الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد..
نقل الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة:
عن أَبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: أُتِيَ النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ برجل قَدْ شَرِبَ خَمْراً، قَالَ: «اضْربُوهُ» قَالَ أَبُو هريرة: فَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ، والضَّارِبُ بِنَعْلِهِ، وَالضَّارِبُ بِثَوبِهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ بَعضُ القَومِ: أخْزَاكَ الله، قَالَ: «لا تَقُولُوا هكَذا، لاَ تُعِينُوا عَلَيهِ الشَّيْطَانَ» البخاري (6777).
هكذا في رواية الإمام البخاري وفي رواية أبي داود للحديث قال –صلى الله عليه وسلم-: «لا تكونوا عون الشيطان عليه ولكن قولوا اللهم اغفر له اللهم ارحمه».سنن أبي داود (4478)
عقوبة شارب الخمر:
هذا الحديث الشريف فيه بيان عقوبة شارب الخمر، وذلك أن هذا الرجل أتي به ولم يعين الرجل من باب الستر عليه، فإنه من ستر مسلمًا ستره الله ولو سمي لتناقل الناس اسمه إلى يومنا هذا، لكن لم يسميه الراوي سترًا عليه ـ رضي الله تعالى ـ عن الجميع.
فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «اضربوه».
أتي برجل شرب الخمر والخمر هي المسكر الذي يغطي العقل، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اضربوه» أي الذي يستحقه من العقوبة على شرب الخمر وعقوبة شرب الخمر اختلف العلماء فيها هل هي حد أم هي عقوبة تعذيرية؟
وجمهور العلماء على أنها حد يضرب فيه ثمانين جلدة، وقال بعضهم بل هو تعذير يبدأ من الأربعين إلى ما يراه الإمام.
وعلى كل حال وقع ما أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- من ضربه ولكنه كان ضربًا على هذا النحو، فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فالمقصود التعنيف والتأديب والزجر وبيان ما جاء به من جرم، فلما انصرف وانتهى ما كان من أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- قال رجل: أخزاك الله دعا عليه بالخزي والخزي هو الذل والهوان والصغار وهي عقوبة نفاها الله ـ تعالى ـ عن النبي وعن أهل الإيمان يوم القيامة ﴿يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾[التحريم: 8].
الخزي فيه الفضيحة:
وخزي الآخرة أعظم ففيه الفضيحة، وفيه الذل وفيه الصغار والهوان، فلما دعا عليه بالصغار والهوان والفضيحة بعدما جرى من عقوبته، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا تقولوا هكذا" يعني لا تقولوا على هذا النحو من القول سواء الدعاء بالخزي أو الدعاء بالشر على وجه العموم من اللعن والسب وما أشبه ذلك والتسريب لا تقولوا هكذا هذا نهي عن قول السوء وقبيح الكلام من الدعاء وغيره في حق من أقيم عليه العقوبة التي يستحقها بسبب ما اقترف من إثم أو ذنب.
التبكيت والسب للعاصي إعانة للشيطان:
لا تقولوا هكذا ثم علل النبي –صلى الله عليه وسلم- هذا النهي قال: «لا تعينوا عليه الشيطان» أي: لا تكونوا عونًا عليه مع الشيطان، فإن الشيطان إنما يسعى إلى إيقاع الإنسان في الخزي والشر والسوء، فإذا دعي عليه بذلك كان هذا تحقيقًا لرغبة الشيطان وسعيه في أن يكون الإنسان على هذا النحو من السوء والشر.
ومن هذا يستفاد إقامة الحد على من شرب الخمر، وأنه لا يتعين فيه الجلد بالسوط بل بكل ما يحصل به الضرب والإهانة على العقوبة، وأن ذلك على وجه التأديب له وليس المقصود به الأذى له، ولذلك جمع النبي –صلى الله عليه وسلم- بين العقوبة وبين الرحمة، فلما قال هذا الرجل هذه المقالة نهاه عن ذلك وفيه النهي عن الدعاء على من أقيم عليه الحد، وهذا محل اتفاق بين أهل العلم، فإنه لا يدعى على من أقيم عليه الحد لأنه قد طهر بالحد فإن الحدود تطهير، فإذا دعا عليه كان اعتداء عليه، ولا يسرب عليه أيضًا بقول سيء أو بتعييب بذنب، فإن ذلك كله مما يدخل في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: "لا تقولوا هكذا" مما فيه من أعانة الشيطان على الإنسان.
وفيه: أن من أتى سوءًا أو شرًا يتسلط عليه الشيطان ليزيده من السوء والشر، فينبغي أن نكون عونًا له على الخير وصدًا للشيطان عن أن يصل إلى ما يريد من الإيقاع بالمسلم بزيادة الشر والفساد.
وفيه أيضًا: الدعاء له بخير، فإنه قد جاء في رواية أبي داود قال: "ولكن قولوا اللهم اغفر له اللهم ارحمه" والدعاء بالمغفرة والرحمة لا يتنافى مع العقوبة وهل هذا النهي عن الدعاء عليه بعد إقامة الحد؟
هكذا قال جماعة من أهل العلم فقالوا: يجوز الدعاء عليه قبل إقامة الحد، والذي يظهر أنه لا يدعى عليه لا قبل إقامة الحد ولا بعده باللعن ونحوه، وذلك أنه نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن اللعن عن وجه الإجمال، وما جاء من لعنه شارب الخمر وأصحاب الكبائر والذنوب إنما هو على وجه العموم لا على وجه التعيين ففرق بين اللعن العام وبين اللعن المعين.
اللعن المعين هو أن توجهه لشخص معين، وأما اللعن العام فهذا يصدق على كل من أتى بهذا الوصف دون تعيين فقد يوجد مانع وقد يفوت شرط عن تنزيل هذا اللعن عن المعين، وبالتالي لا يلعن المعين وإنما يسرب عليه بما هو دون اللعن قبل العقوبة بما يردعه ويزجره.
لا يساء إلى أحد بعد العقوبة:
أما بعد العقوبة فإنه لا يلعن ولا يسرب عليه بقول، بل يدعى له ويقال فيه ما يكون عونًا على التوبة له منه ومن غيره وفي هذا الحديث بيان لطف النبي –صلى الله عليه وسلم- ورحمته، وأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمؤمنين رءوف رحيم، ولو كانوا على هذا النحو من التقصير والخطأ، فوقوع الإنسان في الخطأ لا يستبيح عرضه، بل يكون معالجة الخطأ بالقدر الذي جاء به الشرع وما زاد فهو اعتداء وظلم «كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ، دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ»[صحيح مسلم (2564)] ولو كان شارب خمر.
ولو كان صاحب إساءة ومعصية، فلا يتجاوز القدر الشرعي المأذون فيه، وبهذا يتبين عظيم ما في هذه الشريعة وما فيها من الجمع بين الرحمة والحزم.
فنسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم البصيرة في الدين، وأن يعيذنا وإياكم من نزغات الشياطين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.