الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد...
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم والتواضع معهم وخفض الجناح لهم:
عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لَيْسَ المِسْكينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَلا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ إِنَّمَا المِسكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ» البخاري (1479) ، ومسلم (1039) وفي رواية أيضًا في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لَيْسَ المِسكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ واللُّقْمَتانِ ، وَالتَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ ، وَلَكِنَّ المِسْكِينَ الَّذِي لاَ يَجِدُ غنىً يُغْنِيه ، وَلاَ يُفْطَنُ بِهِ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيهِ ، وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ».
هذا الحديث بروايتيه بين فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحق من يعطى لمسكنته، فإن المسكين هو من أسكنته الحاجة، فعلاه الخضوع والذل والافتقار، وهو من أهل الإحسان، ومواضع التقرب إلى الله ـ تعالى ـ ببذل المال، إلا أن المساكين ليسوا على درجة واحدة، فمنهم من يقوم سائلًا يطوف على الناس فيكتفي بما يعطيه إياه الناس من التمرة والتمرتين، واللقمة واللقمتين وما إلى ذلك مما يكف حاجته، ولو كان لا يصل إلى حد الغنى لكن يحصل به نوع من رفع هذا الوصف أي زوال وصف المسكنة.
ومنهم من تمنعه عفته وتركه للسؤال من أن يطلب من أحد شيئًا، هذا هو الذي نبه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى تفقده والبحث عنه في إعطاء الصدقة الواجبة أو الصدقة المستحبة، فالأجر فيه أعظم من الأجر فيمن يسأل؛ لأن من يسأل يُعلم به ويُعرف فتقضى حاجته، أما من لا يسأل لا يأبه له، ولا يتفطن به، ولا يعرف الناس حقيقة حاله بل كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾[البقرة:273].
﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾[البقرة:273]فالجاهل بحالهم يظن لتركهم السؤال أنهم أغنياء وهم على غير ذلك، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا بين المسكنة في أعلى درجاتها، وأرفع صورها وأبلغ ما ينبغي أن يحرص عليه الإنسان في دفع صدقته سواء أن كانت واجبة أو مستحبة، ولا يعني هذا أن من كان يسأل الناس مع حاجته أنه ليس مسكينًا ولا يعطى من الزكاة لا، إنما المقصود التنبيه إلى من هو أحوج وأحق بهذا الوصف وهو المسكنة التي جعلها الله ـ تعالى ـ محلًا لصرف الصدقات الواجبة والمستحبة ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا﴾[التوبة:60]إلى آخر ما ذكر الله ـ تعالى ـ في أصناف أهل الزكاة.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن الذي لا يجد غنى يغنيه أي لا يجد كفايته، والكفاية التي يحصل بها الغنى اختلف العلماء في حدها، فمنهم من قال: يجد كفايته لمدة سنة، ومنهم من قال: يجد كفايته العمر كله، وهذا مذهب الإمام الشافعي، ومنهم من قال: أن يجد زائدًا على حاجته نصابًا من مالًا زكوي وهذا مذهب أبي حنيفة، والأول وهو أن لا يجد كفايته لسنة هو مذهب المالكية والحنابلة. والصحيح أن المسكين هو ما عده الناس مسكينًا ولو كان عنده نصاب زكاة، ولو كان لا يجد الكفاية للعمر كله، أو لسنة فالمرجع في ذلك إلى العرف وما ذكره العلماء إنما هو على وجه التقريب.
وبالتالي المسكين هو الذي تقصر أمواله وما عنده عن حاجته، ما يقصر ما عنده عن حاجته، والمقصود بالحاجة الحاجة التي تحصل بها الكفاية لا الحاجة التي يكون بها غنيًا؛ لأن بعض الناس يظن أن لازم الناس يكون على مرتبة واحدة من الغنى في الكفاية، وفي الحاجيات والكماليات والتحسينيات. الكفاية التي يذكرها العلماء فيما يتعلق بدفع الزكاة وفي بيان حد الفقر والمسكنة هو الكفاية في الأمور الضرورية، وتلحق بها الحاجات التي لا تستقيم الحياة إلا بها.
وأما الكماليات والتحسينيات فهذه ليست داخلة في حد الفقر والمسكنة، إنما هي زائدة فمن أعطى فليعطي من غير الزكاة، أما الزكاة الواجبة فلا تكون إلا لمن لا يتوفر له ما يكفيه من حاجة. وهذا الحديث نظير قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ»صحيح مسلم (2581)إلى آخر ما ذكر، فبين الحقيقة في الإفلاس المضر والذي ينطبق عليه حد الإفلاس على وجه الكمال، وكقوله ـ تعالى ـ: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾[البقرة:177] مع أنه التوجه إلى القبلة في الصلاة من البر وهو من أركان الصلاة، ولكن الآية أرادت بيان أنه ليس أعلى البر وغايته أن يكون الإنسان متوجهًا إلى القبلة وقد فرط بأصول الإيمان وأركانه، وصالح الأعمال.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وارزقنا علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، أغننا بفضلك عمن سواك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.