الحمد لله رب العالمين، أحمده جل في علاه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله وخِيرته من خلقه, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فيسرني في هذه الليلة أن ألتقي إخوتي في هذا الملتقى ملتقى رغدان الصيفي، وأسأل الله –جل وعلا- أن يجزي القائمين على هذا العمل المبارك خير الجزاء؛ فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- بشَّر من يسَّر الهدى ودعا إليه بالأجر العظيم والثواب الكبير، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «مَن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً، فله أجرُها، وأجرُ مَن عَمِل بها بعدَه إلى يوم القيامة» صحيح مسلم(1017).
ومثل هذه الملتقيات والقيام عليها هو من العمل الصالح الذي ترجى بركته، ويؤمل خيره، فجزا الله القائمين والمنظمين والمشاركين خير الجزاء على مثل هذه الأعمال المباركة، كما لا يفوتني أن أشكر الإخوة الحضور على حضورهم ومشاركتهم؛ فإن هذه الأعمال إنما نجاحها بجهد المشاركين وحضورهم وتفاعلهم.
ولاشك أن حضور مثل هذه الملتقيات مما يشجع القائمين عليها، ويكون في ذلك مشاركة لهم في الدعوة إلى الخير ونشر البر والفضل بين الناس.
إخواني وأحبابي! نحن في هذه الدنيا استعملنا الله –جل وعلا- لعبادته، فليس لنا في هذا الكون من غاية أو قصد إلا ما ذكره الله في محكم التنزيل ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] ، وفي قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2] كلنا في هذه الدنيا نسعى إلى تحقيق العبادة لله –جل وعلا- في القول والعمل وهذا هو الغرض من هذه العبودية ومن هذه الدنيا، فالدنيا مزرعة الآخرة، نحن فيها في آجال معدودة مضروبة، وأنفاس معدودة، وأيام محدودة، كلنا نسير فيها إلى غاية وهدف، وقد جعل الله تعالى لكل أجل كتاب، لابد أن يقف الإنسان عند ما جعله الله تعالى له من حد وقد جعل الله لكل شيء قدرًا.
فنحن نسير إلى هذه الأقدار، ولا ندري متى نبلغ الأجل، ولذلك يقول ربنا –جل وعلا- ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [لقمان: 34] فلا ندري ما كسبنا، ولا ندري أين يوافينا أجلنا، وبالتالي فلا ندري متى يكون انتهاء أعمارنا، هذا المضمار مضمار سباق يتسابق فيه الناس إلى الله تعالى؛ ولأن الأمر ليس بالمتيسَّر لكل أحد ما فاتك اليوم تدركه غدًا، إنما ما فاتك اليوم لن تدركه غدا، ما فاتك لن يعود، كما قال بعض العلماء في توصيف الوقت: سريع التقضي أبيُّ الرجوع. أي أنه لا يمكن أن يرجع بعد أن يمضي والوقت هو عمري وعمرك، الوقت هو عدد أنفاسي وعدد أنفاسك، ولا يمكن أن يرد الإنسان نفسًا مضى، بهذا نحن في مضمار سباق ليس الأمر كما يتصوره كثير من الناس أن السير في هذه الأيام على سير الهوينة، ما فات يدرك وما مضى يستدرك، إنما ما فات مضى وما ذهب لن يعود، ولكن المؤمل أن يصلح الإنسان فيما بقي.
ولهذا ينبغي لنا أن نعرف قيمة ما نحن فيه من الوقت، والوقت هو عمري وعمرك، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لا تزولُ قدَما العبدِ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ؛ عن عمرِه فيما أفناهُ، وعن شبابهِ فيما أبلاهُ، وعن مالهِ من أين اكتسبَهُ وفيما أنفقَهُ» أخرجه الترمذي ح(2417)من حديث أبي برزة, وقال:"حسن صحيح", ولفظه للبيهقي في الشعب من حديث معاذ ح(1648)، فالسؤال عن الوقت والزمن متكرر فيما جاء الخبر به عن النبي –صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا يا إخواني الله تعالى يقول: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ﴾ [آل عمران: 133] ، لم يقل: بادروا، أو اشتغلوا بعمل، إنما سارعوا والمسارعة معناها أنه هناك شيئا سيفوت إذا لم تدركه، الله تعالى يقول: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الحديد: 21]، فالله تعالى يأمرنا بالمسابقة والمسارعة، وإن لم نستدرك ذلك بالمبادرة فإنه يفوت، ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال ستّا " مسلم(2947).
