المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحييكم تحية طيبة عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة في بداية هذه الحلقة المتجددة لبرنامج "الدين والحياةط، والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة -بمشيئة الله تعالى-
مستمعينا الكرام في بداية هذه الحلقة تقبلوا تحياتي محدثكم وائل حمدان الصبحي، ومن الإخراج ماهر ناضرة، ولؤي حلبي.
مستمعينا الكرام في حلقات برنامج "الدين والحياة" نناقش موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، ويسعد بها -بمشيئة الله تعالى-، وسنأخذ أيضًا رأي الشارع الحكيم في هذه الموضوعات التي نأخذها ونظرة ديننا الإسلامي الحنيف لهذه الموضوعات التي نطرحها من هذه الموضوعات التي نطرحها تعاقب الأعوام وما فيه من الحكم والآيات وهو موضوع حلقتنا لهذا اليوم.
ضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ أهلا وسهلًا، حياك الله يا مرحبا في بداية الحلقة.
الشيخ:-مرحبا بك، وحياك الله، وحيا الله بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وجعله الله لقاء نافعًا مباركًا.
المقدم:-فضيلة الشيخ مثل ما ذكرت حديثنا في هذه الحلقة عن "تعاقب الأعوام عبر وعبرات" وما فيه من العبر والعبرات، وأيضًا الدلائل من هذا التعاقب، ابتداء فضيلة الشيخ ونحن نتحدث عن تعاقب الأعوام وما فيها من العبر والعظات نريد أن نأخذ الحِكمةَ، ما هي الحكمة من تعاقب الليل والنهار وبالتالي تعاقب الأيام والأزمنة والأعوام؟
الشيخ:- الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فإن الله -جل في علاه- خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، وأجرى حكمته على ثقل أحوال الناس وتنوعها، فهو –جل وعلا- الذي يُقلِّب الليل والنهار، وذكر في محكم كتابه في مواضع عديدة ما يشاهده الناس كلَّ يوم خلال أربع وعشرين ساعة من تعاقب الليل والنهار، هذا التعاقب وذلك الاختلاف ذكره الله -جل في علاه- في آيات كثيرة هو من آيات الله العظمى التي أعاد الله تعالى ذكرها في كتابه؛ ليذكر الناس بعظيم قدرته وبديع صنعه، ولأمور عديدة سنتطرق إليها في حديثنا في هذه الحلقة.
الله تعالي يقول: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾[البقرة: 164]، فثاني آية ذكرها بعد خلق السموات والأرض هو اختلاف الليل والنهار، ومعنى اختلاف الليل والنهار تعاقبهما قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾[الأعراف: 54] أي يغطي الليل بالنهار، وكذلك يغطي النهار بالليل، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىوَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾[الليل: 1- 2]، أقسم الله تعالى بالليل والنهار فيما يكون فيهما من الإشراق والإظلام الذي هو من آياته الكبرى، تبارك الله رب العالمين، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾[يونس: 6].
ولذلك أشار الله تعالى إلى هذا التعاقب بذكر أنه آية من الآيات الدالة على عظيم قدرته، على إتقان صنعه ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾[الحج: 61]، وذلك على نحو دائم مستمرٍّ لا ينقطع ولا يتحول، وذلك لأجل حكمة، منها معرفة عدد السنين والحساب، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾[الإسراء: 12] آيتين علامتين، أي أنهما علامتان على بديع صنع الله وعظيم إتقانه -جل في علاه-، حيث إن هاتين الآيتين تتعقبان وفق نظام دقيق لا يختلُّ ولا ينخرم، لا يتقدم ولا يتأخر، يقول: ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾[الإسراء: 12]، أي تَطْلُبوا ما يكون من الأرزاق التي تساق إليكم في الليل والنهار، في هذين الزمنين ﴿وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾[الإسراء: 12].
