الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم والتواضع معهم وخفض الجناح لهم:
عن أنس بن مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ خادم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال:«مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْن حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ أنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ» وضَمَّ أصَابِعَهُ. رواه الإمام مسلم مسلم (2631).
هذا الحديث الشريف فيه بيان فضل رعاية البنات، إذا رزق الله ـ تعالى ـ العبد إناثًا يقوم عليهن، فهذا الفضل العظيم بينه سيد الأنام ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فقال: «مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْن»عال أي تكلف بجاريتين سواء أن كانتا ابنتين أو أختين، أو غير ذلك من النساء اللواتي يحتجن إلى من يقوم عليهن، فالجاريتان في الحديث هنا البنتان الصغيرتان، وسواء أن كانتا له أو لغيره من أخوات أو غير ذلك ممن يحتاج إلى رعاية من جنس الإناث، والنص على البنات في هذا الحديث هل يمنع فوات الأجر فيما لو كان على ابنين؟
قال بعض أهل العلم: نعم هذا فضل خاص برعاية البنات، والسبب في ذلك ثقل شأن البنات على نفوس كثير من الناس لاسيما في الزمن السابق لما كان البنات يجري معهن من العمل من الوأد ونحو ذلك ما هو معروف في الجاهلية. وحتى في الزمن المعاصر، فإنه في القيام على البنات من المؤونة والكلفة ما ليس في القيام على الأبناء، وذلك أن البنات لا يستغنين عن من يرعاهن ماديًا ومعنويًا بخلاف الصبيان والرجال والأبناء، فإنهم قد يستغنون ماديًا، ويستغنون معنويًا أكثر من البنات.
وقال آخرون: بل هذا الحديث ورد على سبب، وهو قوله في شأن جاريتين معينتين هذا الحديث، فلا يمنع أن يكون المقصود هو رعاية من يحتاج إلى رعاية من الجواري والصبيان، وفضل الله واسع. وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «حَتَّى تَبْلُغَا»المقصود به حتى تبلغا الكفاية، وليس المقصود البلوغ وهو وصول سن التكليف؛ لأنه قد تبلغ المرأة سن التكليف ولا تزال محتاجة إلى من يرعاها، ومن يقوم عليها، فقوله: «حَتَّى تَبْلُغَا» أي حتى تكتفيا وتستغنيا عن الرعاية، والإعالة.
فمن عال جاريتين تكفل بمئونتهما وقام على شئونهما إصلاحًا، وسعا لهما بما يحقق لهما الكفاية، والرعاية، وحسن التنشئة كان كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين"، وضم أصابعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ "جاء يوم القيامة" أي يأتي يوم القيامة ويثاب على ذلك بهذا الأمر العظيم، وهو القرب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضم الأصابع بيان للقرب الذي ليس بينه وبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حال، يكون قريبًا قربًا ليس بينه وبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حائل كما هو الشأن في الأصابع، فإنه ليس بينها وبينها بين بعضها حائل وهي متقاربة لاسيما إذا ضمت، وهذا يدل على شدة المقاربة.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ»أي في دخول الجنة والسبق إليها، هذا أحد المعاني، والمعنى الثاني أي في قرب الدرجة والمنزلة، وهذا المعنى الآخر ولا يمنع أن يكون المعنى للحديث هو السبق مع القرب، فيجتمع في فضل الرعاية للبنات والقيام عليهن أنه يسبق في دخوله الجنة، فيرافق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدخول أولًا؛ لأنه أول من يدخل الجنة صلوات الله وسلامه عليه.
وأيضًا يكون قريبًا منه في المنزلة وإن كان هذا القرب لا يستلزم المساواة فبين منزلة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغيره من الأنبياء فضلًا عن الصالحين من أصحاب الأعمال الصالحة منازل؛ لكنه قريب منه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهو نوع من القرب الذي يتحقق به مرافقته ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ نسأل الله من فضله.
وهذا الحديث فيه جملة من الفوائد من فوائده:
الحث على رعاية البنات، والقيام بشئونهن، وأن ذلك مما يعقب الإنسان خيرًا. وفيه أن كل ما كثر عدد من يقوم عليه من الإناث سواء أن كان من بناته أو أخواته أو غير ذلك عظم أجره فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: من عال جاريتين، فمن عال ثلاث كان أولى بالفضل، من عال أربع كان أولى بالفضل.
وفيه أيضًا: أن الأجر العظيم قد يرتب على عمل يسير، فإن القيام على الجاريتين قد يكون ميسورًا لمن كانت حاله حسنة، ووسع الله ـ تعالى ـ عليه في الرزق فلا يكلفه القيام عليهما في الكلفة والمئونة والرعاية شيئًا كثيرًا.
وفيه: أن من باشر ذلك بنفسه كان أعظم أجرًا، فإن قام به بنائبه بأن وكل من يقوم على بناته أو أخواته وتابع ذلك كان داخلًا في الحديث، والمقصود أن رعاية البنات مما يؤجر عليه الإنسان أجرًا عظيمًا.
وفيه: أن فضل رعاية البنات أعظم من غيره، هذا بعض ما في هذا الحديث، نسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقنا وإياكم حسن القصد، وصلاح العمل، وأن يفتح لنا أبواب الخير، وأن يعيننا على استثمار طرق البر، وأن يجعلنا فيها من السابقين، وأن يرزقنا مرافقة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله.