المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحييكم تحية طيبة عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة في هذه الحلقة المتجددة لبرنامج "الدين والحياة"، والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى.
في بداية هذه الحلقة مستمعينا الكرام تقبلوا تحياتي محدثكم وائل حمدان الصبحي، ومن الإخراج ماهر ناضرة، ومن استديو الهواء لؤي حلبي.
مستمعينا الكرام ضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور/ خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ! السلام عليكم، وأهلًا وسهلًا بك معنا في بداية هذه الحلقة.
الشيخ:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبا بك، حياك الله أخي وائل، مرحبا بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
المقدم:- أهلا وسهلًا فضيلة الشيخ مستمعينا الكرام في حلقات برنامج الدين والحياة، نناقش موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، ونسلِّط الضوء عليها أيضًا من خلال ما جاء من كتاب الله –عز وجل-، ومن سنة المصطفي عليه أفضلُ الصلاة وأتمُّ التسليم.
فضيلة الشيخ سنتحدث في هذه الحلقة حول موضوع حق المسلم على المسلم.
ابتداء فضيلة الشيخ من المعلوم أن الشريعة الإسلامية السمحاء نزلت من عند الحق –جل وعلا- بالحق واعتنت اعتناء كبيرًا بالغًا بإحقاق الحقوق لأصحابها، وأعطت كلَّ ذي حقٍّ حقه، وبيَّنت وفصَّلت في حقوق الخلق تجاه الله –تبارك وتعالى-، وتجاه بعضهم البعض وتعاملهم مع بعضهم البعض نريد أن نبين ابتداء كمدخل لهذه الحلقة اعتناءَ الشريعة الإسلامية بالحقوق.
الشيخ:- الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة لك أخي وائل وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسال الله أن يجعله لقاءًا نافعًا مباركًا.
الحق الذي جاءت به الشريعة هو كل ما جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم- من الأخبار ومن الأحكام، الشريعة التي جاء بها النبي –صلى الله عليه وسلم- القرآن الكريم وبيان سيد المرسلين -صلوات الله وسلامه عليه- كله حقٌّ في أخباره وفي أحكامه، والله تعالى يقول لرسوله: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ الإسراء: 105 .
فهذا القرآن وبيانه -سنة خير الأنام صلوات الله وسلامه عليه- جاء بالحق متلبسًا به متضمنًا له، فكل ما فيه حق؛ من أحكامه، وأخباره، وقصصه، وسائر ما فيه، كله حق كما قال الله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ الأنعام: 115 صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام، ولذلك كان هذا الكتاب حقًّا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد جاءت الشريعة بتأكيد إعطاء الحقوق إلى أهلها دون تقصير في ذلك، بل أمرت بإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ونهت عن بخسِ الحقوق وظلمها، قال الله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ المطففين: 1- 3 ، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾ النساء: 58 ، الأمر بإعطاء الحقوق وبذلها لأهلها من كل من يتعامل مع الإنسان على اختلاف ما يحيط بالإنسان ممن يتعامل به من بني آدم، ومن الحيوان، ومن البيئة بكل مكوِّناتها.
الشريعة جاءت بالعدل وبالحق الذي يحفظ للإنسان كلَّ ما يكون من أسباب السعادة، ويجنِّبه كلَّ ما يكون من أسباب الشقاء والرداء.
النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لما بُعث كان -صلوات الله وسلامه عليه- في مَسْلَكه وخلقه قد امتثل الحقَّ حتى شُهد له بذلك، فكان -صلوات الله وسلامه عليه- في كمال الأخلاق وطيب الخصال في الذروة من بني قومه قبل أن يوحى إليه، قالت خديجة –رضي الله تعالى عنها- في وصف النبي –صلى الله عليه وسلم- لما جاء إليها فَزِعا مما رآه في الغار قالت: "كلا، أبشر؛ فوالله لا يخزيك الله أبدًا".
بشَّرَته وطمأنَته أنه لا يمكن أن يُخزيَه الله بأن يخذله أو أن يجعله محلَّ فضيحة أو شماتة من الخَلق، ثم عدَّدَت الخصال التي أوجبت هذه الشهادة، قالت: "إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتُقري الضيف -أي تعطيه قراه وحقَّه-، وتعين على نوائب الدهر" أخرجه البخاري في صحيحه:ح3 فكان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مما حباه الله تعالى به ويسَّره له من الخصال الكمال في معاملة الخلق القريب والبعيد، الدائم والطارق.
" إنك تصل الرحم"، فهذا في حق الأقارب، وفي حق الطارئين: "تحمل الكلَّ، وتقري الضيف"، فهؤلاء قد يكونون ممن لا يعرفهم الإنسان، ولا صلة لهم بوجه من الوجوه إلا أنهم ضافوه، نزلوا عليه ضيوفًا، أو أنه وجدهم يحتاجون إلى إعانته فأعانهم.
