الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
ففي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي قتادة الحارث بن ربعي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «إِنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأُرِيدُ أَنْ أُطَوِّل فِيها، فَأَسْمعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجوَّزَ فِي صلاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ».
تجوز النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة رحمة بأمته:
هذا الحديث الشريف بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون من بعض أحواله في الصلاة، فيقول: أني أقوم إلى الصلاة سواء أن كانت فرضًا أو نفلًا يصلي بغيره، «إِنِّي لأَقُومُ إِلَى الصَّلاةِ، وَأُرِيدُ أَنْ أُطَوِّل فِيها» والمقصود بالتطويل هنا تطويل القراءة، وإطالة القراءة يتبعها إطالة الركوع والسجود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كانت صلاته قريبًا من سواء كما جاء في الصحيح، فإذا أطال في القراءة أطال في الركوع والسجود.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «وَأُرِيدُ أَنْ أُطَوِّل فِيها» يعني أنوي وأهم أن أمد في الصلاة بطول قراءة، وطول ما يتبع القراءة من الركوع والسجود، ومما يدل على أن الطول هنا المقصود به طول القراءة ما جاء في الصحيحين من حديث أنس أنه قال: «فَيَقْرَأُ بِالسُّورَةِ الْخَفِيفَةِ أو السورة القصيرة»[صحيح مسلم (470)] فدل ذلك على أن الطول هو طول القيام وهو طول القراءة. فأسمع بكاء الصبي سواء أن كان الصبي حاضرًا في المسجد أو كان خارجه ويعلم أن أمه ممن ائتم به صلى الله عليه وسلم، «فَأَسْمعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجوَّزَ فِي صلاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ» أتجوز أي أخفف فالتجوز هو التخفيف، وعدم الإطالة في صلاتي كراهية أن أشق على أمه بأن ينشغل قلبها مع أبنها الذي يبكي، إذ إن قلب الأم يصيبه ثقل وانشغال شديد حين بكاء الصبي.
مراعاة حال المصلين:
فالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم راعى هذه الحال فخفف في صلاته مع نيته التطويل لئلا يشق على أمه. هذا الحديث فيه جملة من الفوائد، من فوائده بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الرحمة بأمته، والشفقة بالناس، والسعي في دفع ما يشق عليهم طاقته وجهده، وهذا صدق ما أخبر الله تعالى به في قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب:21].
بعض فوائد الحديث:
وفيه أن الإنسان يهم بصفة صلاته قبل أن يشرع فيها من تطويل أو تخفيف، وفيه أن تغيير ذلك، تغيير هذه النية التي قبل الصلاة لا يؤثر فيها إذا غير نيته من إطالة إلى تجوز وتخفيف أو العكس غير نيته من تخفيف إلى إطالة، لا يضر ذلك صلاته.
وفيه مشروعية مراعاة الإمام لحال من خلفه، وهذا قد جاء به الحديث صريحًا حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمَّ أحدكم النَّاس فليُخَفِّف؛ فإنَّ فيهم الصَّغير والكبير والضَّعيف والمريض، وذي الحاجة» وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء.
وفيه أن اشتغال المصلي بسماع ما حوله مما يحتاج إلى سماعه أو مما لا يمكن تحاشي الانشغال به لا يؤثر على صحة صلاته، بل صلاته صحيحة فإن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بكاء الصغير أو بكاء الصبي وانفعل له بتقصير الصلاة، وتخفيف القراءة، وكذلك الأم تسمع بكاء الصغير فتنشغل به، وهذا دليل على أنه يخفف الإنسان في صلاته إذا طرأ عليه ما يحتاج معه إلى تخفيف.
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يقبل على صلاته وهو فارغ من الشواغل، فإن من أعظم أسباب الخشوع في الصلاة خلو القلب من شاغل أثناء الصلاة، ولذلك قال أبو الدرداء: إن من فقه الرجل أن يقضي شغله قبل أن يقبل على صلاته، فيقبل على صلاته وقد فرغ من شغله، والمقصود بهذا الشغل الذي يمكن الانقضاء منه أو الفراغ منه قبل تضايق الوقت أو خروج الوقت، وقبل فوات ما يجب عليه من جماعة إذا كان من أهل الجماعات.
أما إذا كان لا يمكن ذلك بمعنى أنه إذا اشتغل بشغله فسيفضي هذا إلى فوات الجماعة أو إلى تأخر الوقت تأخرًا لا يجوز، فعند ذلك يقبل على صلاته ويستعين الله تعالى في حضور قلبه، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾[الطلاق:2]، أسأل الله لي ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.