الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد..
فقد نقل الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم والتواضع معهم وخفض الجناح لهم:
عن أَبي هُبَيرَة عائِذ بن عمرو المزنِي وَهُوَ مِنْ أهْل بيعة الرضوان ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ أبا سُفْيَانَ أتَى (عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبلاَلٍ في نَفَرٍ، فقالوا: مَا أخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِنْ عَدُوِّ الله مَأْخَذَهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ـ رضي الله عنهـ: أتَقُولُون هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيدِهِمْ؟ فَأتَى النَّبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأخْبَرهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَعلَّكَ أغْضَبتَهُمْ؟ لَئِنْ كُنْتَ أغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أغْضَبتَ رَبَّكَ» فَأَتَاهُمْ فَقَالَ: يَا إخْوَتَاهُ، أغْضَبْتُكُمْ؟ قالوا: لاَ، يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أُخَيَّ.مسلم (2504)
أَبي هُبَيرَة عائِذ بن عمرو المزنِي ـ رضي الله تعالى عنه ـ وَهُوَ مِنْ أهْل بيعة الرضوان»، الذين قال فيهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:»لا يدخل النارَ أحدٌ بايعَ تحت الشجرةِ»سنن أبي داود (4643)، وسنن الترمذي (3860)،وهذا فضل عظيم نسأل الله ـ تعالى ـ أن يبلغنا فضله، وأن يرزقنا إحسانه، وأن يجعلنا من السابقين في طاعته المقربين منه.
يقول: عائذ بن عمرو ـ رضي الله تعالى عنهـ:«أنَّ أبا سُفْيَانَ» صخر بن حرب وهو كبير المشركين قبل إسلامه،«أتَى عَلَى سَلْمَانَ وَصُهَيْبٍ وَبلاَلٍ في نَفَرٍ» أي في جماعة، وذلك حينما كان كافرًا في فترة الصلح بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمشركين، جاء ومر بهؤلاء في المدينة، فقالوا ـ رضي الله تعالى عنهم ـ:«مَا أخَذَتْ سُيُوفُ اللهِ مِنْ عَدُوِّ الله مَأْخَذَهَا» ما أخذت سيوف الله، أي سيوف المجاهدين المقاتلين الذابين عن شرع الله ورسوله من هذا الذي هو كبير المشركين مأخذه، يعني لم يصيبوه بأذى أو قتل وما يكون في مواقع القتال.
فقال لهم أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ ولعل ذلك القول سمعه أبو سفيان، فقال لهم أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «أتَقُولُون هَذَا لِشَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيدِهِمْ؟» أتقولون هذا لشيخ قريش أي كبيرها، وسيدهم يعني المقدم فيهم، وقد جاء مندوبًا عنه، وإنكار أبو بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ لما صدر من هؤلاء الصحابة بلال وصهيبوسلمان إنما لأجل ما أمله من المصلحة في أن لا يواجه هذا بما يكره،فيكون ذلك سببًا لإثارة الشر، والصد عن سبيل الله، ووقيعة ما يكرهه أهل الإسلام من صولة أهل الكفر والفجور.
فقال هذه المقالة كأنه ـ رضي الله تعالى عنه ـ وجههم إلى الكف عنها لأجل أن لا يترتب عليها ما يترتب من الفساد، فأتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره، أبو بكر أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره عما قال هؤلاء الصحابة لأبي سفيان، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَعلَّكَ أغْضَبتَهُمْ؟» أي يحتمل أن يكون ما ذكرته لهم من المقالة في قوله لهم: «أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم»، ما تسبب في غضبهم أي في شيء في نفوسهم جعلهم يغضبون، ويجدون في أنفسهم على أبي بكر أن قال هذه المقالة في هذا الكافر الذي يقاتل الله ورسوله في وقت كفره قبل أن يمن الله ـ تعالى ـ عليه بالإسلام.
فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجه التنبيه لأبي بكر أن لا يكون ما قاله سبب في أن يقع في نفوس الصحابة شيء من الكره،أو الغضب لهذه المقالة. وهذا التنبيه النبوي ليس فيه الإنكار على أبي بكر بوجه صريح إنما باحتمال أن يكون ما كان من مقاله سبب لوقوع شيء في أنفسهم، ثم بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عظيم منزلة هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة. قال: «لَئِنْ كُنْتَ أغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أغْضَبتَ رَبَّكَ» الله أكبر، لئن أغضبتهم يعني لئن كان قد وقع في نفسهم شيء من هذه المقولة،فقد أغضبت ربك أن أغضبت أوليائه، ونلت مما يكون مما يكرهه عباده الصالحين.