إذًا هناك أشياء محظورة إذا لم نبادر باغتنام الأيام والليالي فإنها ستفوت، إخواني! ما في شك أننا نقوم ونتقرب بأعمال صالحة لله –جل وعلا- الغالب أن المؤمنين يتقربون بألوان من القربات، منها: ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب، وليس منا إلا وهو داخل في قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وإنَّهُ لا يزيدُ المُؤْمِنَ عمرُهُ إلَّا خيرًا» مسلم(2682)، يعني كلما طال عمر الإنسان ازداد هذا في الخير، وهذا يعني قد يقول قائل كيف يكون؟ كيف يكون كل ما طال عمر الإنسان زاد خيره؟ يعني من الناس من يعمل سيئًا، ويسرف على نفسه، ومنهم من يفسد في عمله لكن يبقى أن المؤمن لا يزيد عمره إلا خيرًا كيف هذا؟
قال العلماء: الإيمان بالله تعالى، التوحيد الذي في قلبه هذا من أعظم وأجلِّ الأعمال التي لا ينفكُّ عنها مؤمن، ولهذا ليس في الدنيا مؤمن إلا عمره لا يزيده إلا خيرًا، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-.
إذًا العمر والحياة فرصة، وينبغي لنا أن نستكثر فيها من كل صالح يقربنا إلى الله تعالى، وأن نستزيد فيها من التقوى التي أمرنا الله تعالى بالاستزادة منها في قوله –جل وعلا-: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة: 197].
يقول أَعْشَى بَنِي قَيْسِ –رحمه الله- قاله فِي مَدْحِ الرَّسُولِ عِنْدَ مَقْدَمِهِ عَلَيْهِ سيرة ابن هشام(2/26) في أبيات له في التزود من التقوى
إِذا أنتَ لم ترحَلْ بزادٍ من التقى
نَدِمتَ علـى أن لا تكـونَ كمثلِـه
إذًا لابد لنا من التزود وهذه هي البضاعة التي نرحل بها، في الصحيحين من حديث أنس أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «يتبعُ الميتَ ثلاثةُ: أهلُهُ، وعملُهُ، ومالُهُ، فيرجِعُ اثنانِ، ويبقَى واحدٌ، يرجِعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ» البخاري(6514), ومسلم(2960) العمل قرينك لا يفارقك في كل مراحل حياتك، تجده في الدنيا انشراحًا وبهجة، وتجده في القبر سرورًا إذا كان صالحًا، فالعمل كما كان في حديث البراء بن عازب يأتي بصورة حسنة إن كان حسنًا، وبصورة سيئة في القبر إن كان سيئًا، ثم لا يفارقه حتى يوم يقوم الناس لرب العالمين حديث البراء أخرجه أحمد(18534)بإسناد صحيح إن العمل وهو عملي وعملك صنعي وصنع يديك قرين لنا، كما قال الله تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا﴾ [الإسراء: 13] هذا الطائر الذي يلزم العنق هو العمل.