فالليل والنهار من الآيات العظمى التي ذكرها الله تعالى وأعاد فيها في آيات كثيرة، وذلك أن فيهما من الحكم والدلائل على إلوهية الله –عز وجل- وربوبيته وأسمائه وصفاته -جل في علاه- ما يُبهر العقول، يعني لا تستغرب أن الله –عز وجل- أقسم بالنهار في موضعين من كتابه، قال: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا﴾[الشمس: 3]، وفي موضع آخر قال: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾[الليل: 2]، وأقسم بالليل قال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾[الليل: 1]، ولا يكون هذا إلا للفت الأنظار إلى شيء عظيم، وهو ما في هذا الصنع وفي هذا الخلق من بديع صنع الله تعالى وعظيم إتقانه ما يبهر العقول ويأثر القلوب، ويجعلها مُذعنة لله الواحد القهار الذي أتقن كل شيء صنعه –جل وعلا- ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾[لقمان: 29]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾[الروم: 23].
إذًا الآيات في القرآن الكريم أشارت إلى هاتين الآيتين في بيان عظيم صنع الله تعالى فيما أراده من تعاقب الليل والنهار الذي ينتج عنه مصالح ومنافع للخلق لا يحصونها في دنياهم، ولا يحيطون بها في أمر دينهم من جهة علمهم بالله –عز وجل-، ومعرفتهم بكمالاته –سبحانه وبحمده-، كما أنه قد جعل لليل وظائف وأعمالًا لا تكون إلا فيه، وجعل في النهار وظائف وأعمالًا لا تكون إلا فيه، وجعل من الأعمال ما يكون على الدوام في الليل والنهار، فالتوبة مثلا من الأعمال التي لا تتقيَّد بقيد، فالله يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، فهذا دلالة على عظيم مَنِّه – جل وعلا- ليتنوع للناس طرق الوصول إليه، ولأجل أن يستدرك الإنسان في ليله ما فاته في نهاره، وفي نهاره ما فاته في ليله، ويحقق العبودية لله –عز وجل- والخضوع له والذلة والإقبال عليه -جل في علاه- في ليله ونهاره، ويتذكر عظيم صنع ربه -جل في علاه- فيما أجراه من هذه الآية.
من الآيات والحكم العظيمة التي تَنتُج عن تعاقب الليل والنهار: التذكر، لذلك يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾[الفرقان: 62] خلفة: يعني يتعقابان ليل يأتي بعد نهار، ونهار يأتي بعده ليل وهلم جرًّا دواليك على مر أعوامنا وكر الزمان ومر الأيام تتعاقب هاتان الآيتان، الليل والنهار، ومن فوائد هذا التعاقب التفكير لذلك يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾[الفرقان: 62] خِلْفَة يعني الليل يخلفه النهار، والنهار يخلفه ليل ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾[الفرقان: 62].
أي لمن أراد أن يعتبر ويتَّعظ ويتنبه ويعلم ما في هذا التعاقب من الآيات والدلالات العظيمة والإشارات الكبيرة التي لها من المعاني ما يأثر القلوب ويوقظها، ويجعلها تُقبِل على الله –عز وجل-، يعني الذي يرى الليل يمضي وينقضي ثم يأتي نهار يمضي وينقضي، هل يظن أن هذا الليل وهذا النهار اللذين انقضيا وبهما تنقضي آجال الخلق فيدوم له معاش، فيَقَرُّ له حال، الدنيا مبنية على التحول والتغير ليس ثمة دوام لحال الإنسان في هذه الدنيا، بل هي أحوال وأطباق كما قال تعالى: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾[الانشقاق: 19]، أي حالًا عن حال، وتختلف كما يختلف الليل والنهار للإضاءة والظلمة، وفي المنافع والمقاصد والأعمال، فكذلك حياة الإنسان لا تدوم على حال، سرور يعقبه حزن، غنًى يأتي بعده فقر، قوة يأتي بعدها ضعف، صحة قد يعقبها مرضن وهلمَّ جرًّا في تحول أحوال الناس.
