الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد..
فقد نقل الإمام النووي ـ رحمه الله ـ باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة:
عن أَبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «لاَ يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْداً في الدُّنْيَا إلاَّ سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه مسلم حديث رقم (2590)
فضيلة الستر:
هذا الحديث الموجز المختصر فيه بيان فضيلة الستر، والستر جاء هنا مطلقًا فقال: لا يستر عبد عبدًا فكل من ستر غيره في الدنيا فإنه موعود بهذا الأجر العظيم في الآخرة وقد جاء هذا في حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «من ستر مسلمًا؛ ستره اللهُ يومَ القيامةِ» وهنا لم يقيده بالإسلام بل جعله عامًا وذلك أن الستر في الأصل يعود إلى معنى وهو أن الأصل ستر معايب الخلق إلا أن تقتضي مصلحة في كشف ذلك، وإلا فالأصل ستر معايب الخلق على وجه العموم والإجمال.
وإن كان بعض أهل العلم قيد ذلك بالمسلم للحديث الآخر، إلا أنه يمكن أن يقال: أنه من ذكر بعض أفراد العام الذي لا يقتضي التخصيص.
الستر دائر على تحقيق المصلحة:
وعلى كل حال فالستر دائر على تحقيق المصلحة، فمتى ترتب على الستر تحصيل مصلحة ودرأ مفسدة، فإنه مأمور به ومندوب إليه وموعود صاحبه بالثواب والأجر بغض النظر عن المستور، ومتى ما كان في الستر مفسدة، فإنه مما لا يأمر به، بل مما ينبغي العمل بضده بما تقتضيه المصلحة لكن الأصل هو الستر، والستر هو في الأصل تغطية الشيء وإخفاءه وذلك فيما يتعلق بالمعايب والمعاصي ويشمل أيضًا كل ما يكره الإنسان انكشافه ولو لم يكن عيبًا ولا معصية كخبر يكره انكشافه أو واقع يكره ظهورها وشيوعها أو قول يكره بيانه وظهوره.
فكله يدخل في المعنى، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يذكر المستور هنا ليشمل كل ما يرغب في ستره، ومنه ستر العورة الحسية فإن ستر العورة الحسية مما يدخل في الحديث، فإذا رأى الإنسان نائمًا قد انكشفت عورته فستره دخل في قوله –صلى الله عليه وسلم-: «لاَ يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْداً في الدُّنْيَا إلاَّ سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ».
إذًا الستر يشمل ستر ما يستقبح ظهوره ويشمل العورات الحسية والعورات المعنوية من العيوب والنقائص والمثالب والمعاصي، لكن فيما يتعلق بالمعاصي المعصية نوعان من حيث سترها؛ معصية انقضت وانتهت فهذه يندب سترها إلا إذا اقتضت المصلحة كشفها والأصل فيها الستر ويشمل ذلك كل المعاصي التي يتورط فيها الناس.
النوع الثاني من المعاصي، المعاصي القائمة التي لا تزال واقعة فهذه أيضًا يطلب سترها، لكن إذا اقتضت المصلحة كشفها فإنها تكشف، وهذا لا يتعارض مع وجوب إزالتها والأمر بالمعروف فيها والنهي عن المنكر فيها، فإن ذلك لا يتعارض مع الستر فقد ترى شخصًا على معصية وتنهاه لكن تستره، فلا تعارض بين النهي عن المنكر وبين الأمر بالمعروف وبين الستر، فتستر المعصية القائمة مع أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر أمرك بالمعروف المتروك ونهيك عن المنكر الذي وقعه الإنسان.
الستر لا يمنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وبهذا يتبين أن الستر جهته منفكة عن الأمر والنهي، فإنه ينبغي أن يأمر كل أحد بكل خير وينهى كل أحد عن كل شر، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[آل عمران: 104]، «مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ»[صحيح مسلم (49)].
متى يجب عدم الستر؟
لكن ما قال: وليفضحه إلا أن يكون في الإعلام به طريق إزالة المنكر ولا يمكن إزالته إلا بذلك، فعند ذلك تبليغ الجهات ذات الاختصاص من ولاة الأمر يتحقق به إزالة المنكر فلا يأمر بالستر في مثل هذه الحال؛ لأن الستر إعانة على المنكر، وإغراء بمواقعته والاستمرار فيه.
ولهذا قال أهل العلم: إن أهل الفجور الذين يواقعون السيئات ولا يتورعون عنها ويسعون في الأرض فسادًا إذا كان سترهم يفضي إلى إغرائكم بمزيد سوء وشر فإنهم لا يسترون، وبهذا يتبين أن المطلوب هو السعي في إزالة المنكر قدر الطاقة والوسع مع الستر قدر الإمكان ما الثواب الذي رتبه النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ قال: «ستره الله يوم القيامة».
قبل أن نتكلم عن هذا هل يدخل في الستر المندوب ستر النفس؟
الجواب: نعم من باب أولى إذا كنت مطلوبًا أن تستر غيرك فستر نفسك من باب أولى، هل الغيبة تنافي الستر؟ نعم الغيبة تنافي الستر ولذلك يجب على الإنسان أن يكف لسانه عن غيره، فإن ذلك من ستر معايب الناس لأن الإنسان إذا تحدث عن غيره بالغيبة، إما أن يكون صادقًا فيكون قد كشف الستر، وإما أن يكون كاذبًا فيكون قد وقع في البهتان، وكلاهما مما نهى عنهما النبي –صلى الله عليه وسلم- من الغيبة ونهى عنه الله –عز وجل- في كتابه.
وأما الأجر المرتب فهو أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "ستره الله يوم القيامة".
لستر الله للعبد معنيان:
وستر الله –عز وجل- يوم القيامة يحتمل أمرين؛ أن يخفي سيئاته ومعاصيه عن الناس فلا يعلم بها، ولا يجهر بها بل هي مستورة مخفية عن الناس يوم يقوم الأشهاد.
والنوع الثاني أو المعنى الثاني من معاني الستر أن الله يغفر السيئة من الأصل، فيجزاه بالستر حطًا لسيئاته ومغفرة لذنوبه والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن هذين المعنيين متلازمين، فإن من مقتضيات ستر الله لعبده يوم القيامة أن يغفر له ذلك وأن لا يعذبه بها وألا يفضحه.
فقد جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إنَّ اللهَ يُدني المؤمنَ فيضعُ كنَفَه عليه ويسترَهُ فيقولُ : أتعرفُ ذنبَ كذا فيقولُ نعم أي ربِّ حتَّى إذا قرَّرَه بذنوبِه ورأى في نفسِه أنه قد هلكَ قال سترتُها عليكَ في الدنيا وأنا أغفِرُها لك اليومَ»[صحيح البخاري (2441)، ومسلم (2768)].
فيعطى كتاب حسناته وأما الكافر والمنافق ﴿وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[هود: 18].
فالستر في الآخرة هو عدم فضح الإنسان مع التجاوز عنه ومغفرة ذنوبه وسيئاته، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسترنا وإياكم بستره، وأن يعاملنا بعفوه، فإن الجزاء من جنس العمل وهذا مما دل عليه العظيم، وأفاده أن الإنسان يجازي من جنس عمله، فإذا ستر الناس ستره الله وإذا أحسن إليهم أحسن الله إليه اللهم اجعلنا من أهل الستر والإحسان وتجاوز عنا الخطأ والغفلة والنسيان وأعنا على ذكرك وشكرك في البكور والأصال، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.