الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فقد روى البخاري ومسلم من حديث:
أَبي هريرة رضي اللَّه عنه أَنَّ رسول الَّله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: «حقُّ الْمُسْلمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خمسٌ»، ثم عد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقوق فقال: «رَدُّ السَّلامِ، وَعِيَادَةُ الْمرِيضَ، وإتِّبَاعُ الْجنَائِزِ، وإِجابة الدَّعوةِ، وتَشمِيت العْاطِسِ».
حقوق الأخوة الثابتة للمؤمن:
هذا الحديث الشريف أصل في بيان الحقوق الثابتة التي تقتضي التواد، والتراحم، والتعاطف بين أهل الإسلام وهي أقل ما يكون من الحقوق التي بين المسلمين في صحبتهم، وفي اجتماعهم، وهو أدنى مقتضيات الإخوة أو من أدنى مقتضيات الإخوة الفعلية؛ لأنها كلها أفعال وإلا فثمة مقتضيات قولية أشار إليها قوله صلى الله عليه وسلم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ»[صحيح البخاري (13)، ومسلم (45)] وهذه الحقوق مما يعزز هذا المعنى الذي في القلوب وهو المحبة: «أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا أَنْتُمْ فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ»[صحيح مسلم (54)].
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حقُّ الْمُسْلمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خمسٌ» الحق هو الشيء الثابت الواجب، والوجوب هنا المقصود به الثبوت وإلا فحكم هذه الأشياء المذكورة في الحديث يدور بين الفرض على الأعيان، وبين فرض الكفاية، وبين المندوب المستحب المسنون، فليس الجميع على مرتبة واحدة بل من حيث الحكم الفقهي منها ما هو فرض عين يجب على كل أحد، ومنها ما هو فرض كفاية يجب على عموم أهل الإسلام إذا قام به من يكفي سقط الطلب عن الباقيين، ومنها ما هو مسنون مندوب إليه.
هل الحقوق خمس أو ست؟
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الحديث عدها خمسًا، وفي حديث آخر وهو رواية مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «حقُّ الْمُسْلمِ عَلَى الْمُسْلِمِ ست» فزاد صلى الله عليه وسلم واحدًا، وكلا الحديثين العدد فيه إنما هو للتعليل، والتقريب، وشحن الأذهان للإحصاء والعد وليس للحصر، بمعنى أنه لا تنحصر حقوق المسلمين فيما بينهم على هذه الأمور الخمسة إنما هي أوسع من ذلك فينبغي أن يعلم أن أصول الحقوق التي تكون بين المسلمين في التعامل العام، وفي الحقوق التي تثبت لكل مسلم برًا كان أو فاجرًا هي هذه الحقوق الستة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: خمس وست ذكر العدد صلى الله عليه وسلم، والقاعدة أن المعدود إذا كان مؤنثًا فالعدد مذكر، وكذلك العكس أي يخالف العدد المعدود في التذكير والتأنيث، لكن هذا مما يعفى عنه ولا يلاحظ فيما إذا لم يذكر المعدود، وهنا لم يذكر المعدود نصًا بعد العدد بل قال: «حقُّ الْمُسْلمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خمسٌ»، ولم يقل: خمس حقوق وإلا لكان مقتضى ذلك على جريان لسان العرب أن يقول: خمسة حقوق لكن لما لم يذكر المعدود كان ذلك دليلًا على أن الأمر يسير في التأنيث والتذكير.
وأكثر الشراح يذكرون خمس خصال أو ست خصال والأمر في هذا قريب، هذه المذكورات في هذا الحديث هي مما ينتظم به الصالح العام في العلاقات بين أهل الإسلام.
حق رد السلام:
رد السلام وهو إجابته بالرد على من حياك بالسلام ومثله من حياك بغير السلام من التحايا التي يحيا بها الناس، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾[النساء:86] وإنما ذكر السلام لأنه الأصل في التحية بين أهل الإسلام فلذلك ذكرها، والحكم ثابت لها ولغيرها من التحايا التي يتحايا بها الناس، رد السلام واجب على الأعيان فيما إذا كان ذلك موجهًا إلى شخص بعينه، أما إذا كان موجهًا إلى جماعة فإنه يكفي في الرد واحد.