ومما يؤكد هذا المعنى أن الشريعة جاءت بإعطاء الحقوق من أوائل بعثة سيد المرسلين -صلوات الله وسلامه عليه-، من أوائل ما دعا إليه –صلى الله عليه وسلم- دعا إلى الخصال الجميلة الكريمة التي تدعو إلى الرفق والإحسان بالخَلق وإعطاء كل ذي حق حقه.
أبو سفيان لما دعاه هرقل يسأله عن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فكان من سؤاله له، ومن أوائل ما سأله عن: إلى ماذا يدعوكم؟ يعني إلى أي شيء يدعوكم؟ فقال في ذلك الوقت: أنه أمرهم بأن يعبدوا الله تعالى وحده لا شريك له، قال يقول: اعبدوا الله لا شريك له، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول به آباؤكم، ويأمرنا ثم انظر -هذا فيه حق التوحيد الذي هو أصل الرسالة-، ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصدق والعفاف والصلة صحيح البخاري:ح7 ، كانت هذه الأمور وهي ما يضمن صلاح هذا الإنسان مع غيره.
من أوائل ما جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم- قبل هجرته –صلى الله عليه وسلم- كان يأمر بها من يدعوهم إلى الإسلام يأمرهم بالصدق، يأمرهم بالعفاف وهو صدق النفس عن كل مرذول من الأخلاق والأقوال والأعمال، والصلة وهي بذل الإحسان والصلة الكريمة إلى كل ذي حق من رحم ومن جار ومن غيرهم ممن لهم حقُّ الصلة.
المقصود أن هذه الشريعة جاءت واعتنت بالحقوق من أول بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا يؤكد النبي –صلى الله عليه وسلم- هذا المعنى فيقول: «إنما بُعِثتُ لأتمِّمَ صالح الأخلاقِ» أخرجه أحمد في مسنده:ح8952، والحاكم في المستدرك:ح4221، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ووافقه الذهبي ، فيبين النبي –صلى الله عليه وسلم- لأصحابه أنه إنما بعثه الله –عز وجل- ليتمِّم على وجه من التدريج والتتابع صالحَ الأخلاق، «لأُتَمِّم» فالتتميم لا يأتي جميعًا في مرحلة واحدة بل يأتي تباعًا، وقد كان –صلى الله عليه وسلم- على هذا النحو من تربيته لأصحابه ودعوتهم إلى الهدى، وحثِّهم على الفضائل منذ أن بعثه الله تعالى إلى آخر رَمَق كان –صلى الله عليه وسلم- يقول: «الصَّلاةَ وما ملكت أيمانُكم، الصَّلاةَ وما مَلَكت أيمانُكم» سنن ابن ماجه:ح1625، وصححه الألباني في صحيح الجامع:ح2286 ، فيأمرهم بحق الله وهي الصلاة، ويأمرهم بالرفق بالخلق فيقول:« وما ملكت أيمانكم»، وهم الرقيق المملوكون.
المقصود أن هذه الشريعة جاءت في إثبات الحقوق، ولم تقتصر في الحق على فئة من الفئات، بل أثبتت الحقوق لكل أحد حتى ما يكون من الحيوان، أثبتت الشريعة له حقًّا، أمرت بحفظه وحذَّرت من بخسه، بل إن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ذكر جملة من الأحكام المتعلِّقة بالحيوان تؤكد هذا المعنى، فرأى النبي –صلى الله عليه وسلم- مرة حمارًا قد وسِم في وجهه، أي أنه وضِع الكيّ الذي يميِّز المِلك في وجهه، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لعن الله من وَسَمَه». أخرجه مسلم في صحيحه:ح2117/107
وهذا يبين أن هذه الشريعة جاءت بالإحسان إلى كل أحد حتى الحيوان، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- «إنَّ اللهَ كَتَبَ الإحسانَ على كُلِّ شَيءٍ، فإذا قتَلْتُم فأحسِنُوا القِتْلةَ، وإذا ذبَحْتُم فأحسِنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، ولْيُرح ذبيحتَه». أخرجه مسلم في صحيحه:ح1955/57
بل حتى سائر الخلق أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- بالإحسان إليهم، فنهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن إفساد العظم للاستنجاء به والروث وأخبر أنه طعام إخواننا من الجن ودوابهم صحيح مسلم:ح450/150 وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم عن العظم والروث: «فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ»، كل هذه المعاني تدل على سعة هذه الشريعة وعلى عظمتها في إيفاء الحقوق، ويتأكد هذا في بني الإنسان فإنهم الموافقون في الجنس، وهم أعظم حرمة، وحقهم أوكد على بني جنسهم؛ لأنهم موافقون في الجنس وإن كان الواجب إعطاء كل ذي حق حقَّه، لكن الإنسان له على أخيه من الحقوق ما ينبغي أن يراعيه، وهذا يشمل حق المسلم على المسلم، ويشمل حق غير المسلم على المسلم من المعاهد والذِّمِّي والمستأمن، وقد أكدت الشريعة هذه المعاني بنصوص وفيرة وكثيرة تؤكد أن هذه الشريعة جاءت بالعدل في كل شؤونها، فلا بخس ولا ظلم ولا اعتداء ولا نقص في حقوق الخلق من الموافق في الدين ومن غير الموافق في الدين، فليست الحقوق حكرًا على من يوافقك في دينك أو من يكون موافقًا لك فيما أنت عليه من اعتقاد أو دين.