ولهذا قال الله تعالى ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ﴾[الفرقان: 62]،أي يلتفت بهذه الآية إلى أن هذه الدنيا لن تدوم على حال، وأن حال الإنسان لا يمكن أن تستقر على شيء واحد لا يتحول، بل يجري عليها من التحويل ما هو ابتلاء واختبار يدعو الله تعالى الناس باختلاف الأحوال، يختبر بالغنى، يختبر بالفقر، يختبر بالصحة، يختبر بالمرض، يختبر بالقوة، بالضعف، يختبر بالكثرة، يختبر بالقلة وهلمَّ جرًّا مما يُجريه الله –عز وجل- من التغير في أحوال الناس الذي يندرج في قول الله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾[الأنبياء: 35] أي اختبارًا وابتلاء، الله تعالى يبتلي الناس في هذه الدنيا في تعاقب الليل والنهار، يعني أنت إذا جاءك الليل، الليل هذا زمن، الله تعالى أمرك فيه بأعمال وجعله سكنًا، وجعل فيه النوم الذي فيه تمتد فيه الأجسام والأجساد وتتزود ليومها الآخَر، هذا الليل فيه من الوظائف والأعمال ما لا يكون في النهار، فإذا فاتك ما فيه من خير، ولذلك تجد حتى في أمور الدنيا لما يسهر الإنسان ولا يأخذ قسطًا من الراحة في ليله ينتقل إلى نهار فيه من الثقل وفيه من عدم النشاط، وقد يكون من الاضطراب سواء النفسي أو البدني ما يجعله يتعثر في يومه التالي.
هكذا في تفويت كل وظائف الإنسان في ليله أو نهاره، إذا فاته شيء من وظائف الزمان لابد أن ينعكس هذا على ما بعده إلا أن يعين الله تعالى الإنسان فيستدرك ويسعى في تدارك ما فاته من وظائف وأعمال ليله أو أعمال نهاره ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾[الفرقان: 62] أي أراد تحقيق العبودية لله –عز وجل- هذا معنى قوله: ﴿أَرَادَ شُكُورًا﴾بدأ بالتذكر؛ لأنه منشأ كل عمل، الإنسان يبدأ أولًا في أمره بفكره، ويبدأ بعمل ذهني ثم يعقب ذلك ما يكون من عمل صالح أو غير صالح بناء على ما كان في ذهنه وفكره وخواطره وعقله وبالتالي هذا التعاقب لليل والنهار يدعو إلى التفكر، والتفكر يدعو إلى الرشد بالوصول إلى تحقيق ما أمر الله تعالى به من الشكر في قوله: ﴿أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾[الفرقان: 62] أي عبادة لله والقيام بحقه -جل في علاه-، فالشكر يطلق ويراد به العبادة، كما قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[سبأ: 13] أي قليل من عبادي الذين يعرفون العبودية لله –عز وجل- على الوجه الذي يرضاه ويريده –سبحانه وبحمده-.
إذًا هذا التعاقب لليل والنهار والتقليب هو آية من آيات الله –عز وجل- العظمى التي يشهدها الجميع، يشهدها الصغير والكبير، الحاضر والباد، حتى يا أخي النباتات تتأثر بهذا التعاقب، الخلق كلهم أجرى الله تعالى على أحوالهم أن يتأثروا بهذا التقلُّب، يدركون به منافع، يدفعون به مضار، يُختبرون فيه بأنواع من الإختبارات، المهم أن نلتفت إلى هذه الآية شروق الشمس وغروبها، زوال النهار بدخول الليل وإظلامه كله مما يجعل الإنسان يتفكر ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾[الليل: 1- 2] هذه أشياء تجعل القلب الحي يعتبر، ولهذا نَدَبَنا الله تعالى إلى ذكر في إدبار الصباح وفي إقبال ليله، وفي إدبار صباحه وإدبار ليله، كل ذلك التقلب والتحول لئلا يسيغ الناس على حال تفوت به مصالحهم.
