الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين في باب الإصلاح بين الناس:
عن أَبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ» قَالَ: «تَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ» قَالَ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ».صحيح البخاري (2989)، وصحيح مسلم (1009)
شكر النعم:
هذه الجملة التي أخبر بها أبو هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أن كل عظم في الإنسان فإنه يستحق عملًا صالحًا يشكر به الله ـ تعالى ـ عليه.
فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل سلامى"، سلامى هي العظام قيل: إنها صغار عظام الإبل، وقيل: عظام الكتف واليدين والرجلين، وقيل: هي المفاصل، وأقرب ما يقال: إن السلامى المقصود به المفاصل، فقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل»[صحيح مسلم (1007)] فبني خلق الإنسان على هذه المفاصل التي بها حركته وذهابه ومجيئه إذ المفاصل هي ما بين العظام وقد تطلق السلامى على العظام، فيمكن أن يقال قول: "كل سلامى" أي كل عظم ومفصل من الإنسان يستحق عملًا صالحًا يشكر به الله عز وجل.
الصدقة شكر على بعض الإنعام:
فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كل سلامى من الناس عليه صدقة" أي يستحق صدقة، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "عليه" أي أنه في مقابل هذا الإنعام يشكر ـ جل وعلا ـ بالعمل الصالح وعليه هنا تشمل الواجب من العمل الصالح، وتشمل المستحب والمذكور في هذا الحديث هو صنوف من الأعمال الصالحة غير الواجبة في الأصل.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:" كل يوم تطلع فيه الشمس" أي شكر نعم الله ـ عز وجل ـ على الإنسان في بدنه من هذه المفاصل والعظام يتكرر بتكرر الأيام ففي كل يوم تستحق هذه النعم أن يشكر عليها جل وعلا.
وليعلم العبد أنه لا يحيط شكرًا بنعم الله عز وجل:
فإن نعمه ـ جل وعلا ـ تجل عن الحصر إذ يعجز عدها فكيف حصرها قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾[إبراهيم: 34] لا تستطيعون الإحاطة بها فجميع ما في الإنسان من خيرات ومصالح إنما هي فضله ـ جل وعلا ـ ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53]
شكر النعم في كل يوم:
ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شكر هذه النعم في كل يوم، ولذلك يشرع للعبد أن يشكر الله ـ تعالى ـ على نعمه كل يوم وفي كل إنعام ينعم الله ـ تعالى ـ به ويتجدد هذا الإنعام، فإنه يشكر عليه ـ جل في علاه ـ وعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شكر نعم الله ـ عز وجل ـ خمسة أمور وليس هذا على وجه الحصر، إنما ذكر أنواع وأبواب من أبواب الصدقات والأعمال الصالحة التي يشكر بها عز وجل.
العدل صدقة:
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «تَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَينِ صَدَقَةٌ»[صحيح مسلم (1007)].
أي تحكم بالعدل بين اثنين، والحكم إما بفصل الخصومة والنزاع بالقضاء، وإما بالصلح فكلاهما يدخل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "تعدل بين الاثنين صدقة" والمقصود بالاثنين المتخاصمين فالألف واللام هنا للعهد الذهني، وهما ما يحتاجان إلى إصلاح أو إلى فصل خصومة ونزاع بينهما.
وقوله: "تعدل" فسره أهل العلم بالإصلاح ولا يمنع أن يكون المعنى تحقيق العدل بالإصلاح أو بغيره وسواء كان ذلك عن طريق الولاية كأن يكون الإنسان قاضيًا أو حاكمًا أو يشتغل في الإصلاح بين المتنازعين، أو أن ذلك على وجه التبرع والابتداء، فإنه من العمل الصالح الذي يؤجر عليه عند الله ـ عز وجل ـ يبلغ به الإنسان درجة الصائم القائم.
فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "تعدل بين الاثنين صدقة" أي عمل صالح تشكر به هذه النعم.
إعانة المسلم صدقة:
وذكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا: «وَتُعينُ الرَّجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا».
أي تساعده في دابته فتحمله عليها أي ترفعه؛ إذ أنه قد لا يتمكن من الركوب على الدابة إلا بالإعانة، فإذا أعنت الرجل بحمله على الدابة كان ذلك من صالح العمل.
«أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ».
بأن يكون قد استوعل الراحلة فترفع له متاعه، فهذا قال فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "صدقة" أي العمل الصالح.
الأول: من الأعمال التي ذكرها إصلاح بالقول، وقد يكون إصلاح بالعمل بالمال.
والثاني: مما ذكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصدقة بالعمل البدني ونفع الناس بإعانتهم على حوائجهم وقضاء مصالحهم.
الكلمة الطيبة صدقة:
ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقةٌ».
