الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فقد نقل الإمام النووي ـ رحمه الله ـ باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة:
عن أَبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافى إلاَّ المُجَاهِرِينَ، وَإنّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ باللَّيلِ عَمَلاً، ثُمَّ يُصْبحُ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيهِ، فَيقُولُ: يَا فُلانُ، عَمِلت البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصبحُ يَكْشِفُ ستْرَ اللهِ عَنْه» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. البخاري (6069)، ومسلم (2990)
عظم جرم المجاهرة بالمعصية:
هذا الحديث الشريف فيه بيان عظيم هذه الموبقة وهذه السيئة والمعصية وهي المجاهرة بمخالفة أمر الله ورسوله.
كل الأمة يرجى لها العفو عن الذنوب والمغفرة:
فالنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: «كل أمتي» أي: كل المسلمين كل من آمن به –صلى الله عليه وسلم- وأقر له بالرسالة معافى أي: يرجى له العفو والمغفرة والصفح والتجاوز، وكذلك يرجى له أن ينزع عن الذنب ويعود عن الإثم بالتوبة والرجوع إلى الاستقامة فمعافى يشمل هذين المعنيين؛ التوبة من الذنب والخطيئة، والثاني العفو والتجاوز حتى ولو لم يتب من الذنب والخطيئة في تركها، إنما يرجى له أن يعفو الله تعالى عنه.
وهذا فيما يتعلق بالذنوب التي بين العبد وربه، التي هي من حقوق الله –عز وجل- كل أمتي معافى أن يرجى له التوبة وأن يتجاوز الله تعالى عنه ويصفح إلا المجاهرين أي إلا الذين جاهروا بالمعصية والمجاهرة بالمعصية هو إظهارها وإبدائها وكشفها وعدم سترها والمجاهرة بالمعصية لها صور عديدة ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- صورة من أقبح صورها.
المجاهر فاقد للعفو:
فقال: وإن من المجاهرة أي: من صور المجاهرة التي لا يعفى عن أصحابها، فلا ييسر لهم التوبة ولا يتجاوز الله تعالى عن سيئاتهم في الآخرة أن يعمل الرجل عملًا يعني معصية من المعاصي والذنوب والخطايا بالليل وهو موضع العصيان غالبًا لأنه موضع الستر والخفي وعدم الظهور، لكن هذا التقييد أغلبي يعني مثله لو عمل ما عملًا بمعصية في النهار، لكن بالليل لوضوح الستر وعدم الظهور ثم يصبح وقد ستره الله عليه أي: مضت المعصية وانتهت وانقضت دون أن يعلم بها أحد، ودون أن تنكشف، ودون أن تظهر فيقول: يا فلان يعني ولو أخبر واحدًا لا يلزم في المجاهرة أن تكون إخبار عام، بل لو قال لفلان من الناس واحد منهم.
يا فلان عملت البارحة كذا وكذا من معصية الله –عز وجل- يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "وقد بات يستره الله" أي: يخفي خطيئته ويستر ذنبه ولا يفضحه بين الناس قد بات يستره الله وقابل هذه النعمة العظيمة التي هي نعمة ستر الله عليه ويصبح يكشف ستر الله عنه بالإخبار بما وقع منه، هذه صورة من صور المجاهرة وهي من الصور القبيحة التي يتبين بها أمور، يتبين بها ضعف إيمان العبد واستخفافه بالمعصية وعدم قدره لله –عز وجل- ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
يظهر بها أيضًا أنه لا يراعي أهل الإيمان، فهو يظهر العصيان ويبديه لهم وهذا يؤثر على المؤمنين إذ يرون معصية الله –عز وجل- وفيه أيضًا الدعوة والتسهيل لمن من لم يقع بالمعصية أن يقع بها وأن يتأسى بها فيها، فإنه إذا أظهر الإنسان المعصية خف قدرها في نفوس الناس، وتجرأ من كان يمتنع منها أي أن يقدم عليها؛ لأنه يرى من يفعلها ولم يصبه شيء ولم ينزل به عقوبة، فكان هذا مدعاة إلى إظهارها وإبدائها ولهذا كان إثم إشاعة الفاحشة عظيمًا كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾[النور: 19] وعدهم الله بالعذاب المؤلم في الدنيا والآخرة، عقوبة مؤجلة ومعجلة وذلك لعظيم ما يترتب على الإشاعة والإظهار من تجرأ الخلق على معصية الله –عز وجل- ومثله أيضًا قوله –صلى الله عليه وسلم-: «مَن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سيِّئةً، كان عليه وِزرُها، ووِزرُ مَن عَمِلَ بها مِن بَعدِه»[صحيح مسلم (1017)].