ولذلك ذكر الله تعالى في محكم كتابه من آياته التنويعَ في الليل والنهار، وذكر فائدة من فوائد ذلك في قوله –جل وعلا-: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا﴾[القصص: 71]، تأمل يا أخي وتأملي يا أختي تأملوا الإخوة والأخوات هذا اللفظ الإلهي لهذه الآية، لو جعل الله الليل على طول الزمان، ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾[القصص: 71] ليل متتابع لا ينقطع ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ﴾[القصص: 71] الذي يأتي بالضياء وتشرق الأرض، وينتفع الناس، ويسعون في مناكبها طالبين لأرزاقهم هو الله، أفلا تسمعون؟! ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا﴾[القصص: 72]، جعل النهار ممتدًّا لا ينقطع ولا يزول ولا يحول ﴿مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾[القصص: 72] تسكنون: أي تَقَرُّون وتهجعون وتأوون إلى بيوتكم وإلى مساكنكم؛ لتدركوا مصالح تستعينون بها على قطع ما تستقبلون من زمان، ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار، هذه رحمة من الله –عز وجل-، هذا التنوع رحمة منه –سبحانه وتعالى-، وذكر لذلك فوائد لتسكنوا فيه: أي في الليل، ولتبتغوا من فضله أي في النهار، الفضل هنا الرزق وطلب التجارة والمكاسب، ولعلكم تشكرون أي ولأجل أن تحققوا الشكر له –سبحانه وتعالى- وهذا معنى قوله -جل في علاه- في الآية الأخرى ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا﴾[الفرقان: 62].
بهذا التقديم يتبين لنا الحكمة والرحمة والآية والعبرة والعظة من هذا الاختلاف في الليل والنهار، ومن حِكَمه ما ذكره الله تعالى: لتعلموا عدد السنين والحساب، وهذا ما سنتكلم عنه فيما يأتي من نقطة.
المقدم:-فضيلة الشيخ سنتحدث -بمشيئة الله تعالى- عن دلائل هذا التعاقب بعد أن تحدثنا عن الحكمة، وذكرت الحِكَم الكثيرة الوافرة التي ذكرها الله –عز وجل- في كتابه الكريم من تعاقب الليل والنهار، سنتحدث -بمشيئة الله تعالى- بعد فاصل قصير عن دلائل هذا التعاقب، الدلائل التي يشير إليها تعاقب الليل والنهار بعد أن أخذنا الحكمة من هذا التعاقب.
الشيخ:-تعاقب الأيام منها ينتج الزمان ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ﴾[النور: 44] هذا التقليب فيه عِبر وعظات، ونحن أشرنا إلى شيء من ذلك بما تقدم في الحديث، ومن ثمار ذلك التعاقب بالليل والنهار: ما يكون من معرفة عدد السنين والحساب، وهذا مقصد من مقاصد هذا التعاقب، فإنه به يعرف الناس أيامَهم، بهذا التعاقب لليل والنهار يعرفون شهورَهم، بهذا التعاقب لليل والنهار يعرفون عدد السنين، وهذا التعاقب يقول الله تعالى فيه: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾[الإسراء: 12]، أي لتطلبوا فضلا من الله وعطاء، ثم قال: ﴿وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾[الإسراء: 12].
وقال في موضع آخر في سورة يونس: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾[يونس: 5] الله أكبر، لم يخلق الله –عز وجل- هذا التعاقب هذه الآيات العظيمة الليل والنهار وتعاقبهما إلا في الحق ﴿يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[يونس: 5] أي أنه –جل وعلا- يبين الآيات ويعدِّدها تفصيلًا لقوم ينتفعون بهذا التفصيل، فيدركون منه ما يؤمِّلون من مصالح ومنافع.
الله –عز وجل- أشار في هاتين الآيتين الكريمتين أنه عاقَبَ بين الليل والنهار، وجعل ذلك على نحو من التقدير الدقيق، كما قال تعالى: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾[يونس: 5]، أي الشمس والقمر في سيرهما وفي منازلهما، قدَّره منازل ليُعرف بها انقضاء الشهور والسنين، ولذلك قوله تعالى: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾[يونس: 5] قال جماعة من المفسرين الضمير يعود إلى القمر[تفسير الطبري:15/23]، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾[يونس: 5] لتعلموا عدد الشهور والسنين ولتعلموا عددها فيفيدكم ذلك في إتقان مصالح معاشكم ومصالح ميعادكم، تعرفون بهذا الحساب الدقيق الذي أشار إليه تعالى في قوله ﴿عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ تعرفون عدد الأيام، تعرفون عدد الساعات، وتعرفون التوقيت الآن على أدقِّ ما يكون من حساب، كل ذلك صنع الله -جل في علاه-.
