الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فقد جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: نَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم عَن الْوِصال رَحْمةً لهُمْ» رحمة بهم، «فقالوا: إِنَّكَ تُواصلُ؟ قال: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيئَتِكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُني رَبِّي ويَسْقِيني»،
وفي رواية أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنهم لما أبو أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومًا ثم يومًا حتى رأوا الهلال، فقال صلى الله عليه وسلم: «لو تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّلِ لهمْ» حين أبوا أن ينتهوا.
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته:
هذا الحديث والروايات الأخرى فيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال، والوصال هو أن يصل صوم يوم بيوم أي أن لا يفطر بين اليومين، فيصل صوم اليوم بصوم غد دون فطر، نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة بهم أي أن هذا النهي كان مبعثه الشفقة عليهم، والرحمة لهم أن يصيبهم بسبب هذا من المشقة ما لا يطيقون، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تواصل، يعني نراك تواصل ونحن نستن بك، وقد أمرنا الله تعالى أن نأتسي بك في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾[الأحزاب:21].
خصوصية النبي صلى الله عليه بحال يهيئ له الوصال:
فبين النبي صلى الله عليه وسلم لهم الفرق فقال: أني لست كهيئتكم يعني أنا لست في هذا الشأن كحالكم، أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، أبيت أي يمده الله تعالى في الليل الذي هو محل الطعام والشراب للصائم بقوة تغنيه عن الطعام والشراب، ولذلك قال بعض أهل العلم: معنى قوله: أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني أي يجعل فيا قوة من أكل وشرب، أي يمده بقوة تغنيه عن الطعام والشراب.
وهذا حمله بعض أهل العلم أنه يُطعم صلى الله عليه وسلم طعامًا من الله عز وجل يزول به العناء والمشقة في مواصلة الصوم مواصلة يوم بيوم، والأقرب من هذا هو المعنى الثاني أن الله تعالى بسبب إقباله على طاعته، واشتغاله بذكره يكتفي بذلك عن أن يحتاج أو ينشغل بذلك عن أن يحتاج إلى طعام أو شراب، وهذه حال تخصه صلى الله عليه وسلم. وقول الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: أنك تواصل، دليل على أن الأحكام يستوي فيها المكلفون، فلا فرق في ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أمته إلا ما دل الدليل على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الشأن.
وأما في رواية أبي هريرة فإنهم لما أبوا أن ينتهوا يعني لم يعلموا من نهي النبي صلى الله عليه وسلم النهي الجازم عن الوصال، إنما كما قالت عائشة: رحمة لهم، فإنهم لم ينتهوا رضي الله تعالى عنهم من كان منهم يواصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجزم عليهم النهي، وفهموا منه أن النهي لم يكن إلا شفقة بهم، فواصلوا، فواصل النبي صلى الله عليه وسلم يومًا ثم يومًا حتى رأوا الهلال وكان في آخر شهر رمضان كالمنكل لهم لما أبوا أن يمتثلوا ما أمرهم به من عدم وصل الصوم بالصوم.
حكم الوصال:
وعامة العلماء على أن الوصال مكروه لنهي النبي صلى الله عليه وسلم وليس محرمًا؛ لأنه فعله وأقر أصحابه في فعله لما واصل بهم يومًا ثم يومًا، ولكنه نهاهم رحمة لهم فحمل ذلك على الكراهة، وقال بعض أهل العلم: بل ذلك على وجه التحريم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يترك من أراد الصوم والوصال الوصال بهذه العقوبة التي جرت منه وهو أنه واصل يومًا ثم يومًا حتى رأوا الهلال.
وفي الحديث دليل على رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته، وأنه كما قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة:128] وقد ورد الإذن بمواصلة الصوم إلى السحر كما جاء في صحيح الإمام البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم في الوصال إلى السحر، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر في صحيح الإمام مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَصْلُ ما بيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الكِتَابِ، أَكْلَةُ السَّحَرِ»[صحيح مسلم (1096)]، فمن أراد الوصال وهذا قليل في فعل الناس فإنه ينتهي إلى السحر ولا يكون بذلك مواصلًا؛ لأنه فصل صيام يوم عن اليوم الآخر بما أباح الله تعالى من الأكل في الليل.
فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.