قال الله تعالى: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ المائدة: 8 ، فأمر الله المؤمنين بالعدل على كل أحد من الناس ولا فرق في ذلك بين الموافق والمخالف، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما جاء في سنن أبي داود عن صفوان بن سُليم، عن عدة من أبناء أصحاب النبي عن آبائهم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «ألَا مَن ظلَم مُعاهَدًا أو انتقَصه أو كلَّفه فوق طاقتِهِ أو أخَذ منه شيئًا بغَيرِ طِيبِ نَفْسٍ، فأنا حَجيجُهُ يومَ القِيامةِ» سنن أبي داود:ح3052، أنا خصمه فجعل النبي –صلى الله عليه وسلم- الخصومة قائمة بينه وبين من نقص المعاهدين حقَّهم، فدل ذلك على أن هذه الشريعة راعت حقوق جميع الخلق حتى المؤذي منهم أمر الله –عز وجل- بحفظ حقه مع وجود آذاه، فقال فيما يتعلق بالوالدين، قال في الوالد الذي يسعى إلى إزالة الابن أو البنت عن دينه قال: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا﴾ لقمان: 15 ، لكن ماذا يكون في شأن عقوقهم وما يكون من شأن صحبتهم؟ قال: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لقمان: 15 ، حُفظت الحقوق على وجه ينبهر له الإنسان ويعلم أنه شرع محكم، كما قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ هود: 1 .
إذًا الخلاصة أن الشريعة الإسلامية الدين الذي جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم- في القرآن العظيم وفي السنة النبوية جاء بحفظ الحقوق وإقامتها على وجه الكمال وإعطاء كل ذي حق حقه دون وكس ولا شطط، دون غلوٍّ ولا جفاء، بل بكمال العدل والإنصاف التي تطيب به الحياة وتستقيم، أما المسلم على المسلم فحقه أعظم.
إذًا مراتب الحقوق تختلف باختلاف قرب الإنسان، ولهذا حق المسلم على المسلم هو من الحقوق التي تعم جميعَ من آمن بالله ورسوله محمدٍ –صلى الله عليه وسلم- وأقرَّ له بما جاء به –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهذه أوسع دائرة فيما يتعلق بحقوق أهل الإيمان، ثم تزيد الحقوق على حسب قرب الإنسان، فمن له صلة رحم ليس كمن غيره، من له جِيرة ليس كمن هو غيره والله تعالى قال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ النساء: 36 ، وهذا من أوسع ما ذكر فيه الحقوق على تنوعها، فينبغي أن يُعلم أن حق المسلم على المسلم هو من أوسع الحقوق التي تكون بين أهل الإسلام؛ لأنها ثابتة لكل من كان موصوفًا بالإسلام.
وقد أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- بحق المسلم على المسلم في أحاديث عديدة، لكن نحتاج إلى أن نقف بين يدي الحديث عن الحقوق مع قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «حَقُّ المُسلِمِ على المُسلِمِ خَمسٌ» صحيح البخاري:ح1240 وفي رواية «حَقُّ المُسلمِ على المُسلمِ سِتُّ». صحيح مسلم:ح2162/5
المقدم:- لكن فضيلة الشيخ قبل أن نبدأ حديثنا في هذا ما معنى هذه العبارة تحديدًا؟ حتى ندلف إلى هذه الحقوق التي أوصى بها النبي -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- في تعامل المسلم مع المسلم، ما معنى حق المسلم على المسلم؟ هذه الكلمة التي جاءت في روايات عدة من أحاديث المصطفي عليه الصلاة والسلام.
الشيخ:- هو أخي الكريم الحق في الأصل يستفاد معناه من اللغة، فالحق في اللغة يطلق على الشيء الثابت المستقر، فتقول: حُقَّ كذا أي: ثبت واستقر، فالحق هو ما ثبت للمسلم على المسلم.
قوله –صلى الله عليه وسلم-: «حق المسلم على المسلم» أي ما يثبت للمسلم على أخيه المسلم بمقتضى الإسلام، يعني ما يوجبه الإسلام من الخصال القولية والعملية لمن كان من أهل الإسلام، ما يوجبه الإسلام من الخصال والصفات القولية والعملية للمسلم، فهي من الأمور التي تثبت لكل مسلم على كل مسلم، لكن ثبوتها يختلف باختلاف الحقوق، فمنها ما هو واجب عينيٌّ، ومنها ما هو واجب على كل أحد، ومنها ما فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ومنها ما هو من الخصال المندوبة والمسنونة والمستحبة غير الواجبة، وبالتالي الحق يشمل كل ما ثبت للمسلم على المسلم في قول أو عمل.
