الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد ...
فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «قبَّل الْحسنَ ابن عَليٍّ رضي اللَّه عنهما» ابن أبي طالب وهو ابن بنته فاطمة رضي الله عن الجميع «وَعِنْدَهُ الأَقْرعُ بْنُ حَابِسٍ، فقال الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشرةً مِنَ الْولَدِ ما قَبَّلتُ مِنْهُمْ أَحداً» وهذا السياق على وجه الاستغراب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تقبيله للحسن، «فنَظَر إِلَيْهِ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقال: «مَن لا يَرْحمْ لا يُرْحَمْ».
الرحمة في قلوب المؤمنين:
وفي حديث لعائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ يسألون الصحابة رضي الله تعالى عنهم أو النبي صلى الله عليه وسلم: أتقبلون صبيانكم؟، وهؤلاء إما أن يكون الرهط الذين مع الأقرع بن حابس رضي الله تعالى عنه، أو غيرهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال هؤلاء: لكنا والله ما نقبلهم، أي ما نقبل صبياننا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَو أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ!» يعني ما الذي أملكه إذا كان الله تعالى قد نزع من قلوبكم الرحمة، والحديث متفق عليه.
وفي المعنى حديث جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أيضًا في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن لا يرحَمِ النَّاسَ لا يرحَمْه اللهُ»[صحيح البخاري (7376)، ومسلم (2319)] هذه الأحاديث الثلاثة في معنى واحد وهو عظيم ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الرحمة العامة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجب الأقرع، وفي حديث جرير لم يعلق ذلك برحمة صغير أو كبير، ولا برحمة إنس أو غيره، بل جعل ذلك على وجه العموم: «مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ» ، وفي حديث جرير قال: «مَن لا يرحَمِ النَّاسَ» على وجه الخصوص.
الرحمة إيصال كل خير وإحسان إلى الغير:
والرحمة هي إيصال كل خير وإحسان إلى الغير، ومن ذلك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من رحمته بالصبيان والصغار بتقبيلهم، وتأنيثهم، وإدخال السرور عليهم، بل والتألم لما ينزل بهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعته إحدى بناته لصبي أو ولد من أولادها يحتضر، فلما حضره صلى الله عليه وسلم وكان في النزع يغرغر دمعت عيناه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فسأله سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ وكان قد استغرب دمع النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المصاب في هذا الصغير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هذِه رَحْمَةٌ» فالرحمة تكون بإدخال السرور عليهم، بملاطفتهم، بالتألم لألمهم، ومن رحمة أيضًا الصغار والأطفال منعهم مما يضرهم في دينهم ودنياهم.
رحمة النبي مع الصِّغار:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم شهد أحد صبييه الحسن والحسين قد أخذ تمرة من ثمر الصدقة وكانت على الأرض فوضعها في فيه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يضغط في خده يقول: «كَخْ كَخْ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» وهذا مصداق قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[التحريم:6]. وقد رتب الله تعالى على عدم الرحمة العقوبة بمثلها فإنه من لا يرحم الناس لا يرحمه الله، ومفهوم المقابلة لهذا أن من يرحم الناس يرحمه الله، وقد جاء التصريح بذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»[سنن الترمذي (1924) وقال: هذا حديث حسن صحيح].
الرحمة تُجازَى بمثلها:
كل هذا يدل على أن الرحمة تجازى بمثلها كما أن القسوة، والصلف، والغلظ، والجفاء يقابل بمثله، فينبغي للإنسان أن يتخلق بالرحمة، وأن يحتسب الأجر عند الله تعالى فيها، وألا يكون عنيفًا أو صلفًا مع من لا يقوى أن يدفع عن نفسه، الصغار لكونهم لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم قد يعاملون بجفاء وغلظة بخلاف الكبير، فإنه يملك أن يدفع عن نفسه بقول أو فعل، لكن الصغير لا يملك فلما كان على هذه الحال من الضعف كانت رحمته موجبة لرحمة الله عز وجل.
وعدم رحمته موجب لئلا يرحم، ألا يصل إليه إحسان، معنى قوله: لا يُرحم أي لا يصل إليه من الله تعالى إحسان، وفيه أن تقبيل الأطفال من الأولاد، وغيرهم ممن لا يلاقيهم الإنسان رحمة وملاطفة مما يؤجر عليه وهو من الرحمة، لكن ذلك على وجه يكون بعيدًا عن الشبهة، وفي مكان لا يكون فيه هذا مستغربًا، فإن ذلك مما ينبغي أن يلاحظ.
وكذلك تقبيل المحارم، والأصدقاء، وما أشبه ذلك كل هذا مما يندرج في هذا المعنى العام إذا كان الباعث عليه الرحمة، والمؤانسة، والملاطفة، أسأل الله أن يرزقنا وإياكم رحمته، وأن يجعلنا من الرحماء المرحومين، وأن يوفقنا إلى طيب الخصال مع الصغير والكبير، وأن يعيذنا من الجفاء والصلف، وأن يحلينا بالفضائل ظاهرًا وباطنًا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.