الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
قد جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا، أَوْ أَسْوَاقِنَا، ومَعَه نَبْلٌ فَلْيُمْسِكْ، أَوْ لِيَقْبِضْ عَلَى نِصالِهَا بِكفِّهِ أَنْ يُصِيب أَحَداً مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ».
حفظ سلامة المسلمين:
هذا الحديث توجيه نبوي لمن كان معه ما يخشى معه الخطأ على غيره، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم النبل وهي السهام فقال: «مَن مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا، أَوْ أَسْوَاقِنَا» يعني الأماكن المشتركة التي يجتمع فيها الناس من المساجد وهي دور العبادة أو الأسواق التي يجتمع فيها الناس للتجارة يعني أي مجمع ديني أو دنيوي، ومعه نبل سهام وهي ما يقاتل به أو يصاد، فليمسك أو ليقبض على نصالها، والنصال هو ما فيها من حديد يصيب ويجرح.
وقوله: «فَلْيُمْسِكْ، على نصالها» أو «لِيَقْبِضْ عَلَى نِصالِهَا بِكفِّهِ» أي يمنع موطن الخطر ويحتاط بإبعاد ما يمكن أن يكون من إصابة غيره بتلك النصال التي يحملها، وبين النبي صلى الله عليه وسلم علة الأمر الذي أمر به في هذا الحديث فقال: أن يصيب أحد من المسلمين منها بشيء يعني خشية أن يصيب أحدًا من المسلمين بشيء من هذه النصال التي إما أن تصيب فتجرح أو تدمي أو تقتل، وهذا من بيان حرمة الدماء، والاحتياط للبعد عن كل ما يمكن أن يكون سببًا لإراقتها لعظيم قدرها فإنه أول ما يقضى بين الناس في الدماء ولو كان ذلك على وجه الخطأ فإنه أمر بذلك حتى لو كان ما يصيب عن طريق الخطأ أو عن طريق الغفلة أو عدم القصد.
عظيم حق المسلمين في مجامعهم:
وهذا الحديث فيه بيان عظيم حق المسلمين في مجامعهم، وأن يبعد عنهم كل ما يمكن أن يكون مؤذيًا لهم في دمائهم، أو أنفسهم، أو أموالهم، أو أعراضهم فإن ذلك مما صانه الله عز وجل، وفيه صيانة المسلم عن أن يقع فيها يكون خطرًا على غيره فإن ذلك وإن كان لا يحاسب على الخطأ لكن إن قصر في أخذ الاحتياطات التي تمنع وقوع الخطأ يكون متحملًا جزء من المسئولية والإثم على ما حصل منه من تقصير.
التقصير في الأخذ بالأسباب يستوجب العقوبة:
فالله تعالى يقول: ﴿لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾[البقرة:286]، لكن الخطأ إن كان ناشئًا عن تقصير في أخذ أسباب البعد عن الخطأ فإنه يحاسب بقدر ما يكون من تقصيره في البعد عن الخطأ.
العمل بسد الذرائع:
وفيه من الفوائد أيضًا العمل بسد ومنع كل ما يكون ذريعة إلى فساد وشر، وهذه قاعدة شرعية في جوانب عديدة في صيانة الدين، وفي صيانة الدنيا، وفي صيانة النفس، والمال، والأهل، والعرض، فكل ما يفضي إلى محرم من المباحات فإنه إذا تحقق إفضاؤه إلى محرم فإن الشريعة تعمل من التدابير ما يكون سببًا لوقاية الناس من الوقوع في المحرم.
إطلاق البصر ذريعة الشر:
مثال ذلك غض البصر عن النساء، أو الأجنبيات، أو العموم عن الرجال لأن الله أمر الرجال والنساء بغض البصر ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾[النور:30]، ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾[النور:31]، فغض البصر وهو كفه عن كل ما يفضي إلى شهوة مما أمر الله تعالى به، لكن ما السبب في ذلك.
السبب في ذلك أنه يفضي إلى محرم فإن النظر أول رائد إذا كنت قد أطلقت طرفك رائدًا لقلبك يومًا أتعبتك المناظر، ورأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر، فيرى الإنسان ما لا يصبر عليه، فيكون ذلك داعيًا إلى الوقوع في المحرم.
ولذلك قال الله عز وجل: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾[النور:30]، تلك مقدمة وهذه نتيجة، ﴿ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾[النور:30]وهذه الثمرة وهو طيب القلوب وطهارتها، وذكاء الأعمال وصلاحها. المقصود أن الشريعة منعت مقدمات الخطأ، مقدمات المحرم، وهذا من تدبير رب العالمين وحكمته، قال الله تعالى: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى﴾[الإسراء:32]، ما قال: ولا تزنوا، وهنا كذلك لم ينهى عن القتل أو الإصابة بالسوء والشر إنما نهى عن مقدمات ذلك لأنه لا يمكن أن يتحقق للإنسان الوقاية من الخطر الأكبر إذا كان قد خطا بقدمه إلى الخطر الأصغر أو مقدمات ذلك الخطر.
اعتبار الشريعة لما يمنع الفساد:
فالمقصود أن هذه الشهادة للحديث دليل على اعتبار الشريعة لما يمنع من وقوع الفساد، وهو ما يعرف بقاعدة سد الذرائع لكن هذا لا يتقنه إلا من كان عالمًا بنصوص الشريعة، عارفًا بمآلات الأمور وعواقبها، وسد الذرائع له طريقان: الطريق الأول ما جاءت به النصوص فهذا بالاتفاق لابد من الأخذ به لأنه أمر نبوي أو أمر شرعي في الكتاب والسنة، أما الثاني من سد الذرائع فهو اجتهادي وهو ما يجتهد فيه أهل العلم من منع ما يكون سببًا لمحرم، أو مفضيًا لمحرم حسب تقديرهم وهذا له ضوابط وقواعد ذكرها العلماء في تفعيله.
والمقصود أن الشريعة جاءت بصيانة كل إنسان من أن يقع في خطأ، فالحديث هنا الصيانة فيه لصاحب النبل، والصيانة فيه لسائر المسلمين، فمنع الإنسان من هذا حماية لنفسه أن يقع فيما يؤاخذ عليه، وحماية لغيره من أن يصيبه ما يؤذيه بسبب غفلة صاحب النبل أو صاحب السهام.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا يا رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.