هذا العمل يا إخواني يوم القيامة لا يفارق الإنسان، جاء في الصحيحين أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه اللهُ يومَ القيامةِ ، ليس بينه وبينه تَرجمانُ، فينظرُ أيْمنَ منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظرُ أشأَمَ منه، فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظرُ بين يدَيه، فلا يرى إلا النَّارَ تِلقاءَ وجهِه» البخاري(7443), ومسلم(1016) ، ولو كان العمل عن اليمين وعن اليسار هو في الحقيقة كالجناحين اللذين يطير بهما الطائر، إن أحسن العمل كانا قويين فنهضا به عن النار، ولذلك الناس يوم القيامة يعبرون جهنم نسأل الله أن يسلمنا وإياكم منها، يعبرون الجسر المضروب على جهنم ما الذي يسير بهم على ذلك الجسر؟
الذي يسير بهم أعمالهم، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في بيان تفاوت أحوال الناس قال: " فَيَمُرُّ النَّاسُ مِثْلَ الْبَرْقِ، وَآخَرُونَ مِثْلَ الرِّيحِ، وَآخَرُونَ مِثْلَ الْفَرَسِ الْمُجْرَى، وَآخَرُونَ يَسْعَوْنَ سَعْيًا، وَآخَرُونَ يَمْشُونَ مَشْيًا، وَآخَرُونَ يَحْبُونَ حَبْوًا، وَآخَرُونَ يَزْحَفُونَ زَحْفًا " مسند أحمد (11200) بإسناد صحيح, وأصله في الصحيحين ، هذا التفاوت في هذا السير إنما هو لتفاوت سيرهم في الدنيا، فمن كان صالحًا في عمل في هذه الدنيا كان سيره على قدر عمله.
إن أعظم الخسار وأكبر البوار أن يجمع الإنسان من العمل الصالح ثم يفنيه ثم يزهقه ثم يبطله ويحبطه, هذا لاشك أن الغبن فيه أكبر، وأضرب لكم مثلا.
يعني ذاك الذي عمل في أنواع من الأعمال التجارية وصنوف من الأعمال الكسبية بأنواعها وتفننها في أعمال الدنيا وكوَّن أرصدة من الأموال، ثم هذه الأرصدة ذهبت ومحقت بصفقة، إما بأسهم، وإما بتجارة بائرة، وإما بسبب الأزمة العالمية تبدَّد ذلك الرصيد العالي الكبير الذي جمع وكد لكسبه طوال عمره، أما يشعر بالغبن؟ بلى يشعر بغبن عظيم، أيهما أشد بؤسًا وأشقى حالًا رجل هذه حاله التي وصفناها من كد وتعب وجمع وحساب وجهد ثم تذهب المال، أم ذاك الذي لم يعمل شيئًا ولم يكسب شيئًا؟
لاشك إن الذي عمل واجتهد ثم ذهب عمله هو في الخسار أعظم من ذاك الذي لم يعمل شيئًا، ضرب الله تعالى في كتابه مثلًا لهذه القضية في الأعمال الصالحة، يقول الله تعالى: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ﴾ [البقرة: 266] عنده من كل ما يشتهي من الثمار، ثم ليس الأمر كذلك فقط، بل وأصابه الكبر يعني ضعفت قواه وتهاوت طاقته، وله ذرية ضعفاء هو يعني يحمل همَّ نفسه وضعفه وهمَّ الذرية الضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، هذا المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه جرى بحث بين الصحابة في معناه، روى البخاري في صحيحه من حديث عمر رضي الله عنه أنه سأل أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال لهم فيما قال: من يعلم منكم ماذا يريد الله تعالى بقوله: ﴿أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ﴾ [البقرة: 266] قال: "فيما ترونها هذه الآية" يعني ما معناها؟ وفيما نزلت؟ وما المثل المضروب؟
قالوا: الله ورسوله أعلم، أو قالوا له كما في الرواية:" الله أعلم، فغضب عمر رضي الله عنه قال: قولوا نعلم أو لا نعلم" يعني لا تجيبوني بهذا الجواب, لكن أريد جوابًا فصلًا قولوا: نعلم أو لا نعلم فقالوا: لا نعلم.
قال ابن عباس ـ وكان ابن عباس حدثًا بين أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- وكان يشهد مجلس عمر لفقهه ومكانته العلمية وقرباته أيضًا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال ـ:" يا أمير المؤمنين إنه قد وقع في نفسي من هذه الآية شيء فقال: يا ابن أخي قل ولا تحقرن نفسك" يعني لا تحتقر نفسك أمام هؤلاء الكبراء من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- فلا تبين عما في نفسك مما وقع من فهم معناها وإدراك المقصود منها.
