الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
صلاح قلب الإنسان وسلامته:
هذا الحديث المختصر في عباراته، العظيم في مدلوله ومحتواه أصل في صلاح قلب الإنسان وسلامته، فإن مبدأ صلاح كل حال من أحوال الإنسان هو صلاح قلبه، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ»، فالنبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في هذا الحديث عن الحب، والحب هو ميل النفس، وميل القلب فبين صلى الله عليه وسلم أن من مقتضيات الإيمان، ومن أعماله، ولوازمه أن يكون القلب على هذه الحال التي ذكرها صلى الله عليه وسلم لا يؤمن أحدكم أي لا يبلغ حقيقة الإيمان، ولا يحققه على وجه الكمال الواجب حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، حتى يحب لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه، والإخوة المذكورة هنا هي إخوة الدين التي ذكرها الله تعالى في قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[الحجرات:10]، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلمُ أخو المسلمِ».
تمنِّي الخير هل يقتصر على المسلم؟
ولكن هذا ليس قاصرًا على المسلم بل يشمل حتى غير المسلم فإنه لا يؤمن أحد حتى يحب للإنسان ما يحب لنفسه من خير الدين والدنيا، ولهذا قال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك الذمي أي الكافر المقيم في بلاد الإسلام، فإنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب له ما يحب لنفسه، من الإيمان بالله، واستقامة الحال، والنجاة من الهلاك بالدخول في دين الإسلام، ولهذا كانت الدعوة إلى الإسلام مما ندب الله تعالى إليه أهل الإسلام ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾[آل عمران:104]، فإذا لم يحب الإنسان لغيره الإسلام فإنه لن يتحرك لدعوتهم، ودلالتهم إليه.
إنما ذكر المسلم هنا لبيان الأحقية، وأن المسلم أولى من يحب له الخير، وآكد من ينبغي أن تكون هذه الخصلة قائمة في قلب الإنسان له، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه يعني الذي يحبه لنفسه، والذي يحبه الإنسان لنفسه هو الخير، ولذلك لا يحب عاقل رشيد لنفسه شرًا، بل لا يحب لنفسه إلا خير الدنيا والآخرة، خير الدين والدنيا، فهذا يشمل محبة الخير في كل أوجهه وأنواعه في الخير، وكل ما تطيب به النفوس ويلاءم الطباع، وتستقيم به أحوال الناس في معاشهم ومعادهم، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، كيف يمكن للإنسان أن يحقق هذه الخصلة؟
لا يمكن أن تتحقق هذه الخصلة لقلب فيه حسد، لا يمكن أن تتحقق هذه الخصلة لقلب فيه عجب، واستكبار، لا يمكن أن تتحقق هذه الخصلة لقلب مريض بالغل والحقد إنما طريق تحقيق ذلك هو سلامة القلب من الحسد، والعجب، والكبر، والغل، والحقد، وسائر الآفات المانعة من امتلاءه محبة لغيره، هل هذا يعني أن الإنسان لا يحب سبق غيره في الخير؟
تمني الخير للغير لا يعني عدم المنافسة في الخير:
الجواب لا، إنما المقصود أن يحب لأخيه ما يحبه لنفسه من الخير، ولا يعني هذا ألا يسابق إلى ما فيه فضل وخير، فقد أمر الله تعالى بالمسابقة إليه، والمسابقة معناها مسارعة وتقدم وطلب هذا التقدم على الغير. لكن لا يكره لغيره الخير بل هو يحب لغيره الخير، والخير يتسع للجميع فكل من صدق في الرغبة في الخير اتسع له سبله، فالخير الذي عند الله عز وجل يتسع للخلق كلهم إذا صدقوا في طلب ذلك الخير الذي عنده.
هذا فيما يتعلق بعمل القلب أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، أما العمل الصادر عن الإنسان سواء قولًا أو فعلًا فإنه ينبغي أن يكون تحت مظلة ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر في الصحيح قال: «فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» أي ليمت، «وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ» يعني وليعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به، فهذا فيما يتعلق بالقول والعمل أما فيما يتعلق بالقلب فقد جاء في حديث أنس: «لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
وبهذا يكون المسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»، فيكون الناس قد سلموا منه ظاهرًا وباطنًا، سلموا من قوله، سلموا من عمله، وسلموا أيضًا مما في قلبه، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الإيمان الصادقين، وأن يجملنا بخصاله، وأن يعيننا على تحقيقه سرًا وإعلانًا، ظاهرًا وباطنًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.