يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أَبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «إنَّهُ لَيَأتِي الرَّجُلُ السَّمِينُ العَظِيمُ يَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِصحيح البخاري (4729)، وصحيح مسلم ( 2785).
بعض ما يكون في القيامة:
هذا الحديث الشريف يخبر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أمر غيبي وهو ما يكون من حال بعض الناس يوم القيامة، يوم القيامة هو اليوم الآخر يوم القيامة هو يوم الوعيد، يوم القيامة هو يوم الخلود، يوم القيامة هو يوم الخروج، يوم القيامة هو يوم يقوم الناس لرب العالمين، ذكره الله ـ تعالى ـ في كتابه الحكيم وبين أوصافه والإيمان به ركن وأصل من أصول الإيمان.
الإيمان باليوم الآخر:
فالإيمان باليوم الآخر هو إيمان بيوم القيامة وسمي هذا اليوم بيوم القيامة، لأن الله ـ تعالى ـ يبعث فيه الناس من قبورهم فيقوم الناس لرب العالمين، وهو أيضًا اليوم الذي تقام فيه الموازين لوزن أعمال الناس فلا تظلم نفس شيئًا وكذلك سمي هذا اليوم بيوم القيامة لأنه يقوم فيه الأشهاد الذين يشهدون على العباد فيما يكون من أعمالهم يوم الحساب يقول فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خبر من أحواله إنه ليأتي الرجل والمقصود به الشخص رجل أو أنثى السمين أي العظيم في بدنه وجسده بسمن ووفور بدن العظيم في قدره، وفي شأنه.
فالعظم هنا للقدر والسمن للجسم فجمع له وصفين يقتضيان علو المقام عند الناس، فإن السمن دليل على كثرة المال وكثرة التنعم فهو غني كثير التنعم في الدنيا، وهو من حيث القدر رفيع القدر بين الناس يأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة يأتي كما يأتي غيره حافيًا عاريًا غير مختون ليس معه من أمر الدنيا شيء فكلما حصل به السمن والجاه والمنزلة والعلو المقام وراء ظهره لا يأتي معه يوم القيامة إلا عمله، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يزن عند الله جناح بعوضة.
وزن يوم القيامة ليس بالجسم بل بالعمل:
يعني ليس له عند الله وزن ولا قدر ولا مكانة، وهذا من معاني قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يزن عند الله جناح بعوضة لا يقل لا يزن عند الله بعوضة بل جناح بعوضة وهو أحقر ما يوزن وأحقر ما يمكن أن يوضع في الميزان، وجاء بالبعوضة لكونها مستقبحة محتقرة في أعين الناس، فهو لا يزن جناح بعوضة فليس له قدر ولا مكانة، وهذا بيان أن ما يكون فيه في الدنيا من نعيم يتنعم به في بدنه ونعيم يتنعم به في نفسه بجاهه ومكانته ومنزلته لا تنفعه يوم القيامة، بل لا يقيم الله ـ تعالى ـ لها وزنًا كما قال ـ تعالى ـ: ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾[الكهف: 104- 105] ليس لهم مكانة ولا منزلة ولا قدر عند الله ـ عز وجل ـ بل قد ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حال المتكبرين وهم من جنس هذا أنهم يأتون كالذر يطئهم الناس بأقدامهم يوم القيامة.
الصالحون أكثر وزنا يوم القيامة:
والوزن يوم القيامة إنما هو للصالحين، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في عبد الله بن مسعود وهو خفيف الوزن نحيل الساقين دقيق الساقين دقة بالغة حتى أنه لما هبت الريح فانكشفت ساقاه وتمايل ضحك الصحابة من دقة ساقيه ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقال: مما تضحكون؟ قالوا: من دقة ساق عبد الله ـ يعني ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ـ قال: "إنهما لفي الميزان أثقل من جبل أحد"مسند أحمد (3991) الله اكبر.
هذا الدقيق الساقين الخفيف الوزن كان وزنه في الميزان عند الله ـ عز وجل ـ أثقل من جبل أحد في مكانته وقدره ومنزلته والذي يوزن يوم القيامة ثلاثة أمور؛ يوزن العاملون كما دل عليه الآية ﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾[الكهف: 105]، وكما دل عليه الحديث إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة[صحيح البخاري (4729)، ومسلم (2785)] وحديث عبد الله بن مسعود هذا دليل على أنه يوزن العامل.
وزن الأعمال:
ويوزن أيضًا العمل ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾[الزلزلة: 7- 8] وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم»[صحيح البخاري (6406)، ومسلم (2694)].
وزن الصحائف:
فهاتان الكلمتان ثقيلتان في الميزان، وزنهما ثقيل في الميزان، ويوزن أيضًا الصحائف التي تدون فيها الأعمال وتسجل فيها ما يكون من الإنسان كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[الجاثية: 29] يكتب ما كان يعمله الإنسان في هذه الدنيا كل شيء، ثم يوضع في الميزان في الحسنات والسيئات ودليل ذلك ما في حديث عبد الله بن عمرو في قصة البطاقة "فيؤتى برجل وتوضع صحائفه وهم تسع وتسعون سجلا كل سجل مد البصر يعني ما ينتهي حتى ينقطع البصر طولًا في كفة ويؤتي ببطاقة في كفة فيها لا إله إلا الله فتطيش تلك السجلات"[مسند أحمد (6994)] تتطاير، لكن هذه البطاقة ثقلها هو ما كان في قلبه من عظيم التوحيد والإخلاص وصدق الإيمان بالله ـ عز وجل ـ واليقين مع ما كان معه من سيء العمل.
فالمقصود أن الوزن يكون للعامل ويكون للعمل ويكون لسجلات الأعمال، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن ثقلت موازينه فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، اللهم اجعلنا من المفلحين يا رب العالمين واعفو عنا وتجاوز يا أرحم الراحمين.
من فوائد الحديث:
من فوائد هذا الحديث أن الميزان يوم القيامة ليس بالصور ولا بالأشكال ولا بما يكون عليه حال الإنسان في الدنيا.
ومن فوائده أن العظيم الوجيه الكبير إذا لم يكن مؤمنًا يوم القيامة لا يزن عند الله شيئًا.
ومن فوائده ذم السمن إذا كان عن كثرة الأكل والتوسع في الدنيا.
ومن فوائده أن الله ـ تعالى ـ يوم القيامة يجعل من علا في الدنيا في سفل وفي نزول حيث لا يكون له مقام إذا كان من أهل الكفر والشقاق والخروج عن طاعة الله ـ عز وجل ـ فنسأله أن يعملنا بعفوه وأن يرزقنا القناعة والتواضع لعباده وأن يجعلنا من أوليائه وحزبه وصلى الله وسلم على نبينا محمد.