أما مرتبة هذا الحق أي من حيث لزومه ووجوبه فهو على ثلاث مراتب:
- ما هو واجب عَينيٌّ على كل مسلم.
- ما هو واجب كِفائيٌّ، وهو ما يجب على عدد وفئة من أهل الإسلام، تقوم بهم الكفاية.
- المندوب إليه والمستحب والمرغب فيه من الخصال.
وهذا يشمل كل ما جاء الخبر عن النبي –صلى الله عليه وسلم- بأنه من حق المسلم على المسلم.
إذًا الخلاصة: أن حق المسلم على المسلم هو شامل لكل ما كان من الحقوق القولية والعملية التي أثبتها النبي –صلى الله عليه وسلم-، وبنظرة إلى هذه الحقوق على تنوع النصوص الواردة فيها توقن أن جميعها يصبُّ في غرض وكلها يهدف إلى غرض ومقصد وهو تحقيق الأُلفة بين أهل الإيمان، تحقيق اجتماع الكلمة بين أهل الإسلام، نبذ الفرقة والاختلاف بين المسلمين.
هذه الخصال وهذه الحقوق كلها تؤكد هذا الأمر وتثبته، وتقرره بوسائل وطرق مختلفة، وقد أمر الله تعالى أهل الإسلام بالاجتماع ونهاهم عن الاختلاف والافتراق، وقد قال الله –جل وعلا- في محكم كتابه ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ آل عمران: 103 ، فأنقذنا الله تعالى بحفظه ومَنِّه من التردِّي فيما يوجب الهلاك من الفرقة والخلاف المُفضِي إلى تنافر القلوب واختلاف الكلمة وفساد الأمر وشتات الحال، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وقد قال الله تعالى في بيان الوحدة العامة التي تشمل هذه الأمة وسائر أمم الأنبياء من قبل، قال: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ الأنبياء: 92 فالمشار إليه في قوله: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الأنبياء: 92 هم المرسلون وأممهم صلوات الله وسلامه عليهم.
فعلى اختلاف شرائعهم، وعلى اختلاف زمانهم، وعلى اختلاف أماكنهم إلا أنه يجمعهم جمع واحد ويربطهم رابط واحد وهو إيمانهم بالله –عز وجل-، فهذه الحقوق وهذه الخصال التي جاءت في الكتاب والسنة غرضها وغايتها تحقيق الأخوة بين المؤمنين، تحقيق قول الله –عز وجل-: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ الحجرات: 10 ، وبه يتحقق ما أمر به النبي –صلى الله عليه وسلم- في قوله: «وكونوا عبادَ الله إخوانًا» صحيح البخاري:ح6064 كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وبه يتحقق ما مثله النبي –صلى الله عليه وسلم- في صفة أهل الإيمان كما في الحديث في الصحيح قال –صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مَثَلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تَدَاعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى». صحيح البخاري:ح6011
وهو أيضًا يمثل البنيان ويربط أواصر أهل الإيمان على نحو يتقوى به المجتمع المؤمن، يتقوى به المسلمون حيث قال النبي –صلى الله عليه وسلم- «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضًا» صحيح البخاري:ح841 ، فشرع الله تعالى لنا من الدين من هذه الحقوق ما تجتمع به القلوب، ما يلتئم به الشأن، ما تلتقي به الأفئدة، ما تطيب به المعاشرة، ما يصلح به الحال، ما يتحقق به التراؤف والتراحم والتعاقل والتوادُّ بين أهل الإسلام.
وأضرب لذلك مثلا، النبي –صلى الله عليه وسلم- ذكر في حق المسلم على المسلم السلامَ وردَّه، كما سيأتي بعد قليل لكن اللفتة التي أريد أن أنبه إليها هي أن النبي –صلى الله عليه وسلم- إنما أمر بذلك لتحقيق الود والحب بين أهل الإسلام وهكذا سائر الحقوق فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- «لا تَدخُلوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنوا حتَّى تَحابُّوا، أفلا أدُلُّكم على أمْرٍ إذا فعَلْتُموه تحابَبْتُم؛ أفشُوا السَّلامَ بينكم». صحيح مسلم:ح54/93
هذه الخصلة اليسيرة التي يزهد فيها كثير من الناس هي من أسباب انتشار المحبة والود بين أفراد المجتمع بين أفراد أهل الإسلام على نحو يتحقق لهم به طيب المعاش وطيب المآل والمعاد لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تَدخُلوا الجَنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا، ولا تُؤمِنوا حتَّى تَحابُّوا، أفلا أدُلُّكم على أمْرٍ إذا فعَلْتُموه تحابَبْتُم؛ أفشُوا السَّلامَ بينكم».