ولهذا لما سأل الصحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن الأَهِلَّة؟ قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ﴾[البقرة: 189]، الأهلة هي ما يكون في إقبال الشهور، من أهلة تبدو في السماء يعرفون بها دخول الشهور وانقضاء الشهور، قال تعالى: ﴿قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾[البقرة: 189] مما ينتفع به الناس في مواقيتهم، التوقيت ما الذي يفيده؟ التوقيت يفيد مصالحَ لا حصر لها ولا عدَّ في معاش الناس وأمور دينهم ودنياهم، فبها تعرف أوقات الصلوات، بها يعرف مواسم الطاعات ورمضان وشوال وذي الحجة والأشهر الحرم، لا يعرف هذا إلا بمعرفة هذا التوقيت وهذا الحساب الناتج عن تعاقب الليل والنهار.
من الناس من لا يعنيه هذا التعاقب، ولا تعاقب الليل والنهار يكون من إظلام وإشراق دون أن يقف عند ما في هذه الآيات التي تمرُّ عليه غدوًّا وعشيًّا في الصباح والمساء، في البُكور والآصال، ما يلتفت إليها، ويظن أن الدنيا هكذا جارية على وجه الدوام والثبات.
أنا أقول: يا إخواني ويا أخواتي انقضاء الساعات، انقضاء الأيام، انقضاء الليالي، انقضاء الأسابيع، انقضاء الشهور، انقضاء السنوات كل ذلك إشارة ظاهرة لكل من يفتح الله عليه قلبه إلى أن الأعمار ستنقضي، وأن الآجال ستنتهي، وأن الدوام للبَشَر في هذه الدنيا ليس حاصلًا ولا ثابتًا لأحد من الناس حتى الرسل -صلوات وسلام عليهم- لم يكن لهم خلد وبقاء، بل كما قال الله تعالى لرسوله –صلى الله عليه وسلم-: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾[الزمر: 30]، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾[الأنبياء: 34] يعني إذا مِتَّ يا محمد أسيكون لغيرك خلود وأنت أعظم الناس جاهًا عند الله، وأولى الناس في أن يرفع الله تعالى عنه هذا القضاء الذي هو قضاء مُبرَم على كل نفس ذائقة الموت؟ لكن الخلق مُسْتَوون في هذا ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾[الرحمن: 26- 27].
هذا المعنى يتذكره الإنسان إذا فتح الله عليه قلبَه، إذا ذكر واعتبر وتذكَّر أنما يشهد من هذه الآيات التي بين يديه في شروق الشمس وارتفاعها واكتمالها قوة، ثم زوالها واضمحلال قوتها على تعاقب اللحظات إلى أن تهوي وتسقط في المغرب ويذهب ضوؤها ويزول حضورها، أعمارنا كهذه الشمس نُولَد صغارًا ثم بعد ذلك نَشِبُّ ونقوى، ثم بعد ذلك نصير إلى حال من الضعف والشَّيْبة، وبعد ذلك نرتحل وقد نرتحل قبل ذلك بمراحل الله تعالى يقول: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾[الروم: 54].
وليس كل أحد تكتمل له هذه السلسلة، أو هذا الدور، أو هذه الأطباق في أنه يترحل من طبق إلى طبق، بل منا من ينقضي أجله وينتهي عمره قبل ذلك كما قال تعالى: ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ﴾[الحج: 5]، فليس الناس كلهم على حال واحدة في أنهم يمرون بهذه المراحل، بل منهم من يتوفى، ومنهم من يموت قبل ذلك، كما قال تعالى في سورة غافر: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا﴾[غافر: 67]، هذا هو التدرج الذي يجري عليه الإنسان، لكن ليس كل أحد يبلغ الغاية، ويمر بهذه المراحل وهذه الأطواف ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾[غافر: 67].
