الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد..
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين في باب الإصلاح بين الناس:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قَالَتْ: سَمِعَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صَوْتَ خُصُومٍ بِالبَابِ عَاليةً أصْوَاتُهُمَا.وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَر وَيَسْتَرْفِقُهُ في شَيءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: واللهِ لاَ أفْعَلُ، فَخَرجَ عَلَيْهِمَا رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «أيْنَ المُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لاَ يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟»، فَقَالَ: أَنَا يَا رسولَ اللهِ، فَلَهُ أيُّ ذلِكَ أحَبَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.البخاري (2705)، ومسلم (1557)
لا ينيغي الحلف على ترك الفضل وفعل الخير:
خصوم أي قوم يختصمون عند الباب أي باب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
"وَإِذَا أحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَر وَيَسْتَرْفِقُهُ في شَيءٍ".
أي يطلب منه الرفق فيما يخاصمه فيه من حق.
"وَهُوَ يَقُولُ: والله لا أفْعَلُ".
يعني يحلف ألا يضع عنه شيئًا من الحق الذي يخاصمه فيه وألا يرفق به في ذلك الحق.
"فَخَرجَ عَلَيْهِمَا رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ: «أيْنَ المُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لاَ يَفْعَلُ المَعْرُوفَ؟".
أي الحالف على الله أي مقسم به ـ جل في علاه ـ ألا يفعل المعروف وهو أن يرفق به أو أن يضع عنه، وهذا المقال من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو إنكار على من صدر منه هذا القول، ولم يوجهه إليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد يعلم من هو من باب عدم توجيه الملامة على صاحب المقالة استدعاء له أن يستجيب إلى ما اقتضته هذه الكلمة من حثه على ألا يحلف على ألا يضع أو ألا يرفق.
"فَقَالَ: أَنَا يَا رسولَ اللهِ، فَلَهُ أيُّ ذلِكَ أحَبَّ."
أي أن له ما شاء مما طلب من الاسترفاق أو الوضع من الدين الذي عليه وهذا الرجل الذي عليه الحق طلب أمرين؛ إما أن يضع عنه بأن يخفف ما عليه من دين، أو يرفق به ومن الرفق به أن يحسن المطالبة ومن ذلك أن ينذره فإن الله ـ تعالى ـ أمر بإعسار المعسر في قوله –جل وعلا-: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾[البقرة: 280] فالله –جل وعلا- ندب من له الحق على غيره إذا لم يتمكن من السداد أن يضع عنه الحق، أن يضع عنه بعض الحق أو أن يسقطه بالكلية، ولذلك قال (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بوضع الكل وعدم المطالبة بشيء فهو خير لكم أي خير في الحال والمآل.
وعد الله بالإخلاف على من أنفق وترفَّق:
في الحال ما أنفقتم من نفقة فإن الله ـ تعالى ـ سيخلفها، وفي المآل فإن الله ـ تعالى ـ يتجاوز عن العبد يوم القيامة، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «أن رجلًا كان يداين الناس أي يعاملهم بالدين وكان يقول لفتيانه إذا جاء ليقتضي حقا من أحد إذا كان معسرًا فتجوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه» هذا في الصحيحين[صحيح البخاري (3480)، ومسلم (1562)].
وفي رواية مسلم من حديث حذيفة قال الله ـ تعالى ـ: "أنا أحق بذلك منك"[صحيح مسلم (1560)] الله أكبر أي: أحق بأن أضع عنك وأتجاوز عن سيئاتك كما فعلت ذلك مع الخلق، فالله ـ تعالى ـ يكون لك كما تكون للناس، فمن كان ذا إحسان مع الخلق كان الله ـ تعالى ـ له محسنًا، فالله لك كما تكون للناس، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على بذل الخير.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد فيه:
جواز المطالبة بالحق ولو أفضى ذلك إلى رفع الصوت فإن النبي لم ينكر رفع الصوت عليهما.
وفيه أيضًا: أن لصاحب الحق مقالا؛ فله أن يطلب بكامل حقه فالنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه ذلك.
وفيه: أن المطالبة بذلك في المسجد ليست مما ينهى عنه، فإن باب النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يفتح على المسجد فمطالبة الإنسان بالدين الذي له على غيره في المسجد ليس مما يدخل فيما نهي عنه من أمور الدنيا التي تكون في المسجد.
لا غضاضة على الإنسان في طلب حقه:
وفيه: أنه لا غضاضة على الإنسان أن يطلب من صاحب الدين أن يضع عنه أو أن يمهله أو يرفق به، فإنه ليس من المسألة المذمومة إذ إن النبي –صلى الله عليه وسلم- أقر السائل، وفيه أن الحلف على ترك الخير مما ينهى عنه وينكر على صاحبه؛ حيث إن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال على وجه الإنكار: «أين المتآلي على الله ألا يفعل المعروف»، والمعروف هنا يشمل كل ما أمر الله به ورسوله على وجه الوجوب أو على وجه الاستحباب وفيه طيب خلق الصحابة وسرعة استجاباتهم للنبي –صلى الله عليه وسلم- حيث إن الرجل لما سمع هذا التعريض من النبي –صلى الله عليه وسلم- مباشرة يا رسول الله أي ذلك أحب يا رسول الله أي الذي يحبه من الاسترفاق أو الوضع وهذا من كمال استجاباتهم لله ورسوله رضي الله تعالى عنهم.
شفاعة الإنسان في الدَّين ونحوه من أمور الدنيا:
وفيه: أن الإنسان يشفع في الديون في قضائها بالعفو عن المعسر، أو الإنذار، أو التنزيل، وأن هذا لا غضاضة فيه هذا سيد الورى –صلى الله عليه وسلم- شفع عند صاحب حق ألا يحلف على ترك الخير وهذا ندب له أن يقبل ما عرض عليه صاحبه من النقص أو الرفق بالتأخير أو الإنذار، فينبغي للإنسان أن يحرص على التوسط في الخير والسعي في الإصلاح، فإن ذلك مما يؤجر عليه وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «اشفعوا تؤجروا»[صحيح مسلم (1432)] ولا فرق في ذلك بين أن تحقق الغاية والمطلوب من الشفاعة أو لا.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأتبعنا هدي نبيك، وألزمنا سنته واحشرنا في زمرته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.