الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم والتواضع معهم وخفض الجناح لهم:
عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال:«شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ» البخاري (5177)، ومسلم (1432) وفي الصحيحين من رواية أخرى عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «بئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهَا الأغْنِيَاءُ ويُتْرَكُ الفُقَراءُ«.
هذا الحديث الشريف بين فيه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ما ينبغي أن يكون على الإنسان في شأنه وليمة العرس وسائر ما يكون من الولائم، فإن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ» الوليمة تطلق على طعام العرس، ويوسع جماعة من أهل العلم الوليمة فيجعلونها في كل ما يدعى إليه مما جرى عرف الناس بالدعوة إليه من المناسبات كالختان، وما أشبه ذلك من حوادث السرور، ونحو ذلك.
فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ» أول ما يدخل في هذا بالاتفاق وليمة العرس، وإضافة الشر للوليمة في هذا الحديث«شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ»، وفي الرواية الأخرى«بئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الوَلِيمَةِ»الذم هنا والشر مضاف إلى صاحب الطعام لا إلى الطعام ذاته؛ لأن الطعام في ذاته مما احل الله ـ تعالى ـ وهو من الطيبات، وإنما الذم وقع في كون هذه الوليمة، وهذا الطعام خص به من لا حاجة إليه فيه، من الأغنياء، ومن لا يأتي الولائم إذا دعي إليها لاستغنائه، وترك ذوي الحاجات ممن يتشوف إلى حضورها أو ممن يحتاج إليها من الفقراء.
فقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ»، وفي الرواية الأخرى «بئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الوَلِيمَةِ»بيان لذم فاعل ذلك، والسبب في هذا أن الولائم ينبغي أن يدعى إليها من له حاجة إليها، فإن ذلك مما يبارك الله ـ تعالى ـ فيه، ويجعله سببًا للخير، والبركة لكل من حضرها، ولما اجتمعوا عليه فينبغي أن يلاحظ هذا المعنى.
إذا خالف صاحب الوليمة وخص الأغنياء دون الفقراء، هل تجاب دعوته؟
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن بين منقصة هذه الوليمة ونزولها، قال: «وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ» فبين ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن من لم يجب الدعوة إلى وليمة العرس في قول عامة أهل العلم، وإلى غيرها في قول جماعة من أهل العلم إذا لم يجب الدعوة، فإنه قد وقع في معصية الله ورسوله، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ»، وهذا يبين أن المجيء إلى الوليمة الأصل فيه الوجوب.
وقد اختلف العلماء في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ» هل هو على وجه الفرض العيني أم الفرض الكفائي؟ أم أنه تأكيد وحث على الحضور دون الوجوب؟
للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال، وقد حكى ابن عبد البر: أنه لا خلاف بين أهل العلم في وجوب إجابة الدعوة إذا خلت من المنكر، وهذا يدل على أن عامة أهل العلم على أن حضور الوليمة واجب، وأنه ليس فرض كفاية إنما هو وجوب عيني لمن دعي إلي وليمة، وهذا القول هو أقرب الأقوال إلى الصواب؛ لكن العلماء ذكروا لإجابة الدعوة شروطًا، فمن شروط وجوب إجابة الدعوة:
- أن لا يكون فيها منكر.
- أن لا تتضمن ما يلحق الإنسان من الضرر، أن لا تتضمن ضررًا للمدعو.
- أن لا يكون فيها شغل له عما يحتاج إلى الاشتغال إليه أو الاشتغال به.
- والرابع من الشروط أن يعينه في الدعوة.
هذه شروط ذكرها العلماء في ما يجب دعوته، وأيضًا الشرط الخامس: أن تكون وليمة عرس عند من يخص الحديث بوليمة العرس في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ». فملخص الشروط أن لا تتضمن الدعوة منكر، وأن لا يلحق الإنسان بالإجابة ضرر، وأن لا يشغله عما هو أهم أو أوجب، وأن يعينه بالدعوة وإذا توافرت هذه الشروط، فإنه ينبغي أن لا يتخلف عن الإجابة لاسيما إذا كانت دعوة عرس.
وإجابة الدعوة هي من حق المسلم على المسلم الذي جعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحقوق الخمسة أو الستة التي ذكرها في حديث أبي هريرة: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ... وإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْه» فإجابته من حقوقه وهي من الحقوق الواجبة. إذا خص الداعي الأغنياء دون الفقراء بالدعوة هل تجب إجابته؟
للعلماء في ذلك قولان: منهم من قال: أنه لا تجب إجابته، لماذا؟
قالوا: لأنه وقع في منكر، وهو تخصيص الأغنياء بالدعوة، فيكون هذا مفوتًا لشرط من شروط إجابة الدعوة وهو أن لا تتضمن منكرًا، وقال آخرون: بل هذا أمر منفصل ولا يعلم في الأصل إلا إذا حضره الإنسان في الغالب، وبالتالي يجب إجابة الدعوة، فإذا جاء وجد أن الداعي خص الأغنياء نصحه بأن يستدرك ذلك بدعوة بعض الفقراء ليزول ما ذمه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تخصيص الدعوة بالأغنياء دون الفقراء.
والمقصود من هذا الحديث في الجملة في سياقه في هذه الأحاديث هو أنه ينبغي أن يراعي الإنسان الضعفاء، والفقراء، وذوي الحاجات، وأن لا يغفل عنهم، وأن يشركهم فيما يكون من مسراته فإنه يكون في ذلك يحقق الإخوة الإيمانية، ويكون من الرحماء الذين ترجى لهم الرحمة فالراحمون يرحمهم الله. فينبغي العناية بهذا، وأن يكون الإنسان مشاركًا جميع إخوانه، وأن لا يكون التقديم فقط لذوي الجاه والغنى والمال، فإن أولئك لهم حق في الإخوة الإيمانية الثابتة لكل مؤمن، كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾[الحجرات:10].
وفيهم أجر أعظم بكفايتهم وسد حاجاتهم، فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الرحمة، وأن يعيننا وإياكم على الإحسان، وأن يجعلنا من السابقين إلى الاهتداء بسنة خير الأنام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.