلام أهل العلم بعض المؤمن لبعض المؤمن كالبنيان، وقيل: كل مؤمن لكل مؤمن كالبنيان، وقيل: المؤمن المعهود المعروف من آمن بالله وملائكته لكل مؤمن، المؤمن الكامل الإيمان لكل مؤمن كالبنيان، وهذا أقرب المعاني أن المؤمن التام الإيمان بقدر كمال إيمانه يكون مع إخوانه في تقويتهم، وتثبيتهم، وشدهم، والرعاية لهم، والعناية بهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»[صحيح مسلم (2586)] هذا بيان للمعنى بصورة أخرى، ومثال آخر، والمقصود من هذا وذاك هو بيان عظيم التحام أهل الإيمان فيما بينهم، وعظيم تعاونهم فيها بينهم، وأصل التعاون يكون على البر والتقوى، التعاون في مقتضيات الإيمان، وخصاله، وصفاته، هذا هو أصل التعاون ولكن أيضًا ينضاف إلى هذا أنه يعين بعضهم بعضًا في أمور دنياهم.
فالمؤمن للمؤمن في تقويته، وشده في أمر دينه ودنياه كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وهذا هو التصوير والتمثيل المقالي، أما الفعلي فقد شبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وهذا تمثيل زائد وهو تمثيل بالفعل حتى يقرب المعنى للسامع، فالبنيان إذا تداخل قوي كما الأصابع منفردة قد لا تقوى على الحمل أو على ما يراد منها، لكن عند التشبيك يكون ذلك أقوى لها، وأعون في حصول المقصود والمطلوب.
حقوق الأخوة:
وهكذا ينبغي أن نكون أيها الإخوة، ينبغي أن نكون فيما بيننا من علاقات، وفيما بيننا من صلات على هذا النحو من أن يقوي كل واحد منا أخاه في البر والتقوى، ولهذا كان من حقوق أهل الإيمان بعضهم على بعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾[التوبة:71] أثبت الولاية وهي الحب والقرب بين أهل الإيمان ثم قال: ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾[التوبة:71] اللهم أجعلنا منهم.
فينبغي للمؤمن أن يحرص على هذه الخصلة، فيسدد أخاه، ويفرح له بالخير، ويكمل نقصه، ولا يفرح بخطئه، ويسر بكل ما يسوقه إليه من خيرات «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ»[صحيح البخاري (13)، ومسلم (45)]، وبهذا يتحقق هذا المعنى، ولذلك قلنا: المؤمن كامل الإيمان، وبقدر نقص هذه المعاني في قلب الإنسان تجاه إخوانه يكون نقص إيمانه، فنسأل الله أن يكملنا وإياكم بالصالحات، وأن يزيدنا من الخيرات، وأن يجعلنا من خير عباده لعباده، وأن يعيذنا وإياكم من نزغات الشياطين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.