أي الكلمة الطيبة الصالحة عمل صالح يؤجر عليه الإنسان ويشكر به إنعام الرحمن ـ جل في علاه ـ والكلمة الطيبة تشمل كل كلام أمر الله ـ تعالى ـ به ورسوله على وجه الإيجاب أو الاستحباب، فتلاوة القرآن والأذكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كله صدقة، ولهذا في حديث أبي ذر: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة ـ ذكر أبواب العمل الصالح ـ فكل تسبيحه صدقة وكل تحميده صدقة وكل تكبيره صدقة وكل تهليله صدقة وأمر بالمعروف صدقه ونهي عن المنكر صدقة» صحيح مسلم (720)كل هذا من العمل الصالح الذي يدخل في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الكلمة الطيبة صدقة" أي أنها عمل صالح ويستوجب هذا العمل إثابة من الله ـ عز وجل ـ ويجزي به الإنسان نعمة الله ـ تعالى ـ عليه في هذه المفاصل والعظام.
المشي إلى الصلاة صدقة:
وذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا في العمل من الأعمال التي تشكر بها نعم هذه المفاصل،
«وَبِكُلِّ خَطْوَةٍ تَمشِيهَا إِلَى الصَّلاةِ صَدَقَةٌ».
أي كل خطوة صدقة تنال بها أجر من الله ـ عز وجل ـ وسواء كان ذلك المشي إلى الصلاة في المساجد أو الصلاة في المصليات أو الصلاة في البيوت فكل خطوة يخطوها الإنسان إلى الصلاة سواء كان صلاة فرض أو نفل، فإنه يكون بذلك قد اشتغل بعمل صالح يشكر به إنعام الله ـ تعالى ـ به عليه.
إماطة الأذى عن الطريق صدقة:
وآخر ما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الأعمال الصالحة: «وَتُميطُ الأَذى عَنِ الطَّريقِ صَدَقَةٌ».
تزيل الأذى تنحيه عن الطريق والأذى هنا يشمل الأذى الحسي من القذر والحجارة والأشواك وما يؤثر مسير الناس سواء كان الطريق تسير فيه السيارات أو يسير فيه المشاة أو كل طريق يسلكه الناس على أي وجه كان هذا السلوك فلذا إماطة الأذى عنه، وهو كل ما يتأذى الناس بكونه في طريقهم من قذر أو حجر أو غير ذلك فإنه مما يؤجر به عليه الإنسان.
وأيضًا إماطة الأذى المعنوي وذلك بالكلمات التي قد تكتب على جدران أو المناظر التي يتأذى بها الناس معنويًا، فإماطة الأذى عن الطريق بإزالتها عن الطرق ذلك من الصدقات ومثلها أيضًا إزالة المؤذين الذين يقطعون الطرق أو يلقون فيها ما يؤذي الناس، فإن إزالتهم بالتبليغ عنهم وأخذ الخطوات التي ينكف بها الشر عن الناس بإزالتهم هذا مما يدخل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وتميط الأذى عن الطريق صدقة".
عظيم فضل صلاة الضحى:
هذه جملة من الأبواب التي يشكر بها الإنسان إنعام الله عليه في مفاصله وعظامه، وقد جاء في حديث أبي ذر أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» وذكر جملة من الأعمال كل تسبيحه صدقة إلى آخره ثم قال: «وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى» أي هم مقام هذه الأعمال الصالحة في شكر نعم الله ـ تعالى ـ عليك في عظامك ومفاصلك وسلامتها وصحتها وإدراك مصالحك بها أن تركع ركعتين من الضحى.
وهذا فيه بيان عظيم الفضل المرتب على صلاة الضحى، فإنها تكفي عن كل هذا العمل الكثير، وهذا ليس يعني ألا يترك الإنسان هذه الأبواب، وإنما هو بيان أن هذه الأبواب مما يدرك الإنسان به مجموعة والفضل الذي فيها بشكر نعم الله ـ عز وجل ـ عليه هو أن يصلي ركعتين من الضحى وهل لابد أن يأتي بكل هذه الأبواب وهذه الأعمال الصالحة حتى يشكر النعمة؟ الجواب لا إنما يكفي أن يأتي بما يشكر به إنعام الله ـ تعالى عليه ـ والله يعطي على القليل الكثير، فقليل العمل يجزي كثير الإحسان الذي يتفضل به الرحمن على بني الإنسان، فله الحمد أوله وآخره، ولم نبلغ شكره والقيام بحقه وإنما نظهر له ـ جل وعلا ـ صدق رغبتنا في شكره ولن نحيط به جل في علاه ولا بحقه، فحقه أعظم من أن يحيط به العباد.
أسال الله ـ تعالى ـ أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يستعملنا وإياكم فيما يحب ويرضى، وأن يرزقنا شكر نعمه، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.