إذًا من ثمار هذا التعاقب هو اليقين بانقضاء الأحوال، بانقضاء الأعمار وانتهاء الآجال، ولهذا كل يوم وليلة إنما هما جزء من حياتك ينقضي بتعاقبهما عمرك، ولذلك الليل والنهار يعملان بآجال الناس على الدوام من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، هذا جانب من الآيات أو من الفوائد التي يتذكرها الإنسان في هذا التعاقب لليل والنهار، وأنه لا قرار للبشر بل هي أيام تنقضي.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يبادر يستبق إلى كل خير، ويسابق إلى كل بر قبل رحيله، فإنه لن يرحل إلا بعمل وما كان من عمل هو الذي سيصحبه كما قال الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة﴾[المدثر: 38] وكما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «يتْبعُ الميْتَ ثلاثَةٌ: أهلُهُ ومالُه وعمَلُه، فيرْجِع اثنانِ ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ».[صحيح البخاري:ح6514، ومسلم:ح2960/5]
يرجع الأهل والمال، ويبقى العمل فهو القرين الذي لا يفارقك في أطباقك وفي كل دُورِك، في دار الدنيا وفي دار البرزخ وفي الدار الآخرة، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم العمل، وأن يرزقنا صالحه في السر والعلن.
هذه عبرة، وهذا مما يذكر في تعاقب الليل والنهار، أيضًا مما يذكر مما ينبغي أن يتنبه له الناس، عندما تتغير أرقام السنوات عام 1441 عام 1442 عندما تتغير الأيام واحد، اثنين، ثلاثة، اليوم الأول، الثاني، الثالث، عندما تتغير الشهور ينبغي أن يستقيم الإنسان، ما فات لا يمكن تداركه، بمعنى أنه مضى لك من الخزائن ما لا يمكن استدراك ملئها، لكنك تستدرك فيما بقي من عمرك بألا يفوت ما تستقبل كما فات ما مضى.
والإنسان بين ماضٍ فات وبين حاضر قائم، وبين مستقبل غائب يرتقبه، من الناس من يكون مأثورًا في ماضيه، فتجده لا يشتغل بحاضرة بل شغله بماضيه، سواء كان ذلك بما سبق من خير وبرٍّ، فيشتغل بذكره والنظر إليه دون اكتساب حادث جديد، أو اشتغال بما به مصائب وأحزان وما أشبه ذلك مما يجري عليه في سالف الزمان، فيستحضر آلام الماضي في حاضره، فيتعطل حاضره ويفوته الحاضر كما فاته الماضي.
ومن الناس من يشتغل بمستقبله وهمُّه فيما يكون من قادم أيامه عن عمله الحاضر، وعما يكون في زمن الحاضر فيفوته، والرشد وتمام العقل هو في أن يُصلح الإنسان حالَه الحاضر ولا يترك نفسه بين ماض مؤلم وبين مستقبل مغيَّب، ويغفل بماضيه ومستقبله عن ساعته الحاضرة، ولذلك يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾[محمد: 21] إشارة إلى أن صدق الإنسان في الساعة الحاضرة مما يسهل به الله –عز وجل- العبد ما يكون من صلاح مستقبله.
ولذلك يقول الله تعالى: ﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾[محمد: 21]، هذه إشارة إلى أنه صلاح الحال لا يكون إلا بأن يطيع الإنسان أمر الله –عز وجل- وأن يقول قولًا معروفًا في ساعات حاضرة، وأن يمتثل أمر الله تعالى الآن فيما أمره به، فلو صدق الله –عز وجل- في ذلك يسَّر الله له في مستقبل أيامه ما يكون عونًا له على صلاح مستقبله واستقامة حاله في قادم أيامه.
المقدم:-فضيلة الشيخ أيضًا من الحِكم التي ينبغي أن يعيَها الإنسان المسلم في هذه الحياة أنه مهما أُعطي طولَ الأمد فإنه سيصل إلى نهايته التي كتبها الله –عز وجل- لها، فتعاقب الأيام وتعاقب الشهور وتعاقب الأيام والسنين إنما هو قرب للإنسان من أَجَلِه؛ لذلك يجب عليه أن يعمل في هذه الدنيا بما يرضي الله –عز وجل-، وأن ينسى طول الأمد الذي هو من غريزة الإنسان في هذه الدنيا.