«لَئِنْ كُنْتَ أغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أغْضَبتَ رَبَّكَ» أبو بكر سباق لكل خير ـ رضي الله تعالى عنه ـ فلما سمع هذه المقالة خشي أن يكون قد وقع في نفوس هؤلاء شيء فجاء إليهم،فقال: «يَا إخْوَتَاهُ» فيه تلطف وتواضع واعتذار، «يَا إخْوَتَاهُ، أغْضَبْتُكُمْ» يعني هل وقع في نفوسكم من مقالتي شيء؟! يا إخوتاه أغضبتكم؟!
فردوا عليه ـ رضي الله تعالى عنهم ـ فقالوا: «لاَ ، يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أُخَيَّ» فقالوا له هذه المقالة التي بينت صفاء نفوسهم واعتذارهم لأخيهم أن أبا بكر لم يقل ذلك نصرة للكافرين، ولا ممالئة لهم على ما هم عليه، إنما لما كان يرجوه من المصلحة في أن تقع الثائرة، ويستمر الصلح بين أهل الإسلام والمشركين لما يترتب عليه من مصالح سماها الله ـ تعالى ـ فتحًا: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾[الفتح:1].
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
من فوائده:
- أن ما يكون بين أهل الكفر وأهل الإسلام من مصالحة أو نحو ذلك لا يذهب ما في القلوب من بغض من يبغضه الله ورسوله، فإن المصالحة تقتضي المهادنة وكف الأذى، وما تقتضيه المصالحة من تحقيق المصالح لكن الموالاة القلبية والمحبة وما إلى ذلك لا تتغير، لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم والآخر يوادون من حاد الله ورسوله هذا من فوائد هذا الحديث.
- من فوائد هذا الحديث أيضًا:أن العالم الكبير وصاحب المقام الرفيع قد يجتهد فيخطئ في اجتهاده كما جرى من أبي بكر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فلا شك أن أبا بكر أعظم منزلة في الإسلام، وأكبر معرفة بأحكامه وشرائع دينه من بقية الصحابة من بلال وعمار، وصهيب وسائر أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ذلك اجتهد،وكان اجتهاده محلًا لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم.
- وفيه: أن الإنسان إذا أشكل عليه أمر في المواقف التي تجري عليه يستفصل، فأبو بكر وقع في نفسه أن شيئًا من الأمر قد يحتاج إلى استفسار فسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخبره.
- وفيه:أنه رفعة مقام الإنسان لا يمنع من تصويبه إذا أخطأ، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَعلَّكَ أغْضَبتَهُمْ؟ لَئِنْ كُنْتَ أغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أغْضَبتَ رَبَّكَ».
- وفيه:أن الإنسان ينبغي له أن يبعد عن كل أسباب غضب الله ـ عز وجل ـ الصغير والكبير، وأن غضب الله ـ تعالى ـ قد يقع على الإنسان في شيء يجتهد فيه لا يستوفي شروط الاجتهاد فيه والنظر، فإن أبا بكر قال ذلك مجتهدًا لكنه ـ رضي الله تعالى عنه ـ قد يكون غلب جانب على جانب فجرى منه ما جرى من مقال النبي ـ صلى الله عليه وسلمـ: لقد أغضبتهم لقد أغضبت ربك.
- وفيه:أن الله يغضب لعباده الصالحين، فمنزلة رفيعة أن يكون الإنسان على هذه الحال أن يغضب الله لغضبه، «يَا أَبَا بَكْرٍ، لَعلَّكَ أغْضَبتَهُمْ؟ لَئِنْ كُنْتَ أغْضَبْتَهُمْ لَقَدْ أغْضَبتَ رَبَّكَ» وهذه لا يكون إلا لمن علا منزلته، وصفت نيته،وسما في المسابقة إلى مرضاة ربه ـ جل في علاه ـوفيه رجوع المؤمن للحق سريعًا،فأبو بكر رجع إلى إخوانه، واعتذر منهم، واستفصل خشية أن يقع عليه غضب الله ـ عز وجل ـفقال: يا إخوتاه، في تواضع وذل مع شرف ورفعة مكانة أبي بكر، أول من أسلم، وهو الذي شهد الله له بالصحبة في القرآن، وهو الذي له المنزلة والمكانة من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما هي، لم يمنعه من أن يعتذر، وأن يستفصل: يا إخوتاه لعلي أغضبتكم، يعني يا إخوتاه أأغضبتكم!
- وفيه أيضًا:أنه إذا جاءك الإنسان معتذرًا فقابله بما يستحق من التشجيع على الاعتذار، فقالوا: لا، ثم لم يقتصروا على الجواب بلا؛بل أضافوا إلى ذلك الدعاء له: يغفر الله لك يا أخي.
اللهم بلغنا مرضاتك، واصرف عنا معصيتك، واجعلنا من حفظك وأوليائك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.