الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين:
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين في باب الإصلاح بين الناس:
عن أمِّ كُلْثُوم بنت عُقْبَة بن أَبي مُعَيط ـ رضي الله عنها ـ قَالَتْ: سمِعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ: «لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيراً، أَوْ يقُولُ خَيْراً» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . البخاري (2692)، ومسلم(2605)
وقد جاء في رواية مسلم زيادة، أنها قَالَتْ: وَلَمْ أسْمَعْهُ يُرْخِّصُ في شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُهُ النَّاسُ إلاَّ في ثَلاثٍ، تَعْنِي: الحَرْبَ، وَالإِصْلاَحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَحَدِيثَ المَرْأةِ زَوْجَهَا.
فضيلة السعي بالإصلاح بين الناس:
هذا الحديث يدل على فضيلة السعي بالإصلاح بين الناس، فإنه نفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصف الكذاب وهو وصف مذموم في الكتاب والسنة وفيما يعرفه أطياب الناس في أخلاقهم ومعاملتهم فالكذب خصلة مذمومة عند البشر كلهم مسلمهم وكافرهم، وهو ما يعاب به الإنسان برًا كان أو كافرًا، مسلمًا كان أو كافرًا، "فإن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار"صحيح البخاري (6094)، وصحيح مسلم (2607)، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
مواطن مستثناة من تحريم الكذب؟
ولهذا لا خلاف بين العلماء في أن الكذب محرم مذموم، واختلف العلماء هل يستثنى من الكذب شيئٌ أم لا؟
فقال جماعة من أهل العلم يستثنى من الكذب ما جاء به النص من أنه قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لا بأس بالكذب في ثلاثة أي في ثلاثة أمور وهي المواضع التي ذكرتها ـ رضي الله تعالى عنها ـ في قولها لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث؛ الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها.
فقالوا: إن هذه قد استثنيت من عموم النهي، والأدلة الدالة على تحريم الكذب، وقال آخرون: بل الاستثناء هنا ليس من الكذب الصريح إذ الكذب الصحيح مذموم في كل أحواله وصوره، والأحاديث تشمله ولا استثناء فيه وإنما الاستثناء هنا فيما يفهم منه خلاف المقصود أي أن الإنسان يتحدث بحديث يفهم منه السامع خلاف ما يريد المتكلم، فهذا قد يسمى كذبًا وهو من التورية والتي قال فيها عمران بن حصين: إن في المعاريض لمندوحة من الكذب يعني سعة وفسحة ألا يقع الإنسان في الكذب.
فقالوا: إن الوارد هو فيما استعمل الإنسان من الألفاظ التي يفهم منها خلاف المقصود وليست كذبًا صريحًا.
وعلى كل حال الصواب أن هذه الأحوال الثلاثة وما شابهها مما فيه مصلحة مستثنى من العموم أي من عموم الأدلة الدالة على قبح الكذب والنهي عنه، لكن إن كان يمكنه أن يتوصل إلى ما يريد من إصلاح ومصلحة من غير كذب صريح أي بالتورية والتعريض فذاك هو المطلوب، ولكن إذا لم يتمكن من ذلك إلا بصريح الكذب فعند ذلك إذا لم تكن إلا الأسنة مركبًا فما حيلة المضطر إلا ركوبها، فيجوز حينئذ أن يكذب تحقيقًا للمصلحة.
ومن ذلك ما رواه الطبري في تهذيبه أن امرأة جاءت عند عمر قد وقع بينها وبين زوجها خلاف فقالت إنه قال: أتبغضينني فقلت: نعم قال لها عمر: وما حملك على ذلك؟ يعني لماذا تقولي له أنكِ تبغضينه قالت: أنه استحلفني وكرهت أن أكذب، فقال لها: لتكذب إحداكن ولتجمل، يعني الحديث في خبرها وحديثها مع زوجها، فليس كل البيوت يبنى على الحب، ولكن معاشرة بالإحسان والإسلام، والمقصود أن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وجهها أن تقول خلاف الواقع ولو كان ذلك باليمين، لكن هذا في مقام الإصلاح وإدامة حسن العشرة بين الأزواج.
ويفهم منه ما جاء في قولها ـ رضي الله تعالى عنها ـ: "حديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها"، فهذا محمول على ما يكون من المحادثة المتعلقة بالود والحب والاقتناع والجمال ما رأيت أحسن منكِ، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يقوله الرجل لامرأته، وتقوله المرأة لزوجها، وليس في ذلك إسقاط حق أو إخلال بما يجب، فليس فيه منع حق ولا فيه إثبات ما لا يستحقه الإنسان، فإن الكذب في ذلك محرم بالإجماع، كل كذب يفضي إلى إسقاط الحقوق والاعتداء بالظلم، فإنه لا يجوز، وإنما رخص في الكذب ما كان منه إصلاح.
ليس من يصلح بين الناس كذابا:
ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس" يعني الذي ينقل الحديث بين الناس على وجه الإصلاح كأن يقول فلان يسلم عليك وهو ما سلم عليك، إنما لأجل تندية ما بينهما من صلة وترطيب قلوبهما وإصلاح ذات بينهما فلان يسأل عنك، فلان يجدك وما أشبه ذلك من الكلام الذي يقصد به الإصلاح وتقريب القلوب وتأليفه إذ إن مصلحة الإصلاح تتضاءل بجوارها مفسدة الكذب ولذلك لما كانت المصلحة أعظم من المفسدة أذن الشارع بالكذب في هذه الحال.
مواطن وردت مستثناة:
والأحوال التي جاء بها النص ثلاثة؛ الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها، ولكن في كل هذه الأمور ينبغي أن يستحضر أنها لا يسقط بها حقًا من الحقوق ولا يجني فيها على أحد بأن يستلب منه ما لا يجوز، ولذلك في الحرب وهي الحرب لا يجوز الكذب في التأمين بمعنى أن يقول الرجل لعدوه أمنتك ثم يغدر به هذا لا يجوز، أو في إعطاء العهد أو في إغفار العهد فإن ذلك كله لا يجوز فيه الكذب، لأن ذلك يترتب عليه إسقاط الحقوق.
فينبغي للإنسان أن يدرك أن الأصل في الكذب التحريم، وأنه لا يجوز منه إلا ما تبينت فيه مصلحته ثم إذا كان يمكن أن يصل إلى المصلحة دون كذب صريح فهذا هو الواجب، وذلك بالتورية والمعاريض إذا كان لا يمكنه أن يصل إلى الإصلاح إلا بالكذب الصريح، فيجوز الكذب، وأيضًا لو أنه حلف على ذلك جاز له لأنه جاز له أصل الكذب، فيجوز له اليمين عليه.
ولهذا قال العلماء: لو أن ظالماً سأل عن رجل ليقتله أو ليعتدي على عرضه أو على ماله، فأنكر المسئول أنه رآه أو أنه يعرفه لأجل أن يصون دمه أو يصون ماله أو يصون عرضه، فإنه لا بأس بذلك ولو أفضى ذلك إلى أن يحلف.
اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين، صن ألسنتنا وأقوالنا من الكذب واجعلنا من حزبك المفلحين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.