المجاهرة أشد من المعصية:
ولهذا المجاهرة بالعصيان أمر عظيم هو أعظم من المعصية نفسها قد تكون المعصية من الصغائر فيخبر بها فتكون كبيرة لأنه جاهر بها، فالمجاهرة أمرها خطير ووزرها عظيم، والمجاهرة التي ذكرها النبي –صلى الله عليه وسلم- هي صورة من صور المجاهرة، لكن أيضًا هناك صور لم يذكرها –صلى الله عليه وسلم- وهي مندرجة في الوعيد وهو فيما إذا أظهر فعل المعصية بين الناس بأن يظهر الزنا، بأن يظهر السرقة، أو الجناية على الأموال أو الجناية على الأعراض هذا كله من إظهار المعصية.
فكونه يباشر المعصية أمام الناس هذه مجاهرة، ومن المجاهرة ما يفعله بعض الناس من توثيق معصيتهم بالتصوير سواء التصوير المرئي أو التصوير الثابت، فتجده يحتفظ بها ويريها أصحابه هذا أعظم من الإخبار لأن الإغراء بالسيئة والإخبار بها مرئيًا أعظم من الإخبار بها سمعيًا ومقالًا، فلذلك ينبغي للمؤمن أن يعظم قدر الله في قلبه، فإنه من استتر بالمعصية أوشك أن يتوب الله عليه وأن يتجاوز عنه، بخلاف الذي يظهرها.
ولهذا سئل ابن عمر عن النجوى كما في الصحيحين النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول في النجوى فأجاب أن الله تعالى يوم القيامة يدني عبده المؤمن فيضع عليه كنفه وستره فيقول: ألم تفعل كذا وكذا ثم يعدد الله تعالى على عبده المؤمن ما كان من مخالفاته، فيقول: بلى يا رب حتى إذا ظن أنه مؤاخذ بذلك وأنه قد هلك يقول الله تعالى له: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اغفرها لك اليوم.
ينبغي للعبد أن يستر نفسه:
فستر الله على العبد في الدنيا يقرب منه أن يكون عفوه –جل وعلا- عن العبد في الآخرة، فلذلك ينبغي للإنسان أن يستتر ومن ستر مسلمًا ستره الله فكيف إذا كان ذلك فيما يتعلق بنفسه، فإن ستره على نفسه أعظم خيرًا وأوجب من ستره على غيره.
لقد سترك الله لو سترت نفسك وجاء النبي –صلى الله عليه وسلم- جيء إليه بالأسلمي الذي أقر بالزنا فقال: من أقترف من هذه القاذورات شيء فليستتر بستر الله أي: لا يخبر بالمعصية ولا يكون الخبر بالمعصية إلا عند ترجح المصلحة، ومن ذلك من صور المجاهرة أن يقبل الإنسان بما لا فائدة فيه مما وقع في زمنه سفه وزمن غفلته فلا يخبر بذلك.
متى يجوز الإخبار عن المعصية؟
إلا إذا كان ثمة مصلحة تقيد بها هذا الإخبار بالقدر الذي يتحقق به المصلحة، يعني كأن يستفتي مثلا أو يستجير من يخرجه من ورطة في معصية من المعاصي كيف يتوب منها كيف يخرج منها؟ مثل الذي قتل مائة نفس وجاء إلى العالم فقال: قتلت تسعا وتسعين نفسًا ثم قتل المائة ثم جاء إلى العالم فأخبره فوجهه إلى ما يخرج به من دائرة هذه الدماء التي أحاطت به.
أسال الله أن يحفظنا وإياكم بحفظه، وأن يقينا شر السوء ظاهرًا وباطنًا، وأن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة، وأن يعاملنا بعفوه وأن يستر ما كان من سيء عملنا وأن يوفقنا إلى التوبة منه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.