الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فقد نقل الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم والتواضع معهم وخفض الجناح لهم:
عن أبي شريح خويلد بن عمر الخزاعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:«اللَّهُمَّ إنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَّعِيفَينِ: اليَتِيم وَالمَرْأةِ» رواه النسائي بإسناد جيد. أخرجه النسائي في السنن الكبرى (9150).
هذا الحديث جاء عند ابن ماجةحديث رقم(3678) من حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ وجاء أيضًا عن أنس فيما أخبر به من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوصى بالنساء في سياق موته صلى الله عليه وسلم.
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اللهم" أي يا الله، والميم عوض عن حرف النداء في أول الكلام، وقيل: الميم للجمع "اللهم أني أحرج حق الضعيفين"، هذا ليس دعاء إنما هو إشهاد لله ـ عز وجل ـ وإعلام من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لربه ما كان من تبليغه عظم حق الضعيفين: اليتيم والمرأة، فقوله: "اللهم أني أحرج" هو إشهاد لله ـ عز وجل ـ أنه قد بلغ وأنذر وحذر وبين خطورة حق هذين الضعيفين، وأن الحجة قامت على الأمة بذلك.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أحرج" أي أضيق، وألحق الحرج والإثم فالتحريج تأثيم وتضييق، وذلك أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر بأنه يثبت الحرج، والحرج هو الضيق والإثم في حق الضعيفين، والحق يشمل كل ما ثبت للإنسان من الأمور سواء أن كان ماليًا أو معنويًا، وسواء أن كان بإثبات الشرع أو كان ذلك بالتعاقد الجاري بين الناس، فالحق هنا شامل لكل ما يثبت للإنسان من الأشياء الحسية والمعنوية، المالية وغيرها فقوله: "أحرج حق الضعيفين" أي أحرج كل شيء يثبت للضعيفين، سواء أن كان ذلك في الأموال أو كان ذلك في الحقوق المعنوية، وسواء أن كان ذلك ثابتًا بأصل الشرع كحق النفقة على الزوجة مثلًا، أو البنات، أو ثابتًا بالمعاقدة التي تكون بين الناس في سائر أنواع المعاقدات.
ومنه ما يكون من ولاية الإنسان لليتيم، وولايته على المرأة إذا كان مما له ولاية عليها. فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اللهم أني أحرج حق الضعيفين" ألحق الحرج والإثم بكل من نقص شيئًا من حقوق الضعيفين، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "الضعيفين" ذكر الوصف الموجب للتحريج، وذلك أن الضعف يقتضي الرحمة، فالرحماء يرحمهم الله، ولهذا ذكرهما بالوصف الموجب للعطف والحنان، والرحمة، والمبادرة إلى أداء الحق.
ووصف اليتيم والمرأة بالضعف بناء على الأصل، والغالب في حال الأيتام والنساء، وذلك أن حق اليتيم والمرأة عرضه للإسقاط، وعرضه للبخس والنقص من الأقوياء من الرجال وغيرهم، ولذلك التحريج هنا ليس فقط التحريج في حق الرجال أن لا يظلموا الأيتام، والنساء بل هو تحريج لكل من له قدرة على إيقاع بخس أو نقص في حق الضعيف من اليتيم والمرأة.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اليتيم والمرأة" هو ذكر لأكثر من يحتاج إلى التنبيه إلى حقهما من الضعفاء وليس ذلك حصرًا، فإن التحريج المذكور في الحديث ثابت لكل ضعيف: من يتيم، وامرأة وغيرهما وذلك لوجود المعنى الذي أوجب تحريج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأثبت تأثيمه لمن بخس حق الضعيف، والله ـ تعالى ـ يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾[النساء:58]، فهذا الحديث ذكر فيه هذين الضعيفين للتنبيه على غيرهما، فإن اليتيم ضعفه من جهة فقد أبيه الذي يحميه، ويحوطه، ويمنع عنه ما يمكن أن يكون من بخس أو نقص أو اعتداء أو ظلم، وأما المرأة ضعفها من جهة جرأة الرجال عليها، سواء أن كانوا أزواجًا أو كانوا غير أزواج.
ولهذا جاءت الوصية بالنساء والإحسان إليهن في نصوص لا تحصى، وذلك لما جرى في الزمن السابق، ولما عليه كثير من الناس حتى في الزمان اللاحق للرسالة بعد بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من التسلط على النساء، والله ـ تعالى ـ ذكر في أول سورة النساء بوجوب المحافظة على الحقوق. قال ـ تعالى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء:1].
ثم أمر بإيتاء الأيتام حقهم: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ﴾[النساء:2]، وأمر بإتيان النساء حقوقهن: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾[النساء:4]، فالمقصود أن ذكر اليتيم والمرأة لعظيم حاجتهما إلى من يعينهما على استنقاذ حقوقهما إذا غابت التقوى عن القلوب، اجترأت الأنفس على الظلم والاعتداء والعدوان، ولهذا ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحق اليتيم والمرأة على هذا النحو من التنبيه إلى ضرورة العناية بحقهما، وعدم بخسهما: "اللهم أني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة".
واليتيم هو من فقد أباه دون البلوغ، أما إذا بلغ فيزول عنه وصف اليتم، وهذا لا يعني جواز ظلمه، بل إن حقه محفوظ قبل البلوغ وبعد البلوغ، لكن قبل البلوغ لكونه قليل الحيلة، قد يعتدى عليه ويبخس أكد وجوب رعاية حقه، وأكد تأثيم الاعتداء عليه. والمرأة سواء أن كانت صغيرة أو كبيرة، وسواء أن كانت ذات قرابة أو لم تكن ذات قرابة، فإن الضعف ملازم لها ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾[الزخرف:18]، فينبغي أن يرحم الإنسان النساء والأيتام، وأن يوفيهن حقوقهن، وأن يذكر الله ـ تعالى ـ في حقهن.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد، من فوائده:
- إشهاد الله ـ تعالى ـ على تبليغ العلم، إقامة للحجة على من بلغه وعلمه.
- وفيه: تأكيد حق الضعفاء على وجه العموم لذكر الوصف في قوله: أني أحرج حق الضعيفين.
- وفيه: أن ذكر هذين الضعيفين اليتيم والمرأة دلالة على عظيم حقهما، ووجوب العناية والرعاية لشئونهما في إيفاء كل مالهم، ولذلك كان أكل مال اليتيم من كبائر الذنوب، فقد عده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السبعة الموبقات المهلكات، فالأمر خطير، ومثله سائر الحقوق التي له فإنه لا يبخس شيئًا من الحقوق التي له، وكذلك المرأة.
- وفيه من الفوائد: أن ذكر بعض من قام فيهم الوصف لا يلغي إثبات الحكم في غيرهما، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر المرأة واليتيم كالتمثيل للضعفاء، ولكثرة وقوع الظلم على هذين؛ ولكن لا يعني عدم إلحاق غيرهما بل كل ضعيف جدير بالعناية والرعاية، وبذل الجهد في إيصاله حقه، والإنصاف في معاملته.
هذه بعض الفوائد في هذا الحديث، أسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.