الشيخ:-هو ما في شك يا أخي يعني، وهذه هي الفائدة الثانية التي يمكن أن يستفيدها الإنسان من هذا التعاقب لليل والنهار، ألا يكون أمله ممتدًّا على حال تشغله عن عمله الحاضر، أو عن الاستعداد ليوم الميعاد، فمن ظن أن الدنيا هي المطلب وهي المنتهى فاته الاستعداد للآخرة، الله تعالى يقول: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾[القصص: 77]، والعاقل هو من قصَّر في أمله وفي طلبه للدنيا حتى يتزود للآخرة، بمعنى أنه يصلح حاضره بأداء ما فرضه الله تعالى عليه، ولا يعني هذا أن يكون الإصلاح لحاضره مغفلًا له عما يحتاجه من دنياه، لكن أن يمد الإنسان هذا الأمل على طول الخط ليشعر أنه لن يرتحل، ولن يزول، ولن يتحول، هنا تقع المشكلة لأن طول الأمل يفضي بالإنسان إلى أن يشتغل عن العمل الراشد بأعمال من أعمال الإقامة الدائمة التي ليست هي حقيقة الدنيا.
ولذلك جاء عن عبد الله بن عمر في الطبراني وغيره أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل» البيهقي في الشعب:ح10844، وحسنه الألباني في الصحيحة:ح3427] ،والمقصود بالأمل هو طوله، وهو أن يسكن في نفس الإنسان أنه لن يرتحل عنها، وهذا خلاف الحقيقة وخلاف الواقع، خلاف الحقيقة التي يشهدها الإنسان بنقص الدنيا لمن حوله، لو كل واحد منا فكَّر بمن فقد من أحبابه وممن حوله ومن معارفه لوجد عددًا غير قليل، الدور سيأتيك، لن تخلد، لكن الإنسان يغفل وينسى ويظن أنه لن يرتحل حتى لو نزل به مرض، حتى لو نزل به ما نزل، يظن أنه باقٍ وهذا له جانب من الرحمة؛ لأن الإنسان يعمل ولا ينقطع، ولكن إذا استغرقه هذا الشعور كان مُقعِدًا له عن العمل الراشد ومورِّطًا له في العمل الفاسد.
ولهذا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أوصى ابن عمر وهو شاب في مُقتَبَل العمر ما هذا الحلم؟ قال له –صلى الله عليه وسلم-: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيْبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيْلٍ»[صحيح البخاري:ح6416]، كن في الدنيا كالغريب الذي لا يتعلق ببلد الغربة ولا يطمئن إليها، إنما يجتهد في إنهاء حاجته ليرتحل إلى بلده، «أو عابر سبيل»،وهو المسافر الذي لا يجد راحته ولا طمأنينته في السفر، فهو دائم السير بجدٍّ وصبر ومثابرة حتى يصل إلى هدفه، هذا هو حال الإنسان الراشد في هذه الدنيا أن يتعامل معها كالغريب، الغريب طبعا يسكن ويأكل ويشرب ويلبس وقد يستمتع بشيء من المتع، لكنه لا ينغمس في ذلك عن أنه في حال غربة، وأنه لن يدوم في هذا المكان، فيبقى فيه مدة ثم يرتحل منه إلى غيره.