حق عيادة المريض:
والحق الثاني الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم عيادة المريض، وعيادة المريض هي زيارته تفقدًا لحاله، ومواساة له، واطمئنان عليه، وهي من الحقوق التي تثبت لكل مريض فإنه لم يخص ذلك برحم، ولا بجار، ولا بصاحب، ولا بصديق، ولا بصنف من أصناف أهل الإسلام بل عم ذلك ليشمل كل أهل الإسلام، فمن حقوق المريض أن يعوده أهل الإسلام، وهذا من فروض الكفايات على الصحيح فإن ذلك مما يتحقق به عيادة واحد لإثبات هذا الحق الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
والمريض الذي يعاد هو من لا يتمكن من الخروج أي هو الذي أقعده المرض أما من يخرج ويأتي ولا يعثره المرض عن مزاولة نشاطه المعتاد فهذا عيادته ليست كعيادة القاعد الذي حبسه مرضه وأقعده، وقد ورد في فضل عيادة المريض أحاديث كثيرة، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا عَادَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ لَمْ يَزَلْ فِي خُرْفَةِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ»[صحيح مسلم (2568)] وهذا يدل على عظيم الأجر المرتب على العيادة ولكن ينبغي أن يتحلى بآداب العيادة وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى، فالمقصود ذكر الحق وهو عيادة المريض.
حق اتباع الجنائز:
الحق الثالث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم إتباع الجنائز، والجنائز جمع جنازة وهو يطلق على الميت المحمول على النعش، وقد تطلق على النعش، وقد تطلق على الميت منفردًا المقصود إتباع الميت كما جاء ذلك في الروايات الأخرى، وإتباعه يقصد به العناية به تغسيلًا، وتكفينًا، وتجهيزًا، وصلاة، ودفنًا فإن إتباع الجنائز يتحقق به كل هذه المعاني لكن هذا ليس واجبًا على الأعيان إنما هو من فروض الكفايات، وما زاد على ما يتحقق به فرض الكفاية فهو مسنون، وهذا من الحقوق العامة لأهل الإسلام على وجه العموم من البر والفاجر، والذكر والأنثى.
حق تلبية الدعوة:
والحق الرابع الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هو إجابة الدعوة، والمقصود بالدعوة دعوة الرجل غيره إلى وليمة، أو إلى مناسبة، يولم فيها بطعام ونحوه، فالدعوة هنا المقصود الدعوة إلى الوليمة سواء أن كانت وليمة كبيرة أو صغيرة فمن المندوب إجابة الداعي، وإجابته إذا وجه الدعوة إليك على وجه الخصوص أما إذا كانت الدعوة على وجه العموم كدعوى الحفلة كأن يقف رجل على مجموعة يقول: حياكم الله تفضلوا، فهذه ليست دعوة خاصة فلا تجب إجابتها، إنما الدعوة الخاصة التي يقصد بها رجلًا بعينه فيوجه إليه الدعوة هذه من الحقوق على أهل الإسلام أن يجيبوا من دعاهم.
ويتأكد هذا في دعوة العرس فقد قال بوجوبها الحنابلة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ، فَقَدْ عَصَى الله ورسوله»[صحيح مسلم (1432)].
حق تشميت العاطس:
الحق الخامس الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم تشميت العاطس، والتشميت هو الإبعاد في اللغة، شمت الشيء أي أبعده، وتشميت العاطس إبعاده عما قد يقتضيه العطاس من مرض، ويقول: تسميت، والتسميت هو الدعاء له بالحسن، وقيل غير ذلك في المعنى. المقصود أن تشميت العاطس هو الدعاء له بالرحمة، إذا عطس فحمد الله فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا عَطس أحدُكُم فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتُوهُ، فإنْ لَمْ يَحْمَدِ الله فَلا تُشَمِّتُوه» فأمر بالتشميت عند حمد العاطس، فإذا لم يحمد العاطس فإنه لا يثبت له هذا الحق، لكن إن ابتدره أحد بالدعاء ليذكره بالأدب المطلوب عند العطاس من حمد الله فهذا من الإحسان إليه.
هذه خمسة حقوق ذكرها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسأل الله تعالى أن يعيننا وإياكم على ذكره، وشكره، وحسن عبادته، ونستكمل الحديث عن بقية الحقوق في لقاء قادم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.