الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
الله يصطفي من الزمان ما شاء:
فإن الله عز وجل يصطفي من الزمان ما يشاء فيجعله محلًّا لما يشاء من الفضائل، والخصائص، والمزايا، ومن ذلك اصطفاؤه لشهر محرم من بين الشهور، بأن جعله مميزًا بإضافته إليه، فقال قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندما سُئل عن أي الصوم أفضل بعد رمضان قال: «أَفْضَلُ الصيَّامِ بعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ المُحَرَّمُ» الشاهد قوله: شهر الله، فإضافة هذا الشهر إلى الله جل في علاه، وهذا يفيد تشريفًا، وتعظيمًا، وتمييزًا لهذا الشهر عن سائر الشهور، وإلا فكل الزمان له جل في علاه، كما أن الخلق كله له جل في علاه، لكن عندما نضيف شيئًا إليه فإن ذلك يكسبه ميزة، وخاصية وتمييز دون سائر جنس ذلك الشيء.
فضل شهر المحرم:
فشهر محرم فيه هذه الميزة التي ميزه الله تعالى بها وهو أن الله تعالى أضافه إليه، وهو الشهر الحرام الذي قال الله تعالى فيه: ﴿لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾[المائدة:2]، فأمر الله تعالى بصيانته، وتعظيمه فنهى عن إحلال الشهر الحرام بإذهاب حرمته، وإزالة ما خصه الله تعالى به. ومن أفضل ما خص به هذا الشهر من العمل بعد تعظيم ما عظمه الله عز وجل، وترك الظلم فيه كسائر الأشهر الحرم، من أفضل ما خص به شهر محرم من بين الأعمال الصالحة الصوم كما جاء ذلك فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شهر الله المحرم.
وهذا يدل على أن الصوم في هذا الشهر عمومًا في كل أيامه مما يحبه الله تعالى، فهو أفضل الصوم المتطوع به؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عن أفضل الصوم بعد رمضان قال: شهر الله المحرم، يعني الأفضل في الأجر والمثوبة وذلك ناتج عن الأفضل في المحبة، فإن الله يحب الصوم في هذا الزمان، وما أحبه الله أجزل الإثابة عليه، وعظم الأجر فيه.
فضل صوم عاشوراء:
ومن أخص ما في هذا الشهر مما يكون من الصوم عاشوراء، فقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنِّي أحتسِبُ على اللهِ أنْ يُكفِّرَ السَّنةَ الَّتي قبْلَه» أي يمحو خطايا العام السابق به.
وسبب صوم هذا اليوم إضافة إلى هذا الأجر العظيم والفضل الكبير بحط خطايا عام كامل بصوم يوم واحد أنه يوم صالح، هكذا وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يوم فيه من صلاح أحوال البشر، وصلاح أحوال الناس ما استحق أن يوصف به هذا اليوم فهو يوم صالح، قال صلى الله عليه وسلم: «هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى»[صحيح البخاري (2004)، ومسلم (1130)]، فصلاح هذا اليوم في تحقق ما أراده الله عز وجل وأخذه على نفسه من نصر عباده وإذلال أعدائه، فقد أذل الله تعالى في يوم عاشوراء فرعون وقومه، ونصر موسى وقومه فكان ذلك من موجبات هذا الفضل لهذا اليوم أن يصومه الإنسان شكرًا لله عز وجل على هذا الفضل والإنعام بإنجاء نبي من أنبيائه الكرام، وهلاك عدو من أعدائه العظام الذين طغوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد.
كل هذه المعاني مما اختص هذا اليوم فجعله محلًا للصوم، وقد صامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر بنيته صيامه في العام الذي يلي العام الذي تكلم فيه، العام الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم، فقال لمن أخبره بأن اليهود يصومونه، قال: «لَئِنْ عِشْتُ إلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» يعني مع العاشر حتى تحصل المخالفة التي كان يحبها صلى الله عليه وسلم، ويتميز بها عن أهل الكتاب.
السنة في صوم ذلك اليوم:
فالسنة في صيام عاشوراء أن يصومه، وأن يصوم يومًا قبله وهذا أعلى المراتب من جهة ما ورد في السنة، فإن كان يشق عليه أن يصوم قبله يومًا فإن الفضيلة تتحقق بصيام يوم عاشوراء منفردًاـ ولا فرق في ذلك بأن يكون يوم جمعة، أو أن يكون يوم سبت، أو غير ذلك من الأيام؛ لأنه لا يصومه لكونه جمعة أو لكونه سبتًا على القول بكراهية تخصيص يوم السبت بل يصومه لأنه اليوم الذي جاءت فيه الفضائل المذكورة.
فإذا صام الإنسان يومًا من الأيام جمعة أو سبتًا طلبًا لفضيلة هذا اليوم أدرك ذلك ولو لم يصم قبله شيء أو بعده شيء، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.