الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم والتواضع معهم وخفض الجناح لهم:
وعن مصعب بن سعد بن أَبي وقَّاص رضي الله عنهما، قَالَ: رَأى سعد أنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «هَلْ تُنْصرُونَ وتُرْزَقُونَ إلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ». البخاري (2896)
عن مصعب بن سعد أن أباه ـ رضي الله تعالى عنه ـ سعد بن أبي وقاص رأى لنفسه فضلًا على من دونه، أي في الجهاد والقتال، وقد جاء ذلك مفسرًا فيما رواه الإمام أحمد في مسنده أن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم يعني في الجهاد والقتال، فله بلاء حسن، وقوة، ودفاع أيكون سهمه وسهم غيره سواء؟ يعني يستوي هو وغيره فيما يكون من نصيبهم في الغنيمة وسهامها؟
فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «هَلْ تُنْصرُونَ وتُرْزَقُونَ إلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ»فأجاب ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجاب سعدًا ببيان فضل الضعفاء في القتال، وان لهم غناء من جهة أخرى غير القوة البدنية وهي قوة القلب في الرغبة فيما عند الله ـ عز وجل ـ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «هَلْ تُنْصرُونَ وتُرْزَقُونَ إلاَّ بِضُعَفَائِكُمْ»، وذلك بما يكون منهم من دعاء، وإنابة، وإقبال على الله ـ عز وجل ـ وإلحاح، وافتقار، وتواضع، وانكسار، وذل يوجب ما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نصر الله ـ عز وجل ـ ورزقه، فقوله: "هل تنصرون" هذا استفهام إنكاري أي لا يقع لكم النصر والظفر والرزق إلا بضعفائكم أي بسببهم، وما يكون من صلاتهم، ودعائهم، وصالح أعمالهم، وافتقارهم إلى الله عز وجل.
فرد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على سعد ما رآه من فضل على غيره من الضعفاء بهذا التوجيه ولفت النظر إلى أمر خفي لا يأبه له، ولا ينظر إليه، وهو من أسباب النصر والرزق، ومن أسباب الظفر والسبق، وهو ما في القلوب من الفاقة إلى الله ـ عز وجل ـ فلا يغني عن الله عز وجل قوة قوي ولا قدرة قادر إنما الكل بالله، ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾[الأنفال:17]، والله يقسم أرزاق الناس على وفق ما تقتضيه حكمة فيعطي هذا قوة، ويعطي هذا عقلًا، ويعطي هذا قلبًا سليمًا منكسرًا وكل ذلك من رزق الله الذي يتفاوت به الناس، فلا يتفاضلون في الجهاد بسهامهم بناء على ما عندهم من القوة.
وقد جاء عن أبي الدرداء ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهذا الحديث رواه البخاري مرسلًا، وقد جاء معناه عن أبي الدرداء ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «ابْغُوني الضُّعَفَاء»أبغوني أي اطلبوا رضاي في ضعفائكم، وقيل: معنى أبغوني ضعفائكم أي أتوا بهم لأكتبهم وأعطيهم ما أعطي الأقوياء في الجهاد، ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فَإنَّمَا تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ، بِضُعَفَائِكُمْ»سنن أبي داود (2594), سنن الترمذي (1702) وهذا بيان أن اصطحاب الضعفاء في مواطن طلب النصر من هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ولهذا استحب العلماء في الاستسقاء أن يخرج المسلمون ومعهم الضعفاء من الشيوخ وذوي الفاقة والحاجة والصبيان الذين يصلون، وقال بعضهم: بل يخرج الناس حتى ببهائمهم إظهارًا للفاقة والضعف والافتقار إلى الله جل وعلا.
هذان الحديثان فيهما جملة من الفوائد، من فوائدهما:
فيه: أن لا ينظر الإنسان إلى ما معه من الفضل ويغفل فضل غيره، وأنه ينبغي له أن لا يحقر أحدًا مهما كان في نظره ضعيفًا، فإنه قد يكون خيرًا منه عند الله ـ عز جل ـ ويكون سببًا لتحصيل المطلوب بغير ما عنده من الفضل.
وفيه: أن أعظم ما يدرك به الناس الرزق والنصر أن لجأ إلى الله ـ عز وجل ـ فإنه قال ـ صلى الله عليه وسلم: "إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم" وهذا حصر. وفي الرواية الأخرى قال: "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم".
وفيه: فضل الضعفاء والضعف هنا ليس ميزة يمدح بها الإنسان في بدنه، إنما المقصود الضعف الذي يوجب الانكسار والافتقار إلى الله ـ عز وجل ـ وإلا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيف، وفي كُلٍّ خَيْر»صحيح مسلم (2664)، فالضعف هنا ليس المقصود به ضعف البدن إنما ما يرافق ذلك من انكسار القلب وافتقاره إلى الله جل وعلا.
- وفيه: أنه إذا أخطأ الفاضل فظن لنفسه فضلًا على غيره ينبه، ويشار إلى ما غفل عنه فإن ذلك من النصيحة.
- وفيه: أن النصر والرزق له أسباب فينبغي أن يأخذها الإنسان، وأن يعتني بها وأن لا يغفل عن سبب من أسباب النصر، فقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾[الأنفال:60]،لكن في هذا الحديث يقول: "أبغوني ضعفائكم" فينبغي أن يأخذ كل الأسباب المفضية إلى النصر، وإلى تحقيق المطلوب والسبب فلا يشتغل بسبب عن سبب بل يجمع الأسباب ما استطاع منها لتحقيق مطلوبه، وتحصيل غايته.
- وفيه أن الناس لا حول لهم ولا قوة إلا بالله ـ عز وجل ـ كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾[الأنفال:17] طيب الأسباب لا قيمة لها؟
الجواب بلى، لها قيمة، ولها أثر في تحصيل المطالب لكن ينبغي أن لا يلتفت القلب إلى الأسباب إنما يلتفت ويعتصم ويلتجئ ويتعلق بمسبب الأسباب الذي إذا أراد شيئًا إنما يقول له كن فيكون، فالأسباب هي وسائل وأدوات لتحقيق المطلوب؛ لكن قد يأخذها الإنسان ولا يدرك مطلوبه، إنما يكون الشيء بالله فلا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واستعملنا فيما تحب وترضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.