الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
ففي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كمَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَداعَى لهُ سائِرُ الْجسدِ بالسهَرِ والْحُمَّى».
تحقيق مقتضيات الأخوة الإيمانية:
هذا الحديث النبوي الشريف بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما ينبغي أن يكون عليه أهل الإيمان في تحقيق مقتضياته من الأخوة الإيمانية التي تكون بينهم كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾[الحجرات:10]. فالمؤمنون بينهم من الصلة الجامعة في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كما يكون في ارتباط أعضاء الجسد بعضها ببعض. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «مثَلُ الْمُؤْمِنِينَ» أي صفتهم في هذه الخصال الثلاثة وهي: التواد، والتراحم، والتعاطف، التواد أي سعي بعضهم في كسب ود بعض، فالتواد هو بذل الجهد في تحصيل الود، وذلك بالهدية، وأوجه الإحسان التي يتحقق بها بين الناس المودة، والمودة هي من أعلى مراتب المحبة، ومن مقتضيات ذلك أن يكون الإنسان ساعيًا في كل خيرًا لأخيه، سعيًا في كف كل شر ممكن أن يصل لأخيه.
الحب في الله الباعث على كل خير:
فذكر الحب في أول ما يكون لأنه الباعث الذي يحمل على كل خير، وينكف به كل شر من الإنسان لمن يحب، أما الثانية فهي التراحم والتراحم قد لا يكون معه حب، فالرحمة يرحم الإنسان حتى من لا يحب، والمقصود بالرحمة إيصال الإحسان، فالرحمة مقتضاها أن يوصل الإنسان الإحسان لكل أوجه، الإحسان القولي، الإحسان العملي، الإحسان الظاهر، الإحسان الباطن، الإحسان القلبي، الإحسان بالعمل.
التعاطف بين المؤمنين:
وأما ثالث الخصال التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مثالها فهو التعاطف، والتعاطف من عطف الشيء بعضه على بعض لتقويته أي والمؤمنون في حال تقوية بعضهم لبعض كحال الجسد. هذا مقصوده صلى الله عليه وسلم بهذا المثال بيان أن المؤمنين في هذه الخصال الثلاث: في التواد، والتراحم، والتعاطف كحال الجسد، والجسد شيء واحد، طيب ما الذي جمع المؤمنين على حال واحدة فجعلهم كالجسد؟
هو الإيمان، فالإيمان هو الممثل بالجسد، فالجسد والإيمان هما الجامع الذي يجمع ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الصورتين، فالإيمان هو الذي يقتضي التواد، هو الذي يقتضي التراحم، هو الذي يقتضي التعاطف بين الموصوفين بالإيمان كما أن الجسد وهو الجسم بأعضائه رابطة جميع الأعضاء هي كونها في جسد واحد، فالجسد في تداعيه أي اجتماعه وانتصاره وإحساسه بسائر أجزائه على نحو واحد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «كمَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَداعَى لهُ سائِرُ الْجسدِ» أي بقيته، «بالسهَرِ والْحُمَّى» التألم والسهر العناء والتعب، وهذا لا يكون إلا عن تعاطف، وعن تراحم، وعن التحام وتواد.
عظيم الصلة بين أهل الإيمان:
وهذا يبين عظيم الصلة بين أهل الإيمان، وأن الصلة بين أهل الإيمان على مرتبة عالية سامية تجعلهم كالشيء الواحد فيما يتعلق بأفراحهم وأتراحهم، فيما يتعلق بسرورهم وحزنهم، وهذا يا إخواني لا يكون إلا لمن كمل الإيمان، ولذلك قال: «مثَلُ الْمُؤْمِنِينَ» أي الذين كمل إيمانهم، وبقدر ما تفوت هذه الخصال في الإنسان ينتقص الإيمان. ولذلك إذا وجد الإنسان من نفسه سعيًا في إيصال الخير لإخوانه في الظاهر والباطن، في الباطن بمحبة الخير لهم، وكراهية أن يصيبهم شر، والتألم لما ينزل بهم من المصائب، وفي الظاهر بالسعي في إيصال كل خير إليهم بالقول والعمل، وكف كل شر عنهم بالقول والعمل منه ومن غيره، كان هذا من دلائل صدق إيمانه، وأنه من أهل الإيمان الذين كمل إيمانهم.
خصال الإيمان:
وبقدر نقص ذلك في خصاله وصفاته يكون حاله في الإيمان، نقصًا ونزولًا، ولهذا ينبغي أن يسعى الإنسان في تكميل أخلاقه، وفي حسن معاملته لإخوانه، وأن يحتسب الأجر في ذلك عند الله، وهذا مما يعين الإنسان على إكمال خصال الخير في معاملة غيره أن لا ينتظر من الناس مكافأة ولا مقابل، بل يرجو من الله تعالى العطاء والجزاء، فيزول عنه انتظار المكافأة على العمل، كما قال الله تعالى في وصف الأبرار: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾[الإنسان:9]، فهو لا ينتظرون مكافأة لا بقول ولا بعمل، جزاء مكافأة بمقابل، وشكور ثناء قولي، فالإنسان لا ينظر من غيره.
معيار السعادة:
ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله كلمة مهمة في إراحة الإنسان في معاملته مع الناس: معيار السعادة في معاملة الخلق أن تعامل الله فيهم، أن تعامل الله فيهم أي ترجو الثواب من الله فيما تقدمه لهم، ولا تنتظر منهم جزاء ولا شكور لأن الإنسان مجبول على ما ذكر الله في محكم الكتاب، ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾[العاديات:6] يجحد، هذا هو الغالب في خصال الإنسان إلا من هذب نفسه بخصال الإيمان فإنه يخرج عن هذه الخصلة. اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، وارزقنا يا ذا الجلال والإكرام كمال الخصال في الإيمان والإحسان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.