فقال ابن عباس رضي الله عنه: "لِعَمَلٍ، قَالَ عُمَرُ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ، فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ ". صحيح البخاري(4538) هكذا قال في تمثيل بسيط بين تجارتين الله تعالى ذكر تجارة حاضرة، رجل كد في مزرعة وعمل فيها حتى أينعت وطابت ثمارها، وتفننت في نتاجها، ثم أصابها إعصار فاحترقت لم يبق منها شيء، هو كبير وله ذرية ضعفاء، فتكالبت عليه الهموم لو لم يكن من الهم إلا أنه خسر تلك الحديقة الغنَّاء والجنة النضرة، لكان خسارًا كافيًا، فكيف إذا أضيف إلى هذا الخسار خسار آخر وهو ضعف حاله؛ أصابه الكبر وله ذرية ضعفاء، لا يستطيعون أن يقوموا به.
فضرب الله تعالى مثلا دنيويًّا لمثل أخروي فهمه ابن عباس رضي الله عنه، فقال: ذاك رجل من الله تعالى عليه بالعمل الصالح حتى إذا مضى وقت بعث الله له شيطان فأغواه بالمعاصي حتى أغرق أعماله أي أذهبها.
لاشك يا إخواني أن العمل الصالح أعظم ثروة يقتنيها الإنسان، العمل الصالح هو الثمرة التي ينبغي للمؤمن أن يجتهد في حفظها، ولهذا يقول ابن القيم:" ليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه " الوابل الصيب ص(11)، وهذا هو الحقيقة، يعني ليس الهم أن تعمل إنما الهم الذي ينبغي ألا يغيب عن ذهنك، أنك إذا عملت عملًا فاحرص على ألا يذهب، فاحرص على ألا يضيع، فاحرص على ألا يحبط، وقد كان حرص المؤمنين في دعائهم وسؤالهم ربهم –جل وعلا- ألا يضيع أعمالهم يقول الله تعالى في ذكر جملة من أدعية أهل الإيمان: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ﴾ [آل عمران: 194- 195] انظر ما الذي استجاب الله تعالى فيه لدعاء هؤلاء؟ ﴿أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ [آل عمران: 195] قال أهل التفسير: إن استجابة الله تعالى لهم في عدم إضاعة أعمالهم أي أنه يحفظها لهم ويمنعها من الحبوط والخسران، ويثيبهم عليها وهذا ما سألوه الله تعالى في قولهم: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ [آل عمران: 194].
أيها الإخوان! إن السلف الصالح جمعوا بين أمرين هما مفقودان في حياة كثير من الناس؛
الأمر الأول:- صلاح الأعمال، والاجتهاد في بذل كل ما يستطيعون في طاعة الله تعالى.
والأمر الثاني:- خوفهم من حبوط أعمالهم وخوفهم ألا يُتقبل منهم.
الله –جل وعلا- يصف جماعة في كتابه وهم الذين آمنوا وصدقوا فيقول –جل وعلا-: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60].
قالت عائشة رضي الله عنها كما في المسند وغيره، قالت: «يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر، ويخاف أن يعذَّب؟ قال: لا، يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه» ح(25704) وفيه انقطاع, وقوَّاه بغيره الألباني في صحيحته ح(162) هذا لاشك أنها مرتبة عالية، ومنزلة رفيعة تبين أن القلوب عمرت بإجلال الله وتقديره حتى بلغ من إجلالها لله تعالى أن ترى أنها تقدم عملًا لا يكافئ ولا يبلغ حق الله –جل وعلا- فهي وَجِلة ألا تكون قد بلغت منزلة يرضاها الله –جل وعلا- فتخشى أن ترد عليها.
في الأخبار "أنه جَاءَ سَائِلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ لِابْنِهِ أَعْطِهِ دِينَارًا فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكَ يَا أَبَتَاهُ، فَقَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنِّي سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوْ صَدَقَةَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أَتَدْرِي مِمَّنْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ " أخرجه ابن عبد البر في التمهيد(4/ 256) الله أكبر.
