الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم والتواضع معهم وخفض الجناح لهم:
عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أن امرأة دخلت عليها ومعها ابنتان، تسأل ـ أي تطلب عونًا وشيئًا ـ لها ولابنتيها، تقول عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ: فلم أجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة ـ لم تجد في بيت النبوة تعطيه هذه السائلة إلا تمرة واحدة ـ فأعطيتها إياها، فقسمتها بين أبنتيها ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامت فخرجت واكتفت بما أعطتها من التمرة التي قسمتها بين ابنتيها.
فدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على عائشة فأخبرته ما كان من خبر المرأة وابنتيها، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنِ ابْتُليَ مِنْ هذِهِ البَنَاتِ بِشَيءٍ فَأحْسَنَ إلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتراً مِنَ النَّارِ». البخاري (1418) ومسلم (2629) وفي رواية مسلم لحديث عائشة ـ رضي الله تعالى ـ أنها قالت: «جَاءتني مِسْكينةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأطْعَمْتُها ثَلاثَ تَمرَات» لعلها قصة أخرى غير القصة السابقة ،أو أنها اختصرت في الأول وفصلت في الثاني، أعطتها ثلاث تمرات فأعطت كل ابنة من بناتها تمرة، وهمت بأكل الثالثة فسألتها فاستطعمتها بناتها، ابنتاها التمرة التي بقيت لتأكلها، فما كان منها إلا أن شقتها نصفين فأعطت كل واحدة من هاتين البنتين شقًا، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت له عائشة ما صنعت هذه المرأة.
فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنَّ الله قَدْ أوْجَبَ لَهَا بها الجَنَّةَ، أَوْ أعتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ»إن الله قد أوجب لها أي لهذه المرأة، لها أي بهذه التمرة التي شقتها بين ابنتيها الجنة، أو اعتقها بها من النار.
هذا الحديث في هاتين القصتين عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ فيه جملة من العبر والعظات والفوائد:
من فوائده:حال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الزاهدة في الدنيا حيث أن بيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يجد فيه أهله ليطعموا سائلًا إلا تمرة أو شيئًا من التمر، فإنه لو كان عند عائشة أكثر من ذلك لما حبسته عن هذه السائلة مع ما رأته من عظيم حاجتها وحاجة بناتها، وهذا مصداق ما أخبرت به عن قلة ذات يده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه كان يمضي الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار صلى الله عليه وسلم.
واليوم حال الفقراء الذين هم من أشد الناس فقراً لا تبلغ هذه الحال، وهي حال سيد الورى الذي لو شاء الله لأجرى الله ـ تعالى ـ تحته الأنهار، ولحول الجبال ذهبًا له؛ لكنه كما قال: «ما لي وللدُّنيا، ما أنا في الدُّنيا إلَّا كراكبٍ استَظلَّ تحتَ شجرةٍ ثمَّ راحَ وترَكَها».سنن الترمذي (2377)
من فوائد هذا الحديث الإيثار والإحسان حتى ولو بالقليل، فلا يستقل الإنسان شيئًا، فإن الشيء القليل مع النية الصالحة يبلغ به الإنسان هذا الذي بلغ بهذه المرأة أن كان قد أوجب الله لها الجنة بإحسانها إلى بناتها، ومنعها من النار فلا تبخل بالقليل ولو كنت قليل ذات اليد، فإن الله تعالى يعطي على القليل الكثير «اتّقوا النار ولو بِشقّ تمرة»صحيح البخاري (1417)،صحيح مسلم (1016)، وهذا مصداق ما فعلته المرأة اتقت النار ولو بشق تمرة.
وفيه من الفوائد: إيثار الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ فإن عائشة آثرت هذه المرأة، وهذه المرأة آثرت بناتها بهذا القليل من التمر رجاء ما عند الله عز وجل.
وفيه من الفوائد: أن الراحمون يرحمهم الله، فإن هذه المرأة لما رحمت ابنتيها، وهو مقتضى الفطرة نالت هذه الرحمة العظيمة من الله ـ عز وجل ـ أن أجب لها الجنة.
وفيه من الفوائد: أن العمل اليسير القليل إذا كان مما يبتغى به وجه الله يبلغ الله ـ تعالى ـ به العبد ما لا يرد له على بال، الجنة التي فيها ما أخبر فيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر أوجبها الله لهذه المرأة بتمرة واحدة؛ لكن فضل الله واسع، وأن عطاءه ـ جل وعلا ـ جزيل فينبغي أن لا يستقل الإنسان ولو أقل ما يكون من الإحسان، أحيانًا يبقى شيء من الطعام، يبقى عند الإنسان شيء من المال ويأتيه سائل ويقول: ما ينفع، ما يفيد، ليس ثمة شيء لا يفيد عند رب العالمين، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه﴾[الزلزلة:7].
وفيه من الفوائد: أن القيام على البنات أفضل من القيام على البنين، وإن كان في الجميع فضل، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنِ ابْتُليَ مِنْ هذِهِ البَنَاتِ بِشَيءٍ فَأحْسَنَ إلَيْهِنَّ»البخاري (1418)قال بعض أهل العلم: هذه الحادثة وردت على هذه القصة، ولا يعني قصر الفضل على رعاية البنات، بل يشمل أيضًا رعاية الأبناء الذين يحتاجون إلى رعاية، وفضل الله واسع وإنما جاء النص في البنات؛ لأنها قضية عين حصلت، فأخبر بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعلوم أن قضايا الأعيان لا تفيد مفهوم المخالفة فيشمل البنات والبنين، وإذا كان كافل اليتيم في الجنة مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كهاتين ولم يميز بين ذكر وأنثى، فكذلك القيام على الأبناء.
وفي قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مَنِ ابْتُليَ مِنْ هذِهِ البَنَاتِ بِشَيءٍ فَأحْسَنَ إلَيْهِنَّ»، الابتلاء هنا المقصود به الاختبار والامتحان، وقال بعض أهل العلم: المقصود به نزول ما يكرهه الإنسان بناء على حال غالب الناس من أنه إذا ولد له بنت قد يجد في ذلك ثقلًا، فالبنات في رعايتهن والقيام عليهن لسن كالأبناء فإن حاجتهن شديدة، وملاحظة أمورهن أعظم وأثقل على الرجل من البنين.
وفيه: أن القائم على البنات سواء أن كان رجلًا أو امرأة فله هذا الأجر، لأنه قال: من ابتلي، وهذا يشمل ما إذا قام على البنات رجل وهو الأب أو الأخ أو من يقوم على بنت من البنات برعايتها أو امرأة بأن تقوم الأم أو الأخت أو بنت أو امرأة من النساء على بنات. فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وأن يسترنا بستره، وأن يستعملنا فيما ويرضى، وأن ينشطنا إلى كل بر، وأن يقعد بنا عن كل سوء وشر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.