إذًا من المهم أيها الإخوة والأخوات أن ندرك أن جميع ما جاء به الخبر عن الله وعن رسوله -صلوات الله وسلامه عليه- مما يتعلق بحق المسلم على المسلم غرضه وغايته تحقيق الودِّ، تحقيق المحبة، تحقيق التعاطف والتراحم، إصلاح ما بيننا وإصلاح معاشنا وتستقيم به أمورنا.
وأنت ستلاحظ أنه بقدر ما نحقق من هذه الخصال سندرك من أسباب السعادة للمجتمع وأسباب السعادة في صلتنا مع الناس ما يجعلنا في هناء وطمأنينة وسكن، وبقدر الإخلال بهذه الحقوق والمجافاة لها يقع ما يكون من سوء الحال وفساد ما بين الناس بإخلالهم بما أمر الله تعالى به من أداء الحقوق.
المقدم:- فضيلة الشيخ -بمشيئة الله تعالى- سنتحدث في الجزء القادم من هذه الحلقة عن أبرز الحقوق التي أوصى النبي -عليه الصلاة والسلام- بها في هذا الحديث.
أيضًا سنتعرف هل هي محدودة أم لا؟ بعد حديثنا عن هذا المعنى الذي جاءت به الشريعة وأمرت به، وأيضًا جاءت الأحاديث عن النبي -عليه الصلاة وأتم التسليم- جاءت الأحاديث الكثيرة التي تبين هذه الحقوق، حتى فيما ذكرت فضيلة الشيخ قبل قليل عن الحقوق التي من المفترض أن تُعطى لغير الإنسان، التي تعطى للحيوان، وهذا من اعتناء الشريعة بإعطاء كل ذي حق حقه؛ فهي شريعة سمحة من عند ربنا الكريم جل في علاه.
فضيلة الشيخ سنتحدث في الجزء الثاني من هذه الحلقة عن أبرز الحقوق التي جاءت الشريعة بذكرها في أحاديث عدة، لكن فضيلة الشيخ هل هي محدودة بهذه الأحاديث وبهذه الروايات أم هي أكثر من ذلك؟
الشيخ:- الحقوق التي تَثبُت للمسلم على المسلم ليست محصورة بعدد، وإنما هي شاملة لكل ما جاء به النص من إثبات حق للمسلم على أخيه المسلم، وقد يقول قائل: النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «حق المسلم على المسلم خمس» سبق تخريجه وفي حديث قال: «حقُّ المسلم على المسلم ست» سبق تخريجه فهل هذا يعني أن الحقوق محصورة في هذه؟
الجواب: لا، ولو كان كذلك لما تفاوت العدد، مرة قال: «خمس»، ومرة قال: «سِتٌّ»، بل ذكرها في هذا الحديث على نحو هذا السياق إنما غايته وغرضه التقريب وبيان الحقوق التي لا يُستغنى عنها في صلة المسلم بأخيه المسلم، وليس ذلك على وجه الحصر، وقد ذهب إلى هذا عامةُ أهل العلم، فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن حقَّ المسلم على المسلم لا ينحصر في خمس ولا في ست، وإنما ذلك على وجه التعليم والتقريب وبيان أبرز ما يكون من الحقوق التي تشيع بين أهل الإسلام، وإلا فالحق -حق المسلم على المسلم- منه ما هو قلبي، ومنه ما هو قولي، ومنه ما هو عملي، يعني لا ينحصر حق المسلم على المسلم في قول ولا في عمل، بل حتى في القلب حق المسلم على المسلم في قلبه، وحق للمسلم على المسلم في لسانه، وللمسلم على المسلم حق في عمله ومعاملته.
ومن العجيب أن هذه الحقوق وهي تنبيه ولفت نظر لعظمة هذه الشريعة ووفائها أن الحق للمسلم لا ينحصر في حياته، بل له الحق حتى بعد موته، له الحق على إخوانه حتى بعد موته، وسيأتي الإشارة إلى ذلك فيما ذكره النبي –صلى الله عليه وسلم- من اتباع الجنائز الشامل للصلاة عليه ودفنه إذا مات.
المقصود أن هذه الشريعة جاءت بإثبات حقوق عظيمة، لكن قبل أن نتحدث عن هذه الحقوق على وجه العدل والذكر والتذكير أحب أن أقف وقفة مختصرة ولفتة وجيزة ما الذي يعيننا على أداء هذه الحقوق؟
الإنسان بطبعه كنود كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ العاديات: 6 ، جُبِل على الشح، ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الحشر: 9 ، والشحُّ هو منع الحقوق، والتهرب من بذلها وأدائها بنفس طيبة.