يقول يعني لو أني علمت أن الله قبل هذه، ما في شيء غائب هو أحب إلي من أن يأتيني هذه اللحظة إلا الموت؛ حتى يختم له بالقبول.
علم الله المؤمنين فكانت الأعمال عندهم على منزلة عالية ورفيعة وفي نظرة مختلفة عن نظرة كثير من الناس.
الآن الواحد منا يسرف على نفسه بألوان من المعاصي والخطايا، الظاهرة والباطنة، الصغيرة والكبيرة، ثم مع هذا كله يغتر بصلاحه في بعض الجوانب، يغتر مثلا بمحافظته على الصلاة أو بقيامه ببعض الأعمال الصالحة على أنه إذا فتش ونظر حاله في تلك الأعمال، لوجد فيها من القصور والضعف ما يسأل الله تعالى الستر، وأن يخرج منه سالمًا لا له ولا عليه، إذا كان أبو بكر وعمر وعثمان والأجلة من أصحاب النبي –صلى الله عليه وسلم- تمنوا أن يخرجوا من الدنيا كفافًا لا لهم ولا عليهم، مع كونهم قال فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم- كما في أحمد والمسند وغيره أنه قال –صلى الله عليه وسلم-: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة» مسند أحمد (1675) بإسنادقوي مع هذا المنقول عن هؤلاء العشرة المبشرين في الجنة يتعجب منه الإنسان كيف يكون هذا قولهم مع بشارة النبي –صلى الله عليه وسلم- لهم بالجنة، ومع تلك الفضيلة التي أدركوها وسبقوا بها من بعدهم حتى صاروا سادات الدنيا بعد النبيين.
إن أولئك القوم عرفوا من يعاملون، فأدركوا أنهم مقصرون، أما نحن فاغتررنا بأعمالنا فظننا أنها قد أوفت الله تعالى حقه، وأننا نتفضل على الله تعالى بأعمالنا، حالنا كحال أولئك الذين تعقب الله قولهم ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ﴾ [الحجرات: 17].
إذًا يا إخواني لابد أن نعرف أننا بحاجة إلى الأعمال الصالحة، وأنه مهما كانت هذه الأعمال جودة وإتقانًا فإنها إذا لم تصادف قبولًا من الله تعالى فلا نجاح ولا فلاح، ولا فوز ولا سبق، ولا نجاة من مخاوف في دنيا ولا في آخرة، الشأن كل الشأن في القبول لهذه الأعمال، وقبول هذه الأعمال هو سلامتها من الآفات المهلكة والأضرار التي تدب إليها فتفسدها، إن العمل يتقبل برحمة الله لا بجهد الإنسان، فالإنسان يقدِّم العمل الصالح ويرجو من الله القبول، لكن هذا العمل لو استقل عن رحمة الله لما كان مقبولًا.
أذكر لكم حديثًا رواه البخاري وكذلك مسلم من حديث عائشة وحديث أبي هريرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: « لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لاَ، وَلاَ أَنَا » البخاري(5673), ومسلم(2816) يعني عمل النبي –صلى الله عليه وسلم- من أتقى الناس؟ رسول الله محمد، من أعبدهم؟ رسول الله محمد، من أعلمهم بالله؟ رسول الله محمد –صلى الله عليه وسلم-، ومع هذا عمله لا يكفي ولا يستقل في إدخال الجنة.
ولذلك ينبغي أن ينظر كل واحد منا إلى رحمة الله أعظم من أن ينظر إلى عمله، فالعمل إنما هو وسيلة وسبب وعربون يتقدم به الإنسان بين يدي رب العالمين الرحمن الرحيم لأجل أن يتقبله، وأن يرحمه، وأن يجعله من أهل الجنة، وإلا فالأعمال مهما كانت ليست سببًا لاستحقاق ذلك الفضل، ولا سببًا لتبوء تلك المنازل إنما هو فضل الله تعالى.
