الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث جندب بن عبد الله بن سفيان القصري رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «منْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبحِ فَهُوَ فِي ذِمةِ اللَّه فَلا يطْلُبنَّكُمْ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ منْ يَطْلُبْهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ يُدرِكْه، ثُمَّ يكُبُّهُ عَلَى وجْهِهِ في نَارِ جَهَنَّم» أعاذنا الله وإياكم منها.
فضيلة صلاة الصبح:
هذا الحديث الشريف فيه بيان فضيلة صلاة الصبح فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «منْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبحِ» وهي صلاة الفجر وتسمى صلاة الصبح وصلاة الفجر، وقوله صلى الله عليه وسلم: «منْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبحِ» يشمل كل من صلاها سواء صلاها منفردًا أو في جماعة، وقد جاء في رواية: «من صلى صلاة الصبح في جماعة» لكنها غير محفوظة، الزيادة هذه ضعيفة والثابت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم هو قوله: «منْ صَلَّى صَلاةَ الصُّبحِ» فهو في ذمة الله أي في عهده، وأمانه، وحفظه، فالذمة هي العهد، والأمان، والحفظ، فقوله: في ذمة الله أي في عهده.
معنى في ذمة الله:
وقوله: «فَلا يطْلُبنَّكُمْ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْء»ٍ تحذير من التفريط في صلاة الصبح هذا أحد القولين في معنى الحديث؛ لأنه إذا فرط في صلاة الصبح فاته هذا العهد، ولم يكن له عند الله تعالى عهد، والمعنى الثاني وهو الذي قال به كثير من الشراح أنه وعيد لمن آذى من صلى الصبح وحافظ عليها، فإنه في عهد الله، وفي ذمته، فإذا آذى من صلى الصبح وكان في عهد الله وذمته فإنها معاقب بطلب الله عز وجل، ولذلك قال: «فَلا يطْلُبنَّكُمْ اللَّهُ مِنْ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ» أي من حقوق عهده، ومن حقوق حفظه، ومن حقوق أمانه، فإنه من يطلبه الله من ذمته بشيء يدركه، أي لابد أن ينزل به ما يكون من عقوبة، ذاك أنه لا مفر والله تعالى لا يعجزه شيء فهو الغالب الطالب جل في علاه، الذي لا يفوته شيء في الأرض ولا في السماء.
وعيد مَن خفر ذمة الله:
وقد ذكر العقوبة بعد ذلك فقال: «ثُمَّ يكُبُّهُ عَلَى وجْهِهِ في نَارِ جَهَنَّم» أي يعذبه بالنار على هذه الصفات التي ذكر يكبه أي يلقيه في النار على وجهه في نار جهنم، فينبغي أن يحذر الإنسان هذا الوعيد الشديد الدال على أن هذا الفعل من كبائر الذنوب لأنه توعد فاعله بهذه العقوبة الشديدة، وهي أن يلقيه على وجهه في النار، وذكر الوجه على وجه الخصوص لما فيه من الإهانة، ولما فيه من العذاب إذ إن الوجه مجمع الحواس فإلقاءه على وجهه شديد في تعذيبه، بخلاف ما لو ألقاه على قفاه أو على قدمه فإنه لن يكون في الألم كما لو ألقاه على وجهه، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء» وعيد وتهديد لمن لم يحفظ عهد الله سواء كان ذلك بأذية من صلى الصبح في وقتها على الوجه الذي أمر الله تعالى به، أو وعيد لمن ترك صلاة الصبح التي أمر بها على القول الثاني في بيان معنى الحديث.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
من فوائده بيان فضيلة صلاة الصبح، فصلاة الصبح جاء فيها أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «منْ صلَّى الْبَرْديْنِ دَخَلَ الْجنَّةَ»[صحيح البخاري (574)، ومسلم (635)]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لَنْ يلجَ النَّار أَحدٌ صلَّى قبْلَ طُلوعِ الشَّمْس وَقَبْل غُرُوبَها»[صحيح مسلم (634)]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أَثْقَلَ صَلَاةٍ علَى المُنَافِقِينَ صَلَاةُ العِشَاءِ، وَصَلَاةُ الفَجْرِ، ولو يَعْلَمُونَ ما فِيهِما لأَتَوْهُما»[صحيح مسلم (651)]، والأحاديث في فضل صلاة الصبح كثيرة، ومن أبينها أن من صلى الصبح فكأنما قام الليل كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عثمان.
المهم أن صلاة الصبح ورد فيها من الفضائل الشيء الكثير وهذا من فضائلها أن من صلاها فهو في عهد الله وأمانه، وأيضًا أن من تركها فقد أخفر عهد الله وأمانه وذمته كما مر معنا في معنى الحديث، وفيه من الفوائد أن بعض الأعمال وإن كان جنسها مشتركًا في الأجر إلا أنها تخص بثواب أو بعقاب، بثواب على حفظها أو بعقاب على التفريط فيها، وهذا لا يعني أن البقية لا بأس بإضاعته وإنما هو تنبيه لشرف جنس هذه العبادة، وذكر صلاة الصبح لأنها أول الصلوات، ومبدأها في نهار الإنسان، فإذا حفظها كان لما سواها أحفظ، وإذا أضاعها كان ذلك طريقًا لإضاعة ما سواها.
صلاة الصبح أمان:
وفيه من الفوائد أن من حافظ على صلاة الفجر فإنه في أمان الله وعهده، وهذا معناه أن الله ينتقم له، ويخصه بخاصية دون من لم يصلي الفجر، أو من لم يحافظ عليها بحفظ من جهة أنه لا يضيع حقه فيما إذا اعتدي عليه، وليس في الحديث أنه لا يؤذى إنما الحديث تضمن عقوبة المؤذي أو المضيع لصلاة الفجر، المؤذي لمن صلى الفجر أو المضيع لصلاة الفجر وليس أنه إذا صلاها لا يقع عليه شيء من الأذى، أو لا يناله شيء من الأذى على معنى ما تقدم، لأنه قال: فلا يطلبنكم الله من ذمته في شيء، هذا فيما يتعلق بفضيلة المحافظة على الصلاة.
وفيه من الفوائد أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن الله لا معجز له، وفيه من الفوائد أن العقوبة بالنار تكون على ما دون الشرك والكفر من عظائم الذنوب وكبائر الإثم، إلا أن النار في هذه الحال والعقوبة بها ليست مستمرة دائمة وهي تحت المشيئة، إن شاء الله تعالى عاقبه، وإن شاء غفر له، وقد لا يعاقب بسبب ما يكون من الحسنات الماحية أو ما يكون من المصائب التي تكفر بها الخطايا والذنوب، والمقصود أن المؤمن ينبغي له أن يحافظ على هذه الصلاة، وأن يحرص عليها غاية الحرص فهي معيار ومقياس يقيس به الإنسان مدى صدقه وإيمانه، فإنه لا يحافظ على هذه الصلاة إلا مؤمن، والمقصود بالمحافظة الإتيان بها على الوجه الذي أمر الله تعالى به.
فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، وأن يعيننا على المحافظة على الصلوات والقيام بها على الوجه الذي يرضى، حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.