ما الذي يعين الإنسان على تجاوز هذه الخصال المانعة من أداء الحقوق؟ ما الذي يعينه وينشطه على أن يعطي كل ذي حق حقه؟ الذي ينشطه ويعينه أن يذكر ثواب الله –عز وجل- على ما أمره به من عمل.
وبعبارة أخرى يمكن أن تكون أوضح أن يعامل الله تعالى في الخلق، بمعنى أنه عندما تعطي الحقوق أنت في إعطائك لهذه الحقوق إنما تنظر إلى عطاء الله، إلى رضا الله -جل في علاه- إلى ما عنده –سبحانه وبحمده-، وليس بَذْلُك لهذه الحقوق وإعطاؤك لها أملا في مكافأة أو مجازاة على تلك الحقوق التي بذلتَها، كما قال الله تعالى في وصف الأبرار في محكم التنزيل ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ الإنسان: 9 ، ولهذا يقال في كلمة في غاية النفاسة: السعادة في معاملة الخلق -يعني في معاملة الناس- أن تعامل الله فيهم، يعني من رغب في نيل السعادة في معاملة الناس أن يعامل الله فيهم، بمعنى أنه لا يرجو منهم جزاء ولا شكورًا، إنما يرجو الإثابة على ما يكون من إحسان، على ما يكون من خير وصالح عمل، يرجو إثابة في ذلك من الله جل في علاه، وأما الخلق فإن جاء منهم إحسان فذاك قد يشجع، وإن لم يأت منهم مقابل لا قولي ولا فعلي على ما كان من الحقوق التي بذلتَها لهم فأنت تعامل الله، ولن يضيع شيء عند الله، قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ آل عمران: 195 ، فكل ما تعمله من صالح في حق الخلق جحدوه أو أنكروه أو هضموه أو أعرضوا عنه فإنك فائز منتصر بثواب الله –عز وجل-، وسيجعل الله لك عليهم ظهورًا وتمكينًا من حيث لا تشعر.
وقد جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- قال يا رسول الله: «إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويَقطَعوني، وأُحسِنُ إليهم ويُسيئونَ إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويَجهَلونَ عليَّ».
هذا الرجل شكا إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- ما يجد من فظاظة وسوء معاملة من قرابته حيث كان يعطيهم الحقوق ويبادلهم بالإحسان، لكن لا يجد من ذلك مردودًا ولا يحصل من ذلك مقابلًا، فشكا إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ لي قرابةً أصِلُهم ويَقطَعوني، وأُحسِنُ إليهم ويُسيئونَ إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويَجهَلونَ عليَّ، فقال: لئِنْ كُنتَ كما قُلتَ، فكأنَّما تُسِفُّهمُ المَلَّ» يعني لو كنت كما وصفت فكأنما تسفهم المل يعني إحسانك إليهم هو في الحقيقة إقامة حجة عليهم وكأنما تطعمهم الرماد الحار لإساءتهم وسوء مقابلتهم، ثم قال: «ولا يزالُ معك مِنَ اللهِ ظَهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك». صحيح مسلم:ح2558/22
معك من الله ظهير ينصرك ويؤيدك ويحميك ويوقيك ويرفعك ويحسن لك العاقبة، مادمت على ذلك أي مادمت مستمرًّا في بذل الإحسان، في بذل العطاء المبارك، في الصبر على أذى هؤلاء فإنك ستكون من الفائزين.
خلاصة هذا الأمر أنك إذا أردت الإعانة على بذل حقوق الخلق وأدائها على وجه كامل مطمئن، فاحرص على أن تستحضر ما عند الله، استحضر رضا الله كأنك تطلب الله –عز وجل- بهذه المعاملة، ترجو الله بهذه المعاملة الحسنة بأداء هذه الحقوق، ولا تطلب من أحد مقابلًا، ولا ترجو منه عطاء إنما ترجو من الله تعالى الإحسان والعطاء.
هذا معنى مهم يسهل على الإنسان أن يبادر إلى أداء الحقوق على وجه العموم، وحق المسلم على المسلم على وجه الخصوص.
المقدم:- فضيلة الشيخ اسمح لي أن نذهب إلى فاصل قصير بعده -بمشيئة الله تعالى- سنستكمل جزءنا الأخير في هذه الحلقة، ونذكر مجموعة فيما تبقَّى منها من الحقوق التي يجب على المسلم أن يبذلها تجاه إخوانه المسلمين.
مستمعينا الكرام فاصل قصير بعده -بمشيئة الله تعالى- نكمل حديثنا، ابقوا معنا.
حياكم الله مستمعينا الكرام في هذا الجزء من هذه الحلقة من برنامج "الدين والحياة" عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، ضيفنا الكريم هو فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، أهلا وسهلا فضيلة الشيخ مجددًا، حياك الله.
الشيخ:- أهلا ومرحبا بك، حياكم الله، أهلا.