يقول ابن القيم في استشهاده لهذا المعنى فيما نقله:
وَتِلْكَ مَوَاهِبُ الرَّحْمَنِ لَيْسَتْ ... تَحْصُلُ بَاجْتِهَادٍ أَوْ بِكَسْبٍ
وَلَكِنْ لَا غِنَى عَنْ بَذْلِ جُهْدٍ ... بِإِخْلَاصٍ وَجِدٍّ لَا بلِعْبِ مدارج السالكين(2/475).
إذًا لابد من بذل وإخلاص، لكن مع هذا البذل والإخلاص أن نعلم أن الرحمة هي فضل الله الذي يسوقه لنا وهي عطاؤه الذي يمن به علينا.
إخواني وأحبابي: السلف كانوا يخشون على أعمالهم، فإذا عملوا عملًا اجتهدوا في حفظه من الفساد، اجتهدوا في حفظه من الإبطال، هل هناك ما يبطل العمل؟
نعم، أشياء كثيرة يقول ابن القيم –رحمه الله-: "ومحبطات الأعمال أكثر من أن تحصر" الوابل الصيب ص(11) ؛ لأنها كثيرة يتعب الإنسان في إحصائها وحصرها، ولهذا لابد من إدراك المعاني الرئيسة التي يحبط بها العمل حتى يتوقاها الإنسان.
أعظم ما يحبط العمل:
الشرك، والشرك كلمة تطرق أسماعنا وكأنها شيء نحن ما لنا دخل في الشرك، لماذا نتكلم في الشرك، الشرك ما لنا فيه دخل؛ والله سلمنا منه ونحن -الحمد لله- على توحيد وقد أمِنَّا من الشرك، ونقول: هنا موضع الإشكال، تعرفون يا إخواني أن أفضل الخلق يخاطب سادات الدنيا بعد الأنبياء يخاطب صحابته كما في المسند من حديث محمود بن لبيد ويقول لهم: «إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصغَرُ» أحمد(23630), وهو جيد يتصور هذا، قوم قاتلوا الكفار وبذلوا كل ما يستطيعون في نصرة الرسول –صلى الله عليه وسلم- وفي بيان هذه الدعوة والذب عن الإسلام وأهله، يقول لهم النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصغَرُ» أحمد(23630), وهو جيد.
هذا بيان أن الشرك ليس شيئًا مؤمنًا على القلوب، بل القلوب يخشى أن يدب إليها من الشرك ما يفسد أعمالها، وما يحبط هذا السعي وهذا الكد، وهذا العمل، وهذا الجهد، وهذه الصلاة، وتلك الزكاة، وذلك العمل الصالح، الله يقول لرسوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 66] وهذا يبين لنا أن الشرك يحبط حتى أعمال الأنبياء لو وقع منهم، وهذا ليس أن الأنبياء سيقع منهم شرك، فالله تعالى عاصمهم من أن يقع منهم شرك، كما قال –جل وعلا-: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67].
لكن النبي –صلى الله عليه وسلم- ذكر الله تعالى له هذا، وبين عاقبته حتى يعرف ما مرتبة الشرك؟ ما خطورة الشرك؟ أنه لو وقع الشرك من الأنبياء، لكان سببًا لإحباط عملهم مع كون عملهم من أعظم الأعمال وأجلها.
إذًا لابد للمؤمن أن يعرف أن الشرك من أعظم الأخطار التي تهدد القلوب، والشرك ليس لغزًا، الشرك هو ضد التوحيد، ضد هذه الكلمة التي ينطق بها المسلمون "لا إله إلا الله"، هذه الكلمة كلمة التقوى التي أوصى الله تعالى بها الأولين والآخرين ضدها هو الشرك ما معنى هذه الكلمة؟
لا معبود حق إلا الله، هذا معنى "لا إله إلا الله" أي أنه ليس هناك من يستحق العبادة إلا الله –جل وعلا-، فكل نوع من التعبد يصرف لغير الله فإنه شرك، وهنا ينبغي أن يعرف أن الشرك مراتب، فمثلًا الذبح لغير الله شرك، النذر لغير الله شرك، يقول قائل هذا غير موجود.