والحال الثانية التي هي حال أشد التأهب حال عابر السبيل الذي يقطع الكيلو مترات ويقطع المسافات ليصل إلى غايته، ولذلك ابن عمر يقول في ترجمة هذا الأمر النبوي:«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل قال: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء"، وهنا التنبيه المهم: "خذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"[صحيح البخاري:ح6416]، وهذا غاية الرشد ومنتهى العقل السليم الذي ينظر للدنيا لحقيقتها النبي –صلى الله عليه وسلم- جاء عنه في الترمذي أنه نام على حصير فقام وقد أثَّر الحصير على جنبه -صلوات الله وسلامه عليه-، الحصير هو المنسوج من سعف النخل، يقول عبد الله بن مسعود: "نام رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على حصير، فقام وقد أثَّر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك غطاء، يعني فراشًا يعني ما يترك هذا الأثر في جنبك إذا نِمت عليه، قال –صلى الله عليه وسلم-: «ما أنا في الدنيا إلا كَراكِبٍ استظلَّ تحت شجرة، ثم راح وتركها».[سنن الترمذي:ح2377، وقال:«هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»]
ابن مسعود مثل ابن عمر، ابن عمر ماذا قال لما ذكر وصيةَ النبي –صلى الله عليه وسلم- «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»؟قال: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك"، ابن مسعود يقول -رضي الله تعالى عنه-: "لا يطولَنَّ عليكم الأَمَد ولا يُلْهِيَنَّكم الأمل، وإنما كلُّ ما هو آت قريب" ما في بعيد كل ما هو آت قريب، مهما امتدت أعمارنا قريبة "ألا وإن البعيد ما ليس آتيًا"[الفوائد لابن القيم:ص145] البعيد الحقيقي هو الذي لن يأتي لكن من سيأتي؟ مؤكد أنه قريب وطول الأمل وطول الأمد للإنسان يجعله يقسو قلبه وينشغل عن غايته وهدفه من هذه الحياة الدنيا وهي التزود للآخرة ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾[البقرة: 197].
ولهذا قال الفضيل بن عياض:" إن من الشقاء طول الأمل، وإن من النعيم قصر الأمل"[مدارج السالكين2/270]، يعني لا تمد أحبالًا طويلة لن تخلد في الدنيا، ولذلك تجد الذي يمد حبالًا طويلًا في الدنيا يبخل ويشح ويقاتل على هذه الدنيا على نحو يغيب عن الحلال والحرام وما يجب أن يتجنبه وما يجوز له وما لا يجوز، الذي يطول أمله في الدنيا يتشبَّث بها، ويغفل عن الآخرة ويركن إلى الدنيا ويتخذها وطنًا، ويحدث نفسه بالبقاء على نحو لا يمكن أن يكون، ومستحيل أن يبقى أحد على وجه الدوام، بل كما قال الله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾[آل عمران: 185]، والإنسان مهما أوتي من قدرة أن يتخلص من الموت في موقف في صحة بعد مرض بنجاة بعد حلول أسباب الهلاك، إلا أن الأمر كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الجمعة: 8].
والراشد هو من عمر زمانه لطاعة رب، لإصلاح حاله، إصلاح قلبه، استقامة شأنه، وهذا عمل رشيد يدرك به الإنسان سعادة دنياه وفوز آخرته.
النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم مثل حياة الإنسان بمثال خط النبي –صلى الله عليه وسلم- خطًّا مربعًا، وخط في الوسط خطًّا خارجًا منه، وخط خطوطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط عن يمينه وعن شماله، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به، وقد أحاط به من كل جانب، وهذا الخارج يعني الخارج عن المربع خط ممتد يمر فيه مربع قال الخارج عن المربع هذا الخط الخارج هو أمله، وأما الخطوط الصغار التي على الخط فهي ما يعرض الإنسان من أمور وبلايا ينجو من هذا ويسلم من هذا حتى يدركه أجله وينقطع بذلك أمله»[صحيح البخاري:ح6417]، فالأمل ينبغي ألا يمتد امتداد لا ينقطع ولا ينتهي ويغيب عنك الآخرة والعمل لها.
المقدم:-الله يعطيك العافية دكتور، وصلنا لختام هذه الحلقة، الوقت أدركنا كثيرًا، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ.
الشيخ:-بارك الله فيكم، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المعتبرين المتذكرين، وأن يجعل أيامنا وأعوامنا زيادة لنا في خيري الدنيا والآخرة، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء وشرٍّ وسائر البلدان بلاد المسلمين، وأن يوفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى ما يحب ويرضى، وأن يديم علينا الأمن والعفو والعافية والسلامة والصحة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.