المقدم:- أهلا وسهلًا فضيلة الشيخ، نتحدث في هذه الحلقة عن حق المسلم على المسلم، وتحدثنا في بداية هذه الحلقة عن اعتناء الشريعة بالحقوق وإعطاء كل ذي حق حقه، وأيضًا تحدثنا عن هذه الحقوق هل هي محدودة بتلك الأحاديث أم لا، نريد أن نتحدث فضيلة الشيخ فيما تبقى من وقت هذه الحلقة عن أبرز الحقوق التي ينبغي أن يراعيها المسلم فيما يتعلق بتعامل المسلمين مع إخوانهم.
الشيخ:- كما تفضلت هذه الحقوق كثيرة ولا نستطيع أن نأتي عليها جميعًا في حلقة واحدة أو في عدد من الحلقات، إنما نشير إلى أبرز ما يكون من الحقوق أولًا كما تقدم قبل قليل الحقوق منها ما هو قلبي، ومنها ما هو قولي، ومنها ما هو عملي.
نبدأ أولا بالقلب؛ لأنه هو الذي إذا صلح صلح القول وصلح العمل، «ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله». صحيح البخاري:ح52
أصل الحقوق التي بين المسلمين مبدؤها سلامة الصدر لإخوانك، ومحبة الخير لهم، هو مفتاح السخاء بحقوق المسلمين عليه، في الصحيحين قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «والذي نفسي بيدِه لا يؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِه». صحيح البخاري:ح13
أي لا يحقِّق الإيمان الواجب حتى يحب لأخيه -يعني المسلم- ما يحب لنفسه، وكل ما أحببته من خير لكن لنفسك أطوع قلبك على أن تحبه لغيرك، وبالتالي أيضًا ما تكرهه لنفسك فإنه ينبغي أن تكرهه في معاملة غيرك، وأن تكرهه لغيرك، ولذلك قال النبي «مَن أحبَّ أن يُزَحْزحَ عنِ النَّارِ ويُدخَلَ الجنَّةَ فلتدرِكْهُ مَنيَّتُهُ وَهوَ يؤمِنُ باللَّهِ واليومِ الآخرِ، ويأتي إلى النَّاسِ ما يحبُّ أن يؤتى إليهِ». صحيح مسلم:ح1844/46
إذًا الحق القلبي هو سلامة الصدر وعمارته بمحبة الخير لإخوانك المسلمين، أما ما يتعلق بالحقوق القولية والعملية فقد جمعها في حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «حق المسلم على المسلم خمس» سبق ، وهذا من أجمع الأحاديث التي ذكرت فيها الحقوق.
ردُّ السلام يعني إذا سلم عليك أخوك فمن حقه عليك أن ترد السلام عليه، وهذا حق واجب على المسلم عليه.
ثانيًا: عيادة المريض وهي زيارته على وجه المؤانسة والتفقد لحاله والتصبير له والمواساة لما نزل به، والمريض هو كل من حبسه المرض عما يتعلق بخروجه ودخوله فيه وهو الذي يزار عادة.
الثالث: اتباع الجنائز، واتباع الجنائز يشمل غُسلَ الميت، وتكفينهن والصلاة عليه، ودفنه وهذه كلها من حقوق المسلم على المسلم، وهي من فروض الكفايات، كعيادة المريض من فروض الكفايات.
قال: «وإجابة الدعوة» أي دعوة العرس، إذا دعاك أخوك لوليمة عرس فإن من حقه عليك أن تجيب دعوته إلا أن يكون هناك ما يمنع من الإجابة.
الخامس من الحقوق التي ذكرها النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في هذا الحديث: تشميت العاطس، هو الدعاء له بالرحمة إذا عطس وحمد الله –عز وجل-، كما جاء ذلك في أحاديث أخرى.
هذه جملة من الحقوق التي ذكرها النبي –صلى الله عليه وسلم-، فمن حق المسلم على المسلم أن يرد عليه السلام، لكن في الحديث الآخر:«حق المسلم على المسلم سِتٌّ» قال –صلى الله عليه وسلم- في حق المسلم على المسلم:«إذا لقيته فسلِّم عليه» صحيح مسلم:ح2162/5 جعل ابتداء السلام من حق المسلم على المسلم وهو سنة في قول عامة أهل العلم المالكية، والشافعية، والحنابلة على أنه سنة. بينما ذهب الأحناف إلى أن إلقاء السلام واجب، وهو رواية عن أحمد أيضا ، وأما الرد فهو واجب.
ثم من حق المسلم على المسلم ردُّ التحية على وجه العموم سواء كانت تحية بالسلام أو بغيره، فإذا قال لك: أهلا، إذا قال لك: تحية من التحايا التي يتحيى بها الناس فإن حقه عليك أن ترد عليه تحيته، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ النساء: 86 .