يا إخواني! نحن إذا كنا لا نراه في مجتمعنا، أو في بلادنا، أو في محيطنا، لا يعني أن هذا غير موجود، اخرجوا مدوا أبصاركم إلى أولئك الذين يقولون في دعائهم: يا علي، يا حسين، يا بدوي يا كذا من المخلوقين يستغيثون بهم ويدعونهم من دون الله، أليس هذا مخالفًا لقول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18]، ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ [المؤمنون: 117] أليس هذا مخالف لهذه الآيات؟
بلى, وكثير من الذين يقولون هذا القول يعرفون هذه الآيات، لكن لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
إذًا ينبغي للمؤمن أن يحذر من الشرك دقيقه وجليلة، صغيرة وكبيرة، وقد حذر منه النبي –صلى الله عليه وسلم- تحذيرًا كبيرًا حتى أنه في بعض الأحاديث قال: "الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفاة السوداء في الليلة الظلماء" فقال أبو بكر -رضي الله عنه- ما النجاة منه يا رسول الله؟ يعني كيف ننجو منه إذا كان بهذا الخفي ويتسرب للقلوب والقلب لا يشعر قال: أن تقول: "اللهم أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم". أخرجه أحمد(19606)رجاله رجال الصحيح غير أبي علي، ووثقه ابن حبان. وقواه الألباني صحيح الأدب المفرد ح(554) .ولهذا ينبغي للمؤمن أن يخافه.
من أعظم الناس تحقيقًا للتوحيد ممن ذكرهم الله في كتابه، إنه خليل الرحمن أنه إبراهيم عليه السلام ماذا كان يقول في دعائه؟ ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35] تصورون أن إبراهيم -عليه السلام- الذي ألقي في النار بسبب منابذته للأصنام أن يرجع ويعبد الأصنام، هذا من أبعد ما يكون ومع هذا ما أمن على نفسه، إنما قال في دعاء صريح وواضح: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ [إبراهيم: 35] وهي السورة الفاضحة للشرك، فما بالكم بما هو أدنى من ذلك.
إذا كان يخشى الصورة الواضحة؛ صنما يسجد له، أو يطاف عليه، أو يقدس ويعبد كان يخشى هذا، أليس حريا بالمؤمنين أن يخافوا ما هو أخفى من ذلك من الشرك كالرياء وكالتوكل على غير الله، وكمحبة غير الله وتعظيم غير الله، والأشياء الكثيرة التي تدب إلى القلوب؟ بلى والله، ولذلك ينبغي الحذر من ذلك غاية الحذر.
ولا تستهينوا أمر الشرك والتوحيد، ولا يظن الظان يقول: الحمد لله نحن ما عندنا شيء من هذا، قلت لكم: إن النبي –صلى الله عليه وسلم- في أصفى وأطهر مجتمع يخاف الشرك على الناس ويقول: «إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصغَرُ»أحمد(23630), وهو جيد.
إخواني! المحبط الثاني:
وهو من المحبطات الكبرى للعمل:
الرِّدة، والردة: هي الرجوع عن الإسلام، والرجوع عن الإسلام يكون بالأقوال مثل سب الله وسب النبي –صلى الله عليه وسلم-، وتكذيب القرآن، والاستهزاء به، ويكون بالاعتقاد كاعتقاد شيء ينافي الإسلام ويعارض أصول الإيمان، وكذلك يكون بالأعمال، كأن يسجد لغير الله تعبدًا، أو ما أشبه ذلك من الأعمال الشركية والكفرية.
فالردة تكون بالقول، وتكون بالعمل، وتكون بالقلب، ولابد للمؤمن أن يعرف أن الردة هي من أعظم ما يحبط العمل، قال الله –جل وعلا-: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54] ، هذا في بيان أن الله غني عنا وعن عباداتنا، ويقول في عقوبة المرتد ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 217]، وقد قال الله –جل وعلا- في أعمال المشركين: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23].
عائشة -رضي الله عنها- سألت النبي –صلى الله عليه وسلم- قالت: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: " لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ "مسلم(214).
