يقول المصنف ـ رحمه الله تعالى ـ:
عن أَبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاثَةٌ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وما جاء في قصة جريج من الولد الذي اتهم به وأنه أبوه من الزنا، والرضيع الذي راجع أمه وحاورها».صحيح البخاري (3436)، وصحيح مسلم (2550)
تحقيق عدد من تكلموا في المهد:
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة» هذا الحصر هو في من تكلم من بني إسرائيل وإلا فقد دلت الأدلة على أن الذين تكلموا في المهد أكثر من ذلك منهم شاهد يوسف، ومنهم صاحب الرضيع الذي كان مع المرأة من أصحاب الأخدود، ومنهم ماشطة فرعون الرضيع الذي كان مع ماشطة ولد فرعون وغير ذلك.
وعدهم بعضهم سبعة وقيل إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذا الجواب أسد إنما حصرهم في هذا الحديث لأنه أخبر بهم ثم أخبر بغيرهم، لأن ممن ذكر ممن لم يأتي ذكره في هذا الحديث هم من بني إسرائيل فيوسف عليه السلام من بني إسرائيل، والشاهد ليس من بني إسرائيل وكذلك فيما يتعلق بالبقية يحتمل أن بعضهم من بني إسرائيل.
لكن الجواب على كل حال بهذا أجاب العلماء فمنهم من قال: إن الحصر لمن تكلم من بني إسرائيل وله وجه وقيل: من تكلم ممن أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك الوقت ثم زيد فأخبر فزادوا.
بيان الآية العظيمة إكراما لمن تكلموا:
والحديث فيه بيان هذه الآية العظيمة التي أجراها الله ـ تعالى ـ لهؤلاء إكرامًا لهم، فكل هذا من الكرامات التي أكرم الله ـ تعالى ـ بها عباده ومن الآيات الدالة على عظيم قدره، فهو ـ جل وعلا ـ الذي أنطق كل شيء أنطق هؤلاء في المهد يعني وهم صغار لا يحسنون حديثًا ولا يريدون خطابًا ولا يفهمون جوابًا هذا هو الأصل في حال من كان رضيعًا في المهد.
عيسى بن مريم جرى منه ذلك عندما جاءت به مريم ﴿قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾[مريم: 27- 30].
صاحب جريج دعته أمه فلم يجيبها، ثم كان ما كان من أن دعت عليه أن يريه وجوه الموميسات فابتلي بأنه اتهمته واحدة منهن بأنه زنا بها وأن الولد الذي في بطنها منه، فلما ولدت جرى هذا الإكرام من الله ـ عز وجل ـ إنجاء لهذا العبد وبيان لصدق وأنه برئ من تلك التهمة، فتكلم لما قال من أبوك؟ قال: أبي الراعي.
سبب ورود الحديث:
وأما القصة الثالثة وهي سبب إيراد هذا الحديث في هذا الباب في رياض الصالحين، فهي قصة امرأة قال فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين صبي يرضع من أمه فمر رجل راكب على دابة فارهة يعني حسنة وشارة حسنة يعني جميلة فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا يعني في العلو والجمال والسعة في المال، فترك الصبي الثدي ونظر إلى هذا الرجل الذي دعت أمه أقبل إليه فنظر إليه فقال: اللهم لا تجعلني مثله ثم أقبل على ثدي أمه يرضع، ثم مرت هذه المرأة معها صبيها بامرأة جارية يضربونها وهم يقولون: زنيتِ، سرقتي وكانت تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فترك الثدي وقال: اللهم اجعلني مثلها فلما انقضت هاتان الحادثتان تراجعت الأم صبيها الذي يرضع فقالت له: إنه مر بنا هذا الرجل حسن الهيئة فقلت: اللهم اجعل ابني مثله فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، ومررت بهذه الأمة وهم يضربونها ويقولون: سرقتي وزنيتِ فقلت: اللهم لا تجعل ابني مثلها فقلت: اللهم اجعلني مثلها.
يعني تسأله وتستخبره ما الذي جعله يقول هذا؟ فقال: هذا فهو رجل جبار أي: مستكبر عال على الخلق، وأما هذه فإنهم يقولون: زينتي، سرقتي ولم تزني ولم تسرق فقلت: اللهم اجعلني مثلها.
العبرة ليست بالمظاهر:
الشاهد من هذه الحال أو من هذه القصة هو أن الإنسان لا يغتر بالظواهر مهما أدهشته وأعمت بصيرته، فإن العبرة ليست بالمظاهر والصور إنما العبرة بالحقائق والمخابر وما أكنته الضمائر، فهذا هو الذي يكون به السبق عند رب العالمين، وهذا يفيد فائدتين؛
الفائدة الأولى: أن يعتني الإنسان بقلبه إصلاحًا وعناية وتطهيرًا وتطيبًا من كل آفة، فإن صلاح القلوب هو الذي يحصل به السبق عند علام الغيوب.
والفائدة الثانية: أنه لا ينبغي للإنسان أن يكتفي فيما يكون من حال الناس بالظاهر الذي قد يكون مخالفًا للمخابر وهذا لا يعني أن ينقب عن قلوب الناس، ولا أن يشق عن بواطنهم لكن لا يغتر، وإلا فالإنسان يجري الأحكام على الظواهر، ولهذا لما قال خالد بن الوليد للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الرجل الذي قال: دعني أقتل قال: إني نهيت عن قتل المصلين، قال خالد: كم من مصلي يقول بلسانه ما ليس في قلبه فرد عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لم أمر بأن أنقب على قلوب الناس ولا أن أشق عن بطونهم فنبهه أن الحكم يجري على الظاهر.
فرق بين موضعين من مواضع الحكم بالظاهر:
لكن هذا فيما يتعلق بالأحكام التي تتعلق بالتعامل، وأما فيما يتعلق بالسبق فلا تغتر بمظهر، والمنازل عند الله لا تقاس بالمظاهر، إنما تعلم بالمخابر وما أكنته الصدور وما حوته الضمائر وهذا لا يعلمه إلا الله ـ عز وجل ـ قد يبدو من الإنسان ما يبين باطنه ويكشف سره لكن نحن مأمورون في الدنيا بأن نجري الأمور على ظاهرها والحكم على الناس ليس بظواهرهم عند الله ـ عز وجل ـ بل بمخابرهم «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم».
هذا الحديث فيه هذه الآية العظيمة وهي كرامة من الله ـ عز وجل ـ الذي أكرم هؤلاء بأن أنطق بين أيديهم الصبيان في المهد الرضيع في المهد لبيان حق أو لنصرة مظلوم أو لإقامة شاهد على صدق دعوة وهذا شأن الكرامات فإن الكرامات إنما يجريها الله تعالى لعباده، إما إنقاذ لهم من كرب وشدائد، وإما نصرة للحق فهي في كل أحوالها لإحقاق حق وإظهاره وإزهاق باطل ودحضه، بخلاف ما يجريه أصحاب الشعوذة من خوارق العادات، فإنها لا تكون إلا على نقيض ذلك، إما لباطل إقرارًا أو ترويجًا ودعوة إلى شر.
اللهم ألهمنا رشدنا وأصلح بواطننا وأكرمنا بصلاح قلوبنا واستقامة أعمالنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.