الحمد لله رب العالمين، وأصلي واسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
نقل الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم والتواضع معهم وخفض الجناح لهم:
عن سهل بن سعد ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «أَنَا وَكَافلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا» وَأَشارَ بالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا»رواه البخاري. البخاري (5304)وكذا:
وعن أَبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كَافلُ اليَتيِم لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ في الجَنَّةِ» وَأَشَارَ الرَّاوِي وَهُوَ مَالِكُ بْنُ أنَس بالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى. مسلم (2983)
هذان الحديثان موضوعهما واحد، وهو بيان فضل كفالة اليتيم، واليتيم هو من مات أبوه وهو دون البلوغ هذا هو اليتيم في الناس، وأما اليتيم في غيرهم أي غير الناس فهو من ماتت أمه، وهذا فارق بين اليتم في بني آدم واليتم في غيرهم، فاليتم في بني آدم هو من فقد أباه، وفقد الأم لا يوصف باليتم كما يتصوره بعض الناس، فيقول: هذا يتيم أمه ماتت، لا يوصف باليتم إلا من فقد أباه وهو دون البلوغ، فإذا بلغ زال عنه وصف اليتم بأي نوع من أنواع علامات البلوغ، إما بخمسة عشرة سنة، أو ما إلى ذلك من العلامات الأخرى.
قوله ـصلى الله عليه وسلم ـ: «أَنَا وَكَافلُ اليَتِيمِ هَكَذا»هكذا كافل اليتيم هو القائم بأموره، ويشمل هذا جميع شئونه سواء أن كان ذلك فيما يتعلق بتربيته وتهذيبه وتوجيهه، أو كان ذلك فيما يتعلق بماله، وإقامة معاشه فيشمل كل قيام باليتيم من جهة تزيكته وتربيته وتهذيبه، ومن جهة كفايته في مأكله، ومشربه، وملبسه، ومسكنه.
لكن قد تكون الكفالة بالرعاية ولو لم يصرف مالًا، بمعنى لو كان لليتيم مالًا وقام عليه من يدبر ماله ويرعاه هو داخل في الحديث، فليس من شرط الكفالة صرف المال، بذل المال، الكفالة قد تكون بلا مال، لا كما يتصوره بعض الناس حيث يحصل الكفالة ببذل المال، المال ليس هو الوصف المثبت للكفالة، الكفالة تكون بالقيام بأموره سواء أن كان ذلك من ماله، أي من مال الكافل أو من مال اليتيم إذا كان له مال، فكلاهما يدخل في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَنَا وَكَافلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا».
والإعانة في الكفالة لها أجر ومثوبة، فالذي يدفع المال للمؤسسات والجهات الخيرية التي تقوم على كفالة الأيتام مأجور؛ لأن هذه الجهات ترعاهم من جهة تربيتهم وتهذيبهم، ومن جهة صيانتهم والقيام على حوائجهم الدنيوية في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، فهو معين على الكفالة، وله أجر الإعانة على الكفالة. لكن الكفالة الحقيقية التي ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضلها تمامها وكمالها في أن يضم الإنسان اليتيم إليه، فيكون تحت نظره، وفي كنفه، وفي رعايته، ويقوم بشئونه سواء أن كان من مال اليتيم أو من ماله هو.
هذا الحديث أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه عن فضل الكفالة فقال: «أَنَا وَكَافلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ»، فهذا الفضل الأول أن كافل اليتيم موعود بالجنة جعلنا الله تعالى وإياكم من أهلها.
والثاني: أنه قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى" السبابة هي الأصبع المسبحة وتسمى سبابة؛ لاستعمال الناس لهذا الأصبع في السب أو التهديد أو نحو ذلك، أما الوسطى فهي التي تليها، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَنَا وَكَافلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ هَكَذا»، أشار بالسبابة والوسطى أي في الملازمة والمقاربة، فمرتبته قريب من مرتبة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأيضًا دخوله إلى الجنة قريب من دخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن بعض أهل العلم قال في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «في الجَنَّةِ هَكَذا»:يعني أنه في سرعة الدخول كدخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول من يدخل الجنة، فهو الشفيع في الجنة يقول لخازن الجنة محمد فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك، ففسر بعض أهل العلم أو شرح الحديث بأنه هو وكافل اليتيم في الجنة "هكذا" أي في الدخول في سرعة الدخول، وقال آخرون: في المرتبة، والصواب أنه فيهما جميعًا في سرعة الدخول، وأيضًا في المرتبة فإنه قريب منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومرافقته من موجبات سعادة الإنسان، وعظيم منة الله تعالى عليه.
والحديث الآخر فيه قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كَافلُ اليَتيِم لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ»، يعني إذا كان له به صلة قرابة كأن يكون ابن أخ، ابن خال، ابن عم، له به نوع من القرابة أو لغيره أو لا صلة له أجنبي منه كلاهما يدخل في الفضل قال: "أنا وهو كهاتين في الجنة" وأشار بالسبابة والوسطى فيما ذكر الراوي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الروايات السابقة.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد، من فوائده:
- فضيلة الكفاية.
- ومن فضيلته حث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الكفالة ببيان عظيم أجرها، وأنها محببة لله ولرسوله.
- وفيه أن ثواب الكافل يدور على أمرين: على دخول الجنة، وهذا فضل عظيم وثواب كبير، والثاني: أنه في مرتبة عالية في الجنة.
فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا وإياكم كل بر وخير، وأن يجعلنا من السباقين إلى الصالح من العمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.