إذًا لم يكن عنده إيمان، فكان هذا من أسباب حبوط الأعمال، قال الله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23].
إن من الأمور التي يحبط بها العمل -وهو حبوط كلي للأعمال-: مشاقة الرسول –صلى الله عليه وسلم-، مباينته هديه، منابذة ما جاء به، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 8- 9] وكل من اختط طريقًا غير طريق النبي –صلى الله عليه وسلم- أو ذم ما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- أو كره شيئًا من التشريع الإسلامي الثابت الذي دلت عليه الأدلة وتواطأت عليه كلمات الأئمة فإنه على خطر، وهو مهدَّد بهذه الآية التي يقول الله تعالى فيها: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 8- 9].
إن مما يحبط العمل يا إخواني وهو من الإحباط أيضًا الكلي: التصديق بأن غير الله تعالى يعلم الغيب، ونحن نذكر هذا لأنه جاءت به النصوص؛ لأن هذا يندرج تحت ما يتصل بصور الردة.
النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: « مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فصَدَّقَه بما يقولُ، فقد كَفَرَ بما أُنْزِلَ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم» مسند أحمد(9536) وصححه محققه، وهذا دليل على إحباط كلي، وهذا إذا صدقه، طيب إذا جاء وسأله ولم يصدق كما هو الحال الآن في الذي يتصلون على القنوات السحرية أو على المشعوذين في بلدانهم، فالإلزام لا يلزم الإتيان بالقدمين، بل كل إتيان، لو تكتب له رسالة تقوله لو سمحت أنا عندي كذا وكذا، وما رأيك، ما هو حل هذه المشكلة؟ أو بماذا تنصحني؟ وهو ساحر أو كاهن أو عراف فأنت قد أتيته فلا يلزم في الإتيان بالأقدام، بل كل صورة يأتي فيها الإنسان إلى هؤلاء السحرة والمشعوذين والدجالين، فإنه داخل في هذا الحديث، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أتى عَرَّافًا فسأَلَه عن شيءٍ، لم تُقْبَلْ له صلاةٌ أربعينَ ليلة» مسلم(2230)ومثله ورد في شرب الخمر أن من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحًا، هذان نموذجان من الإحباط الجزئي للأعمال.
فالنبي –صلى الله عليه وسلم- ذكر هنا سيئتين: الإتيان للكهان ولم يصدقهم، وشرب الخمر وجعل النتيجة أو من عقوبة هذا المجيء وهذا العمل هو حبوطه، حبوط صلاة أربعين يومًا، هل معنى هذا أنه لا يصلي؟ بعض الناس يقول: خلاص ما يصلي ما عليه صلاة أربعين يومًا هذا فهم غلط، هو مطالب بالصلاة ما أسقط الصلاة عن مؤمن يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5] لابد من إقامة الصلاة، لكن المعنى معنى أنه لم تقبل له صلاة أربعين يومًا في الحديثين أن سيئة هذا العمل كبيرة إلى درجة أنه إذا وضع عمل المعصية في كفة ووضع أجر وثواب صلاة أربعين يومًا كان الوزر مذهبًا لأجر وثواب هذه الأربعين يوم الأربعين ليلة.
بمعنى مثال إذا كان عندك مالا، ثم تستدين وتقترض الدين الذي اقترضته واستدنته إما أن يكون أقل مما معك، وإما أن يكون بقدر ما معك، وإما أن يكون أكثر مما معك، فهذا الدَّين سيذهب ما معك من أرصدة، سيذهب ما معك مما جمعته واكتسبته هذه الفترة، فكذلك هذا الإحباط المذكور في هذه الأحاديث، إنما هو بهذه الصورة، بمعنى أنه إذا كان أنا عندي صلاة أربعين يوم وحصل هذا الذي ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- من الإنسان في إتيان كاهن وسؤاله أو شرب الخمر، فإنه سيذهب أجر تلك الأعمال الصالحة وهذا نوع من الإحباط وهو إحباط جزئي للعمل.