ومن حق المسلم على المسلم أن يسعى الإنسان له بالنصيحة وهذا لم يذكر في الحديث، ولكنه حق ثابت وهو مما دل عليه قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ، إنَّ الدِّينَ النَّصيحةُ. قالوا : لمَن يا رسولَ اللهِ ؟ قال: للهِ، وكتابِه، ورسولِه، وأئمةِ المؤمنين، وعامَّتِهم، وأئمةِ المسلمينَ وعامَّتِهم». صحيح مسلم:ح55/95 مختصرًا
جعل النبي –صلى الله عليه وسلم- من حق أهل الإسلام على بعضهم النصيحة، وخصَّ أئمة المسلمين بالذكر لعظيم قدرهم ورفيع منزلتهم وخطر مقامهم الذي يوجب أن يبذل لهم النصح بإعانتهم على الخير ودلالاتهم عليه وبيانه لهم بقدر الطاقة والمُكَن، ثم ذكر عامة المسلمين من عموم الحق الذي لهم حق الدلالة على الخير والتحذير من الشر.
وقد قال جرير بن عبد الله -رضي الله تعالى عنه-: "بايعنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة" وهذا من النصيحة لولاة الأمر أن يلتزم لهم المؤمن على السمع والطاعة، ثم قال: "والنصحِ لكل مسلم". صحيح البخاري:ح7204
أي وبذل النصيحة والتوجيه إلى الخير للدلالة على الصلاح لكل مسلم فجعله النبي –صلى الله عليه وسلم من حق المسلم على المسلم، ومن حقوق المسلمين فيما بينهم أن يكون الإنسان في حاجة أخيه معينًا له، ومسددًا له، ومبلغًا له ما يؤمل من جلب خير أو دفع ضر، كما قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ المائدة: 2 ، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «مَن كان في حاجةِ أخيهِ ؛ كان اللهُ في حاجتِهِ» صحيح البخاري:ح2442 كما في الصحيحين من حديث ابن عمر وكان الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه.
ومن حق المسلم على المسلم أيضًا: ستر المعايب، فإن ستر المعايب في عدم الحديث عنه وبعدم كشفها وإذاعتها بعد انقضائها من حق المسلم على المسلم، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» صحيح البخاري:ح2442 ، وفي حديث:« من ستر مسلمًا ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة». صحيح مسلم:ح2699/38
ومن حقوق المسلمين بعضهم على بعض: العناية بالضعفاء، ورحمة الصغار، وإعانة المنقطعين، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- «الساعي على الأرملة»، وهي من فقدت من يعولها من زوج «والمسكين»، وهو من لا يجد كفايته في مأكله أو مشربه أو مسكنه« الساعي على الأرملة والمسكين»، وهم ضعفاء «كالمجاهد في سبيل الله»، أي في الأجر والثواب.
أبو هريرة يقول: "أحسبه" أي أظنه قال –صلى الله عليه وسلم-: "وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر". صحيح البخاري:ح6007
كل هذا يبين جملة من الحقوق التي تكون بين المسلمين.
ومن حق المسلم على المسلم أن يكف عنه أذاه، فإن كفَّ الإنسان أذاه عن إخوانه-إذا لم يبادرهم بإحسان- كان ذلك صدقة منه على نفسه، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي سأله فيه أبو ذر عن أنواع العمل؟ وكان يقول: أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل قال –صلى الله عليه وسلم-:« تكفُّ شرَّك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك». صحيح البخاري:ح2518
ومن حق المسلم على المسلم: حفظه في ماله وفي دمه وفي عرضه، قد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه» صحيح مسلم:ح2564/32 ، وهذا يعني وجوب احترام هذه الأمور ووجوب حفظ حرمتها.
هذه جملة من الحقوق، وكما ذكرت الحقوق لا تنحصر في هذه المذكورات، وعدُّها يطول به المقام إلا أننا ذكرنا جوامع لما يكون من حق المسلم على المسلم.
وينبغي أن يكون الإنسان في معاملته للخلق عمومًا وللمسلم على وجه الخصوص في غاية الإحسان واللطف الذي يتحقق به التواد والتراحم والتعاطف بين أهل الإسلام.
المقدم:- جزاكم الله خيرًا فضيلة الشيخ، شكر الله لك وكتب الله أجرك.
شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، شكرًا جزيلًا على ما أجدت به وأفدت في هذه الحلقة.
الشيخ:- أشكر الله تعالى على ما تيسر، كما أشكر الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله لي ولهم السداد في القول والعمل، والإعانة على بذل الحقوق وأدائها، وأسأل الله تعالى أن يقرَّ أعيننا بسلامة وطننا وبلادنا وحفظه من كل سوء وشر، من كل كائد وماكر، وأن يوفق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى ما يحب ويرضى، وأن يسددهم في الأقوال والأعمال، وأن يكتب ذلك كذلك لسائر ولاة المسلمين، وأن يرفع عنا وعن البشرية البلاء، وأن يعم الخير الأوطان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.